للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

التربية بسفر البحر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم ١٤ مايو سنة - ١٨٦
انتهينا من الطواف بالرأس , ولكن ما أعظم ما بذلنا في سبيل ذلك من الجهد,
وما أشد ما عانينا من المشاق. فقد كانت الريح تزفزف ثلاثة أيام وثلاث ليال
زفزفة بلغت من الشدة إلى حد أن ساري سفينتنا الأكبر كان فيها يتنوّد تنوّد القصدة
من يبس الحشيش.
لم يكن يؤلمنا على ظهر السفينة سوى أيدي البحارين في ممارسة أعمالهم ,
وما كان أشدني إعجابًا في نفسي بسيرتهم في تلك الساعات التي قضيناها في مكافحة
البحر ومغالبة الخطر، فليست بسالة الملاح من قبيل بسالة الجندي، ولكنها تفضلها
في رأيي لأن الملاح بما له من الجرأة على الموجودات والفواعل الكونية يكافح
الموت مواجهة فلا يحول بينهما إلا سُمك لوح من الخشب , وليس غرضه من
الكفاح إبادة نظرائه بل هو في مدافعة عن حياته يعمل لتنجيتهم من الهلاك وناهيك
بالبحر عدوًّا أوتي من العدد ما هو أشدها رهبة في العالم بأسره، فإنك ترى السفينة
على وهنها وكونها ليست إلا دولابًا من الخشب تطاردها الريح والبرد والبرق
وجبال من الموج , فهي في الحقيقة تقاوم قوى كون من الأكوان برمتها.
ولا مشابهة أيضًا بين قدر الملاح وبين ما يفاخر به السفسطي من اجترائه
على معاندة القدر باستدلالاته الدقيقة اجتراءً باردًا خاليًا من العمل , هيهات فإن قدر
الملاح هو ما يتجلى في عمله من قوة نفسه وهمتها فتراه مع استعانته بربه
لاستمساكه بدينه لا يعتمد بعد ذلك إلا على نفسه أعني على صحة بصره، وضبط
حركاته وقوة أعصابه فإن قهره عدوه سلم إليه , ولكن هذا لا يكون إلا بعد أن يرى
آخر سلاح له قد تحطم.
تلك البسالة تكتسب بالتعلم، وهذه الثقة بالنفس تسري بالمعاشرة، يدلك على
ذلك أن (أميل) كان في أول عهده بالملاحة شديد الروع فما لبث أن ذهب عنه
روعه بالتأسي برفقائه؛ لأنه كان يرى من العار أن يرتجف فؤاده وتتزلزل قدماه
أمام هؤلاء الأبطال وهم ثابتون في مواطنهم. كانوا يشغلون حينًا بعد حين بإدارة
الممصات (الطلمبات) ومعالجة الحبال , فلا شيء كالعمل البدني في تقوية القلب ,
فبطالة المسافرين هي التي عند أدنى هيعة تملأ قلوبهم بالمخاوف وأدمغتهم
بالخيالات، وأما الملاح فليس للخوف متسع في وقته.
من مزايا الملاحة أيضًا أن ما فيها من مكافحة الخطر ينمي في قلوب الملاحين
حب الحياة , فمن ذا الذي كان يحسب أن الانتحار لا يكاد يكون معروفًا بينهم.
الضجر من الحياة من مميزات العصور الحديثة، وهو أخوفها عندي على
الشبان، وأشدها إيلامًا لنفسي؛ فإني أرى الأطفال يولدون غير مبالين بشيء
سائمين من كل شيء خامدي الإحساس ميتي القلوب، فكم من فتاة إذا انكشف لها
وهمها لأول مرة فيما كانت تعتقده واقعًا تمنت لو أنها ماتت قبل انكشافه. وكم من
فتى كسول لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ولم يعامله الجد إلا معاملة الغلام
العارم يصيح قائلاً: (ما فائدة الحياة) وليس من غرضي هنا أن أبحث عن أسباب
هذه المصيبة الملمة بالنفوس والأخلاق , وإنما غرضي أن أقول لكل هؤلاء
المتبرمين: (انظروا إلى الملاح؛ تجدوا أنه هو الذي عرف قيمة الحياة لأنه في
كل يوم يذود عنها أخطارًا حقيقية لغاية نافعة وبذلك صار أهلاً لأن يقدرها حق
قدرها) .
من أجل هذه الأسباب كلها أرى أن (أميل) الآن في ولاية معلمين حاذقين.
