للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آثار علمية أدبية

(كمال العناية بتوجيه ما في] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [[*] من الكناية، وبحث
علم النبي بالغيب)
مؤلف هذه الرسالة السيد أحمد رافع الطهطاوي أحد علماء الأزهر الأسبق ,
والسيد علي الببلاوي شيخ الأزهر لهذا العهد , والشيخ عبد الرحمن الشربيني أعلم
علماء الشافعية بلا خلاف , وغيرهم من أكابر علماء الأزهر كالمرحوم الشيخ حسن
الطويل والشيخ حمزة فتح الله مفتش العربية في نظارة المعارف والشيخ محمد
بخيت وغيرهم , ولما نشرنا مسألة علم النبي الغيب في المسائل الزنجبارية كتب
إلينا مؤلف هذه الرسالة كتابًا يؤيد فيه رأينا , ويقول إنه سبق له تفنيد زعم من يقول
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على علم الغيب كله، في رسالته هذه , وأهدانا
نسخة منها فإذا هو يقول في أول هذا المبحث ما نصه:
(تنبيه مهم) قد علمت أنه لا صفة لغيره تعالى تماثل صفة من صفاته جل
وعلا , فليس لغيره علم محيط بجميع المعلومات كما قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: ٢٥٥) أي لا يعلم أحد كنه شيء من
معلوماته تعالى إلا ما شاء الله أن يعلم وقال تعالى لأعلم الخلق: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي
عِلْماً} (طه: ١١٤) وقد ذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب
الزيادة في شيء إلا في العلم , وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم انفعني بما
علمتني , وعلمني ما ينفعني , وزدني علمًا , والحمد لله على كل حال) . قال
العلامة الملوي في شرحه الكبير على السلم: قلت: وهذا صريح في الرد على من
ادعى أن علم النبي صلى الله عليه وسلم مساوٍ لعلم الله تعالى محيط بكل شيء من
كل وجه إحاطة كإحاطة علم الله تعالى , وأنه ما توفي حتى أعلمه الله تعالى كل
شيء علم إحاطة , وقد ألف شيخ شيخنا العلامة اليوسي تأليفًا في الرد على من زعم
ذلك وتكفيره , واستدل على ذلك بأدلة عقلية ونقلية. كيف وهو مصادم لقوله تعالى:
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: ٥٩) وقوله تعالى: {وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: ١٨٨)
الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان:
٣٤) وعلى القول بأنه تعالى أعلمه صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب فليس علم
إحاطة كعلمه تعالى , وهو مصادم أيضًا للإجماع.
على أن سر القدر لم يعلمه ولا يعلمه نبي مرسل ولا ملك ولا غيرهما , بل
هو من مواقف العقول , ويلزم أن يكون علمه صلى الله عليه وسلم مساويًا لعلم الله
ومماثلاً له في الإحاطة والحقيقة , فيلزم حدوث علمه تعالى للمماثلة؛ لأنه يجب
لأحد المثلين ما وجب للآخر , بل ويلزم سائر لوازم العلم الحادث من العرضية
والافتقار وغيرهما , ولا يجاب بالاختلاف بالقدم والحدوث لأن القدم والحدوث
خارجان عن حقيقة العلم , والحقيقة لا تختلف باختلاف العوارض. وأما مع عدم
ادعاء المساواة لعلم الله تعالى كأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم علم
الأولين والآخرين , فلا يمتنع لأن ذلك ليس مستلزمًا لمساواته لعلم الله تعالى
والإحاطة من كل وجه , ومن أقوى ما يرد على هذا ما ورد في الحديث من أنه
صلى الله تعالى عليه وسلم يلهم في الآخرة محامد يحمد بها الله عز وجل لم يكن
ألهمها قبل , لكن شيخ شيخنا بالغ في القول بتكفيره , والذي يظهر عدم التكفير؛
لأن هذه اللوازم بعيدة لا يقول بها هذا القائل , ولازم المذهب ليس بمذهب خصوصًا
إذا كان اللازم بعيدًا اهـ ببعض اختصار. وإنما كانت هذه اللوازم بعيدة لأنها
مأخوذة من مقدمة أجنبية؛ وهي أنه يجب لأحد المثلين ما وجب للآخر فلا يلزم من
تصور مساواة علم النبي صلى الله عليه وسلم لعلم الله تعالى في الإحاطة تصورها
كما ذكرته في كتابي (الطراز المعلم) وقد عرَّفوا اللازم البعيد بأنه ما لا يلزم من
تصور ملزومه تصوره , والقريب بأنه ما يلزم من تصور ملزومه تصوره.
