للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع

شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
في التربية بسفر البحر
يوم ١٤ مارس سنة - ١٨٦
اضطرتنا الريح إلى أن نجتاز خليج بسكاي [١] وقد أكد لي الربان أنه وأمثاله
يتحامون ما استطاعوا التورط في هذا المجاز الذي يهاب اسمه الملاحون أنفسهم،
وهو على شدة تلاطم الأمواج فيه لم يعق السفينة عن المسير , وربما حدا بي ذلك
إلى اعتقاد أن من البحار ما هو كبعض الناس في كونها أمثل مما اشتهرت به.
منذ بضعة أيام أتيح لي فراغ من عملي فشغلته بدرس سفينتنا , فإذا هي دنيا
صغرى تطفو على الماء جعلتها جميع العلوم والصنائع ميقاتًا لاجتماعها. ترى
الملاح فيها يلجئه عوزه إلى استئناف التمدن كل يوم فكأنه روبنسن [٢] في جزيرته
يخترع معظم الفنون النافعة ليستفيد منها. ذلك أنه لخلوه من الصاحبة يتولى بنفسه
غسل ثيابه وفرشه وإصلاحها، وتدلك نظافة حجرته دلالة كافية على ما سيكون
عليه بيته الخلوي في مستقبله، فقد أوتي هذا الليث البحري من غرائز العناية
بالبيت ما أوتيته النملة.
من مزايا السفينة أيضًا أنها تؤدي إلى كل من ترتاح نفسه للعمل من ركابها
عملاً يشغله فقد عاود (قوبيدون) الاشتغال بالطهاية التي سبق له أن شرف بإجادتها
في أسفار سالفة وجعلت زوجته قهرمانة [٣] واختصت (هيلانه) بمساعدتي في
التمريض , وبالعزف على البيانو تسرية للسآمة عن المسافرين , وتقوية لقلوبهم
وقلوب الملاحين أنفسهم الذين يجتمعون كل ليلة على السطح لاستماعه.
جاز (أميل) التمرينات الأولى , وصارت قدمه قدم بحار, وأنشأ يتسلق سلالم
الحبال التي على جانبي السفينة، وهو يؤدي الأعمال التي يعلمه الملاحون تأديتها
بما يكفي من الحذق المنتظر من غرٍّ مثله. ومعيشة المتعلمين البحريين أمثاله في
سفينة تجارية على ما فيها من النَّصَب والعناء معيشة صحية , فإن تعرضه لنسيم
البحر يشهي إليه الطعام حتى إنه ليكاد يلتهم حوتًا من الحيتان المسماة بالكلاب
البحرية لو قدم إليه , ولله خفته ونضارته في قميصه الأزرق ذي الطوق المنكسر
الذى يبين نحره. جاءني غدوة اليوم إثر عمل شاق بالنسبة لطفل مثله، وألقى
برأسه بين ركبتي وهو يتصبب عرقًا , فأحببت أن أشجعه لا أن أطريه؛ لأن
الإطراء هو سم النفوس يفرط فيه الآباء لأبنائهم بما يبعثهم عليه من الرحمة العمياء ,
فهم بذلك يعودونهم على إرضاء غيرهم، وكان حقًّا عليهم في رأيي أن يعلموهم
إرضاء وجدانهم. من أجل هذا اقتصرت على ضم ولدي إلى صدري وتقبيله غير
أني أحسست حينئذ بالعبرة في عيني، وهو على كل حال قد اعتبر هذه الملاطفة
مني مدحًا له لأنه انصرف من عندي للمضي على عمله مملوء القلب بالفرح، ولا
أخال أحدًا ينكر استحقاقه لهذا المدح أي لتلك الملاطفة.
ليس في السفينة أحد إلا وهو يهتم بأن يكون نافعًا من جهته حتى (لُولا) فقد
فاجأتها بالأمس , وبيدها كتاب كانت تطلع عليه طفلة في الخامسة من عمرها
اتخذتها صديقة وتعلمها فيه الهجاء اهـ.
***
يوم ١٩ مارس سنة -١٨٦
نحن الآن تجاه جزيرة ماديرا تجري بنا السفينة بريح طيبة كانت من بداية
سفرنا تهب من الشمال الشرقي، وقد أحدقت بنا في هذا المكان قطعان عديدة من
الخنازير البحرية , وأنشأت تمرح في الماء وتلهو بالزبد المتخلف على غوارب
الأمواج من انشقاقها بحَيْزُوم السفينة في مسيرها، فبادر جميع الركاب إلى السطح
لمشاهدتها، وكان من (لولا) عندما رأتها أن قالت: ويكأن هذه الحيوانات مغتبطة
بمعيشتها , وكأنها لم تصب بمرض البحر في حياتها.