وأما (لولا) فإنها - والحق يقال - لم تُبدِ من البسالة شيئًا يذكر لأنها لبثت
مختبأة في إحدى زوايا حجرتها فكانت كالنعامة التي يؤكد العارفون بأخلاقها أنها
تتوهم أن غمر رأسها في الظلام منجاة لها من الخطر الملم بها، وذلك ما اضطر
هيلانة إلى أن تكون قدوة لها في الإقدام تسكينًا لروعها , وكان هذا موجبًا للإعجاب
بها بحق
شجاعة النساء المحمودة
من الخطأ أن يتوهم متوهم أن لا فائدة في الشجاعة للنساء؛ فإنه إن كان يريد
بها الشجاعة الحربية فإني قليل الاعتداد بها في الرجال فأكون أقل اعتدادًا بها في
المرأة المترجلة، ولكن لا يعزب عن ذهنه أنه يوجد من ضروب الأقدار غير واحد
فإن النساء مستهدفات للمخاطر التي نحن عرضة لها ومضطرات لمغالبة ما نغالبه
من حوادث الكون الخارجي , وقد يوجد من الأحوال ما تتوقف حياتهن فيها بل
وحياة أطفالهن على سكينتهن ورباطه جأشهن , فقوة العزيمة وثبات الجنان هما من
الأخلاق اللازمة للمرأة لزومهما للرجل.
من المصائب أن تسوء تربية الفتيات إلى حد أن يتوهمن أن تكلف ضروب
الفزع القاتل عند كل مناسبة خصوصًا بحضرة الشبان مما يلفت الأنظار إليهن
فيقول من يراهن في هذه الحالة: إنهن يقصدن أن يظهرن في شكل الحمائم
المروعة، ويجمل أن يوعظن بأن الخوف لا حسن فيه مطلقًا، وأنه يجب عليهن
لأنفسهن إذا أحدق بهن الخطر أن يجتهدن في استشعار الاطمئنان والسكينة إن كن
يردن أن يصرن مثارًا للإعجاب والاستحسان. ولا صحة لما يعتقدنه على ما يظهر
من أن ثبات جنان المرأة يسيء خلقها، بل إني أجد جمالاً وشرفًا فائقين في تلك
الذات إذا كانت مع تجردها من القدرة على المهاجمة بل ومن قوة المدافعة، تقتحم
الخطر بقوة جأش تكافئ قوة الرجل.
أنا أعلم أن من الأوهام السخيفة اعتقاد أن جفاء الطبع من لوازم الشجاعة ,
ولكني أود لو أدري متى شوهد أن الشجاعة الحقيقية غيرت من رقة المرأة ورحمتها
وغير ذلك من فضائلها , حاشاها من هذا، وأن الجبن والأثرة لهما اللذان يوجبان
قسوة القلب وغلظه.
سل أمًّا جبانًا أن تشهد عملاً جراحيًّا يعمل في جسم ولدها لتسليه وتسري من
ألمه تجبك بأنها شديدة الإحساس كثيرة التأثر، وبئس العذر عذرها , فما مرادها إلا
الاحتماء من كلفة التسخير. ثم لا يتخيلنَّ أحد أن قوة العزيمة والسلطان على النفس
أو الشجاعة الحقيقية هي من الأخلاق التي لا ينتفع بها إلا في طائفتين من الأعمال
هما الحرب والملاحة، فإني أرى أن منفعتها تتعدى إلى كثير من الأمور الأخرى لأن
الرجل والمرأة مهددان كل يوم في القوم الذين يعيشان بينهم بآلاف من الأعداء
والمعاطب , ولأن البحر لا يقصد إلا إزهاق أرواحنا وما أكثر ما يعرض لنا من
الأحوال الخطرة التي يقصد فيها نقص أعراضنا والذهاب بحرماتنا. اهـ
***
يوم ٢٠ مايو سنة - ١٨٦
تشق سفينتنا (المونيتور) بجلالة خطرها عباب أمواج المحيط الهادي ,
وتتخذ لها فيه سبيلاً , وقد عادت (لولا) بعد زوال الخطر إلى ما كانت عليه من
الابتهاج والسرور فهي تمرح وتعدو على ظهر السفينة مع ما لها من الحركات
حافظة لتوازنها , وتبدو قدماها الصغيرتان في خببها من تحت حلتها كأنهما فأرتان.
اهـ
***
يوم ٢٥ مايو سنة -١٨٦
رسونا غداة اليوم في جوان فرناندز لضبط مقياس الزمن (الكرونومتر) .
وهذه البقعة مركبة في الحقيقة من ثلاث جزر يتألف منها مجموع متلاصق الأجزاء ,
وتسمى الأولى منها (ماساتيرا) والثانية (ماسافويرا) والثالثة (إسلادولوبوس) ,
وهي صخرة تكاد تكون جرداء أكثر الثلاثة تطوحًا نحو الجنوب , ويلقبها الملاحون
بجزيرة القيطس (عجل البحر) لأن القياطس تأوي إليها طلبًا للراحة والدفء.
