للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التقريظ

(كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي)
أبو حامد من أكبر أئمة الأشاعرة في الكلام، وكتبه أسهل عبارة وأحسن بسطًا
وتقسيمًا وتحقيقًا من سائر الكتب، فكتابه الاقتصاد من أنفع كتب الكلام وأفيدها،
وفيه مباحث كثيرة لا توجد في كل كتب هذا العلم المعتبرة , وينتقد عليه ما ينتقد
على جميع كتب الأشاعرة من الفلسفة التي لا معنى لها في عقائد الدين , وإن كان
هو أبعد من غيره عن الجمود على المذهب لأنه خالف أصحابه الأشاعرة في بعض
المسائل , وذلك كالبحث في صفات الله تعالى من حيث أنها زائدة على الذات , فإن
الذي ساقه وأمثاله إلى ذلك الجدلَ مع المعتزلة، وما أغنى المسلمين عن المذهبين
والاكتفاء بالوقوف عند ما ورد به الشرع، وقطع به العقل من غير فلسفة فيه.
مثال هذا أن العقل والشرع علمانا أن الله تعالى خالق العالمين عالم بما خلق لا
يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فأي حاجة بنا مع هذا إلى أن
نبحث عن هذا العلم الإلهي هل هو عين الذات الإلهية أم غيرها، أم لا عينها ولا
غيرها , هل عرفنا حقيقة ذات الله وحقيقة علم الله فننسب هذا إلى تلك ونحكم بأن
النسبة بينهما كذا؟
كلا، إنها فتنة ابتلي بها علماء المسلمين إلا من لزم طريقة السلف الصالح من
الصحابة والتابعين إلى عهد الأئمة الأربعة وقد نجا منها الإمام الغزالي بعدما تصوف.
وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغني عنه المشتغل بتحصيل علم الكلام لأنه
من أوضح الكتب وأحسنها , وهو يطلب من الشيخ مصطفى القباني الدمشقي
طابعه في مصر.
***
(كتاب حكمة المخلوقات للغزالي)
التفكر من أفضل العبادات بل هو عبادة النبيين والصديقين والعلماء
الراسخين , والتفكر في حكم المخلوقات يرقي العقل بزيادة العلم والروح بقوة
الإيمان. وهذا الكتاب يفتح لقارئه أبواب التفكر في الخلق بما ينبهه إلى حكمها؛ فمنها
حكم الله في السموات والنيرات، ومنها حكمه في الأرض والبحار والماء
والهواء والنار، ومنها حكمه في خلق الإنسان وأنواع الحيوان، وحكمه في خلق
النبات، فرحم الله أبا حامد، ما أعرفه بطرق النفع وما أحسن بيانه. والكتاب يطلب
من الشيخ مصطفى القباني الذي تولى طبعه وتصحيحه جزاه الله خيرًا.
***
(كتاب أنباء نجباء الأبناء)
مؤلف هذا الكتاب أبو هاشم محمد بن محمد ظفر الصقلي المتوفى سنة ٥٦٥ ,
وهو مبتدأ بنبذة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم , ونبذ أخرى في أخبار بعض
كبار الصحابة، ثم في أخبار بعض الملوك الكبراء وبعض الصالحين، وأخبار
الكتاب كلها تربية مفيدة وفكاهات مستطابة، وإنني قد فتحته الآن لأنقل نبذة من
غير اختيار فإذا أنا قد فتحته على هذه الحكاية قال:
(درتازين، لقرتي عين)
قال الشيخ رحمه الله ورضي عنه: بلغني أن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي
قال: كانت عنابة أم جعفر بن يحيى تزور أمي , وكانت لبيبة من النساء حازمة
فصيحة برزة، يعجبني أن أجدها عند أمي فأستكثر من حديثها , فقلت لها يومًا: يا أم
جعفر , إن بعض الناس يفضل جعفر على الفضل، وبعضهم يفضل الفضل على
جعفر، فأخبريني. فقالت: ما زلنا نعرف الفضل للفضل. فقلت: إن أكثر الناس
على خلاف هذا , فقالت: ها أنا أحدثك واقض أنت , وذلك الذي أردت منها.