والتحقيق الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم لم يفارق الحياة الدنيا حتى أعلمه الله
تعالى بالمغيبات التي يمكن البشر علمها , وعلمه بها لا كعلم الله كما سترى فلا
يجوز القول بأنه مساوٍ له فاعرف ذلك , وفي كلام العلامة أبي محمد الأمير موافقة
لكلام اليوسي حيث قال عند بيان أن علمه تعالى محيط بما هو غير متناهٍ كالأعداد
ونعيم الجنان أي فإنه لا يتناهى بمعنى أنه لا ينقطع أبدًا ما نصه: (وكون العلم
بالكمية يقتضي التناهي إنما هو في حق الحوادث لضيق دائرة العلم الحادث وقصر
تعلقه، وأما العلم القديم فتعلقه عام لا يتناهى فيتعلق تفصيلاً بما لا يتناهى) اهـ.
ووراء هذا مباحث طويلة في حقيقة علم الغيب ومفاتح الغيب، والخلاف فيما
يجوز أن يعلمه غير الله تعالى، وأكثرها مبنية على ما اعتاده المتأخرون من التعليل
والتأويل والتقييد والتخصيص والاحتمالات مما لا حاجة لأكثره , ولا يترتب على
الخلاف فيه فائدة , أما وعندنا الأصل اليقيني المتفق عليه المنصوص في كتاب الله
تعالى وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله , وأن الله تعالى يظهر من شاء على ما شاء ,
ولكن لا يجوز لنا أن نتحكم برأينا فنقول: إنه أطلع فلانًا على مفاتح الغيب أو على
علم الساعة ونحو ذلك إلا بنص قطعي يخصص نص القرآن القطعي والله أعلم.
***
(تأسيس النظر وأصول الكرخي)
سبق لنا تقريظ هذا الكتاب ورسالة أصول الكرخي المطبوعة معه في المجلد
الخامس , وإننا ننقل الآن ما ذكره الدبوسي مؤلف الكتاب في الفرق بين دار الإسلام
ودار الحرب لتوضيح ما تقدم في بحث الحكم بالقوانين الذي سنزيده بيانًا بعد , قال:
دار الإسلام ودار الحرب
الأصل عندنا أن الدنيا كلها داران: دار الإسلام ودار الحرب، وعند الإمام
الشافعي الدنيا كلها دار واحدة , وعلى هذا مسائل، منها: إذا خرج أحد الزوجين إلى
دار الإسلام مسلمًا مهاجرًا أو ذميًّا , وتخلف الآخر في دار الحرب، وقعت الفرقة
عندنا فيما بينهما، وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا تقع الفرقة بنفس الخروج.
ومنها: إذا أخذوا أموالنا وأحرزوها بدار الحرب ثم أسلموا عليها وهي في أيديهم
كانت لهم ملكا وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا يملكونها، وكان عليهم ردها إلى
أربابها. ومنها ما قال أصحابنا: إن المسلمين إذا استنقذوا من أيدي المشركين ما
أخذوا من أموالنا لا يأخذها أصحابها إلا بالقيمة إذا وجدوها بعد القسمة عندنا، وعند
الإمام الشافعي يأخذونها بغير شيء، ومنها أن أهل الحرب لو أخذوا من أموالنا عبدًا
ثم دخل إليهم مسلم بأمان فاشتراه منهم وأخرجه إلى دار الإسلام فإنه لا يأخذه
صاحبه إلا بالثمن وإن وهب له منهم يأخذه بالقيمة , وعند الإمام الشافعي يأخذه بغير
شيء. ومنها: أن الحربي إذا أسلم في دار الحرب ثم خرج إلينا وترك ماله , ثم
ظهر المسلمون على دارهم؛ كان جميع ماله غنيمة عندنا لأنه وقع بينه وبين ماله
مباينة الدارين , وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا يكون غنيمة، ولو أسلم ولم
يخرج إلينا حتى ظهر المسلمون عليهم؛ كان عقاره غنيمة لنا , وعند الإمام الشافعي:
لا يكون غنيمة. وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الآبق إليهم: إنهم لا
يملكونه بالأخذ لأنه لما أبق صار في يد نفسه في دار الحرب لأنهم لا يملكون قهره
وعارض يد قهر مولاه قهر نفسه وعصيانه , وعند صاحبيه ملكوه , ومنها ما قال
أصحابنا: إن دار الحرب تمنع وجوب ما يندرئ بالشبهة لأن أحكامنا لا تجري في
دارهم وحكم دارهم مخالف لحكم دارنا وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: عليه
القصاص , وعلى هذا قال أصحابنا: لو دخل مسلمان مستأمنان في دار الحرب
فقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه، وعند الإمام أبي عبد الله: عليه
القصاص، وكذلك قال أصحابنا في أسيرين مسلمين في دار الحرب قتل أحدهما
صاحبه: لا قصاص على القاتل عندنا , وعند الإمام الشافعي: على القاتل
القصاص , وعلى هذا قال أصحابنا: لو شرب المسلم الخمر أو زنا أو قذف في دار
الحرب: لا حد عليه عندنا , ويجب عند الإمام الشافعي عليه الحد) اهـ وفيه
التصريح بأن أحكامنا لا تجري في دارهم، فما بقي على المسلم الذي يرى من
المصلحة للإسلام العمل في حكومة الحربي إلا أن يراعي مصلحة المسلمين إذا هو
حكم بالقوانين.