الجزيرتان الأوليان ماستيرا ومسافويرا معشوشبتان شجراوان , ومع اجتهاد
الحكومة التابعتان لها في تعميرهما لا تزال قفرًا لا يعمرهما إلا المعز الوحشية،
وهي كثيرة فيهما , ويقال: إنها كانت تزيد عن ذلك لو لم تسلط عليها كلاب وحشية
مثلها تقاتلها وتفترسها. وليت شعري إلى أي حالة تصير هذه الكلاب إذا أبادت
جميع ما هنالك من المعز؟ لابد أن يأكل بعضها بعضًا.
وجزيرة جوان فرناندز تذكر بواقعة عظيمة جرت فيها وهي:
إنه في سنة ١٧٠٤ رسا الملاح الإنكليزي دامبير على ماستيرا , فألقى فيها
وكيله على القوارب المدعو إسكندر شالكرك إثر مشاجرة احتدمت بينهما ترك هذا
التعيس في هذه الجزيرة القفر غير مزود إياه إلا بشيء يسير من الغذاء والعدد ,
فعاش هناك أربع سنين وأربعة أشهر من صيده وصناعته , وفي سنة ١٧٠٩ اتفق
لاثنين من صيادي الثيران الوحشية أن نزلا بالجزيرة , فعثرا على ذلك الرجل فرقَّا
لحاله وحملاه معهما إلى أوربا.
وكان شالكيرك قد قيد بعض مذكرات في طريقة عيشته على تلك الجزيرة
البلقع , فاستعان بها دانيال روفويه فيما بعد على تأليف كتابه العجيب الذي عرفه
الناس جميعًا , ولشد ما يبديه الآن (أميل) و (لولا) من الاهتمام بمطالعة وقائع
روبنس كروزويه. اهـ
***
يوم ٥ يونية سنة - ١٨٦
يا بشرى هذه أرض هذه أرض.
بعد أن سافرنا تسعين يومًا دخلنا خليج قلاَّ وهو من أبهى مناظر الدنيا.
وأبصرنا جزيرة لورنز وترتفع حيالنا. أقول: ترتفع وأقل ما في هذا اللفظ أنه
حقيقة في استعماله هنا , فقد نتج من حساب أحد العلماء أن سواحل سان لورنزو
كسواحل الشاطئ المجاور لها ارتفعت عن سطح البحر خمسًا وثمانين قدمًا إنكليزية
من عهد العصور التي يعرفها التاريخ.
صخور هذه الجزيرة يغمرها آلاف مؤلفة من الطيور، أخص بالذكر منها
طيرًا رأسه أسمر إلى السنجابية , وبطنه أبيض ناصع , وذنبه أسود. يقال: إنه
هو الذي يحصل منه أهل الجزيرة على السماد المعروف بالغوانو , وهو ثروتهم
الكبرى لأن الذهب والفضة كادا ينضبان من معادن بلاد البيرو فهي تتسلى عن
الحرمان منها ببيع القذر , ولا غرو فالذهب مُذهب ومُفسد والقذر مُوجد ومُخصب.
اهـ
***
يوم ٦ يونيه سنة - ١٨٦
رسونا في ميناء سيودال دولوس ريس.
أخص ما أدهش (أميل) و (لولا) عند هبوطهما على البر كثرة العقبان
التي تسكن سواحل هذه الجهة , فإنها تُرى عند كل خطوة في الشوارع، وعلى
سطوح المساكن , وقد رأينا منها طائفة تبلغ الستين أو الثمانين نائمة وهى جاثمة
على جدار ورءوسها مختبئة تحت أجنحتها. ذلك أنها ليس من خلقها الجفلان , ولا
تخشى من السكان شيئًا لأنهم يجلونها. هذه الطيور في غاية الشره , وشرهها نفسه
نعمة من نعم الله على أهل تلك البلاد لأنه يساعد على حفظ الصحة في المدن،
وكان (لأميل) فيما أرى أخطاء غريبة في شأنها، فإنه لما سمع الزراية عليها ممن
درسوا أخلاقها في الكتب كان يتخيلها سلابة تسكن الهواء , أكالة دنيئة للرمم , فلم
يمض إلا ساعات قلائل حتى زال الوهم وتبين له خلاف ما كان يتوهمه أنها محتسبة ,
عيَّنها الخالق سبحانه في البلاد الحارة للقيام على تنظيف الطرق العامة , فهي
تنقيها مما يلقى على الأبواب من القمام واللحوم الفاسدة، ومما يطرح فيها من
الجيف، ويدل ما تبديه هذه الطيور من الاطمئنان إلى الإنسان والثقة به حق الدلالة
على شعورها بنفعها له.
المسافة بين قلاو وليما فرسخان أسبانوليان , وسنبلغها غدًا. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))