فقالت: كانا يومًا يلعبان في داري، فدخل أبوهما فدعا بالغذاء وأحضرهما , فطعما
معه , ثم آنسهما بحديثه، ثم قال لهما: أتلعبان بالشطرنج؟ فقال جعفر - وكان
أجرأهما -: نعم. قال: فهل لاعبت أخاك بها؟ قال جعفر: لا. قال: فالعبا بها
بين يدي لأرى لمن الغلب , فقال جعفر: نعم. وكان الفضل أبصر منه بها , فجيء
بالشطرنج فصفت بينهما , وأقبل عليها جعفر وأعرض عنها الفضل , فقال له
أبوه: ما لك لا تلاعب أخاك؟ فقال: لا أحب ذلك , فقال جعفر: إنه يرى أنه أعلم
بها فيأنف من ملاعبتي، وأنا ألاعبه مخاطرة، فقال الفضل: لا أفعل، فقال أبوه:
لاعبه وأنا معك. فقال جعفر: رضيت , وأبى الفضل واستعفى أباه فأعفاه. ثم
قالت لي: قد حدثتك فاقض. فقلت: قد قضيت للفضل بالفضل على أخيه، فقالت:
لو علمت أنك لا تحسن القضاء لما حكمتك , أفلا ترى أن جعفرًا قد سقط أربع
سقطات تنزه الفضل عنهن. فسقط حين اعترف على نفسه بأنه يلعب بالشطرنج،
وكان أبوه صاحب جد. وسقط على التزام ملاعبة أخيه وإظهار الشهوة لغلبه
والتعرض لغضبه. وسقط في طلب المقامرة وإظهار الحرص على مال أخيه.
والرابعة قاصمة الظهر حين قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك، فقال أخوه: لا،
وقال هو: نعم , فناصب صفًّا فيه أبوه وأخوه. فقلت: أحسنت والله، وإنك
لأقضى من الشعبي، ثم قلت لها: عزمت عليك أخبريني هل خفي مثل هذا على
جعفر وقد فطن له أخوه؟ فقالت: لولا العزمة لما أخبرتك. إن أباهما لما خرج
قلت للفضل خالية به: ما منعك من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك؟ فقال:
أمران؛ أحدهما لو أني لاعبته لغلبته فأخجلته، والثاني قول أبي: لاعبه وأنا
معك. فما يسرني أن يكون أبي معي على أخي. ثم خلوت بجعفر فقلت له: يسأل
أبوك عن اللعب بالشطرنج فيصمت أخوك وتعترف وأبوك صاحب جد. فقال:
سمعت أبي يقول: نعم لهو البال المكدود , وقد علم ما نلقاه من كد التعلم والتأدب،
ولم آمن أن يكون بلغه أنَّا نلعب بها ولا أن يبادر فينكر , فبادرت بالإقرار إشفاقًا
على نفسي وعليه. وقلت: إن كان توبيخ فديته من المواجهة به , فقلت له: يا بني
فلمَ تقول: ألاعبه مخاطرة كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله؟ فقال: كلا , ولكنه
يستحسن الدواة التي وهبها لي أمير المؤمنين , فعرضتها عليه فأبى قبولها ,
وطمعت أن يلاعبني فأخاطره عليها وهو يغلبني فتطيب نفسه بأخذها. فقلت لها:
يا أماه ما كانت هذه الدواة؟ فقالت: إن جعفرًا دخل على أمير المؤمنين فرأى بين
يديه دواة من العقيق الأحمر محلاة بالياقوت الأزرق والأصفر , فرآه ينظر إليها
فوهبها له. فقلت: إيه. فقالت: ثم قلت لجعفر: هبك اعتذرت بما سمعت، فما
عذرك من الرضا بمناصبة أبيك حين قال: لاعبه وأنا معك، فقلت أنت: نعم،
وقال هو: لا؟ قال: عرفت أنه غالبي ولو فتر لعبه لتغالبت له مع ما له من
الشرف والسرور بتحيز أبيه إليه. قال محمد بن عبد الرحمن: فقلت: بخ بخ ,
هذه والله السيادة. ثم قلت لها: يا أماه أكان منهما من بلغ الحلم؟ ! فقالت: يا بني
أين يذهب بك؟ أخبرك عن صبيين يلعبان فتقول: كان منهما من بلغ الحلم؟ لقد
كنا ننهى الصبي إذا بلغ العشر وحضر من يستحي منه أن يتبسم.
(المنار)
فليتأمل هذه التربية العالية الذين يتبجحون بلفظ التربية اليوم , ويقولون: إن
المسلمين في أيام مدنيتهم لم يكن لهم عناية بالتربية، إذ لم نجد في كتبهم لهجًا بها
(أي بلفظها) فأين يوجد مثل هذه التربية عند معاصرينا اللاهجين بالكلمة الشريفة
وما اشتق منها.