استعد ضباط السفينة لصيدها فوقف أحدهم عند الساري المقدم , ورمى خطافًا
كان معه على واحد منها ظن أن إصابته أيسر , وحينئذ جر الملاحون الحبل المعلق
به الخطاف , وهم في هذه الحالة يجب أن يكونوا خفاف الأيدي أشداء السواعد وإلا
وجد الخنزير المصاب وسيلة للرجوع إلى الماء والانفلات من أيديهم، وقد نجحوا
في الرمية الثانية فاصطادوا أحدها، ومما شاهدته فيه أن كبده يشبه كبد الخنزير
البري , ولحمه أقل جودة من لحم الثور , على أنه يحضره في الذهن إن لم يكن
بطعمه فبلونه لأنه أحمر ضارب إلى السواد، ويستخرج من لحمه زيت جيد
للاستصباح يستعمل في السفينة. اهـ
***
يوم ٢٢ مارس سنة -١٨٦
نحن الآن مارون أمام الجزائر الخالدات، وإن كنا لم نرها وهي مرتسمة على
سطح الماء المتسع إلا كرؤيا الحالم، وقد اضطرتنا الرياح المتعارضة إلى التوغل
في المحيط.
إننا منذ سفرنا نشعر بارتفاع الحرارة ارتفاعًا عظيمًا غير أن هذا اليوم هو
أخص يوم أحسسنا فيه بدخولنا إقليمًا غير إقليمنا حتى إن (لولا) نفسها على ما بها
من شدة التأثر بالبرد خلعت ثياب الشتاء وارتدت ثوبًا ورديًّا.
كان غروب الشمس بالأمس من أجلّ المناظر وأبهاها، وكان الليل فخيمًا ,
والقبة السماوية المظلمة تزهو بلألاء النجوم التي هي كالرمل عدًّا. وما لي وذكر
أسمائها , فلا فائدة في ذلك ويكفيني أن أسميها بالنور، ومما ميزناه منها الزهرة
التي مع كفها عن دعوى الألوهية واقتناعها بأن تكون في مصف الكواكب لم يضل
عنها ميلها إلى التغنج النسوي , فلا تزال تحب أن ترى نفسها في مرآة البحر.
في نحو الساعة الرابعة أو الخامسة من الغداة انشق النطاق الأسود الذي كان
مشدودًا حول الأفق يلأم السماء بالماء رويدًا رويدًا، ثم بدا من بين حافتيه ضوء
مخضر يحاكي ماء البحر في لونه , فانتشر على الأمواج وهو ضوء الفجر،
وساعة طلوع الفجر في العروض التي نحن فيها الآن من الساعات المشهورة على
قصرها وقصر مدة الشفق أيضًا، فإنه يخيل للرائي فيها أن العالم بأسره مضاء
بالكهرباء , وربما كان قصر مدة الشفقين سببًا في ذلك.
مما حملناه معنا في السفينة ديك صغير وضعناه مع دواجن أخرى في أحد
أقفاصها أسمعنا صياح التنبيه والإيقاظ ثلاث مرات، فكان لصوته الشبيه بصوت
البوق في نفوسنا تأثير محزن قابض بسبب أحوال الغربة التي نحن فيها، وكان
يسري إلى القلوب بلا عائق لأنه كان يذكر المسافرين بأورباهم القديمة وأراضيها
ومعيشة المزارع، وما يعالجه المزارعون من الأعمال الشاقة.
ثم تتابع انمحاء الكواكب من السماء فأخذت تنطوي في أعاليها وتصطبغ
باللون الأزدرختي.
ثم أشرقت الشمس فإذا الأمواج أنفسها وقد ملكها الإجلال وتولاها الإعظام
يخيل أنها خشعت لهذا الينبوع الذي هو مصدر الضياء والحياة , وصارت السماء
كلها جذوة نار، وترقرقت سبحات من النور الذهبي على صدر المحيط الذي برزت
منه الأرض بالتدريج تتلألأ بهاء ونضرة.
لم يقع بصري على (أميل) و (لُولا) معًا إلا في هذه الساعة وحدها من
النهار , رأيتهما جاثيين جثية عبادة واستغراق في المشاهدة، فليت شعري هل
اقترب كلاهما في تلك الساعة من إدراك معنى الألوهية بمراقبة جمال الكون وبهائه؟
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))