للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مواقيت العبادة من الصلاة والصيام والحج

بعث الله خاتم النبيين للناس كافة , ومنهم البدو والحضر والأميون والمتعلمون
والمنفردون والمجتمعون، وقد ساوى سبحانه في هذا الدين الأخير بين الناس في
التكليف، فلم يجعل فيه رؤساء ومرؤوسين يكلف بعضهم بما لا يكلف به الآخر، ولم
يجعل عبادة أحد متعلقة بعبادة الآخر، حتى إن إمام الصلاة إذا عرض له ما أبطل
صلاته كان للمأمومين أن يتموا صلاتهم فرادى , وإذا تقدم واحد منهم فأتم لهم الصلاة
جماعة جاز، وكل من صحت صلاته صحت إمامته، فليس في الإسلام طوائف ولا
بيوت ممتازة بالرياسة الدينية كما في الديانات الأخرى، حتى اليهودية والنصرانية.
ولهذا جعل الله تعالى مواقيت العبادة في الإسلام متعلقة بالمشاهدة التي يستوي
فيها العالم والجاهل والبدوي والحضري لا بحساب الحاسبين والفلكيين ولا بإرادة
الرؤساء والحاكمين، فوقت صلاة الفجر يدخل بطلوع الفجر الصادق، ووقت الظهر
بزوال الشمس الذي يعرف بالظل، ووقت العصر حين يكون ظل كل شيء مثله،
ووقت المغرب بالغروب، ووقت العشاء بذهاب الشفق الأحمر، ويعرف شهر الصيام
برؤية الهلال، فإن لم ير فبإتمام شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك شهر الفطر وأشهر
الحج، ولذلك قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} (البقرة: ١٨٩) .
وقد مضت السنة بأن يرقب المؤذن في البلد المواقيت للصلاة، ويؤذن بها في
الناس أي يعلمهم بها فيعملون بإعلامه , ويصلون لكي لا يتكلف كل واحد من
المجتمعين في البلد مراقبة الأوقات، وكذلك وقت الصيام، إذا رأى بعض المسلمين
الهلال يذاع خبر رؤيته إياه في البلدة ويصوم الناس تصديقًا له كما يصدق الواحد في
مواقيت الصلاة التي تكون مواقيت للصيام في أيامه ولياليه؛ إذ نعتمد على أذان
الواحد في الإمساك صباحًا والفطر مساءً لا فرق بين ثبوت شهر الصيام وثبوت وقت
الصوم ووقت الفطر في كل يوم من أيام الشهر. ولا عبرة باحتمال كذب المخبر عقلاً
إذا لم يكن ثم شبهة أو دليل على كذبه كأن يؤذن للمغرب وأنت ترى شعاع الشمس
على الجدران. ويدل على عدم الفرق بين ثبوت شهر الصيام وثبوت أوائل أيامه
ولياليه لأجل الإمساك والفطر ما ذكرناه في جزء المنار الذي صدر في غرة رمضان
من العام الماضي , ومنها حديث ابن عباس عند الشيخين وأصحاب السنن وهو:
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان-
فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله) قال: نعم. قال: (أتشهد أن محمدًا رسول الله)
قال: نعم. قال: (يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً) وغير ذلك من أحاديث
الرؤية أو إكمال العدة.
* * *
طريقة إثبات
رمضان في أمصار المسلمين
لو جرى المسلمون على السنة لاستهل بعض المعروفين بالعدالة منهم ليلة
الثلاثين من شعبان كما يستهلون في البوادي؛ فإذا رأى المستهل الهلال أمر الإمام أو
نائبه المؤذنين بإعلام الناس بذلك، وأن يصوموا، ولكنهم أبوا إلا أن يجعلوا إثبات
رمضان بالرؤية منوطًا بالحكام , وأن يبتدعوا طريقة لم تعرف في السنة، وهي أن
يزوِّروا دعوى ويحكم القاضي فيها بإثبات الشهر، ويبلغ الناس حكمه , ولا يرون
العلم بأن الدعوى مزورة والرضا بها والحكم فيها طعنًا في عدالة القاضي والشهود،
حتى لا يقبل قولهم في إثبات رمضان ولا في غيره. بل قضت قواعدهم الفقهية بأنه
لا طريقة لإلزام الناس بالصيام إلا هذا لأن حكم القاضي يرفع الخلاف في المسائل
الاجتهادية , فلا يجوز بعده لأحد أن يعمل باجتهاده في المسألة التي حكم فيها. ويرون
أن شهادة الشهود أمام القاضي برؤية الهلال لا تكفي لإعلام الناس وأمرهم بالصوم كما
فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وأصحابه الهداة المهديون ,
وشبهتهم أن الإخبار برؤية الهلال لا إلزام فيها , وإنما يجب فيها الصوم على من
صدق الخبر , وأما الحكم فيجب على كل أحد الخضوع له. وكشف هذه الشبهة أن
السنة دلت على أن من سمع خبر رؤية الهلال؛ وجب عليه الصيام كما لو رآه ,
الإخبار بالرؤية كالإخبار بالحكم المبني عليها يجب العمل به على من صدق
المخبر, ولا يجب على من لم يصدق. فإذا كان المؤذن أو المؤذنون أو الحكام هم
المخبرون بأن بعض الناس رأوا الهلال؛ فإن كل الناس يصدقون الخبر بشهادتهم ,
وكل من لا دليل عنده على كون الشهادة كاذبة فهو يصدق الشهود أيضًا , ومن قام
عنده الدليل على كذب الشهادة فإنه لا يصدقها , ولا يعتبر الحكم الذي بني عليها؛
لأن المبني على الفاسد فاسد.
والحكم بوجوب الصوم لا إلزام فيه؛ لأن الصوم معاملة بين العبد وربه والعمدة
فيها الاعتقاد؛ فإذا حكم كل قضاة الأرض بأن الشمس غربت , وأنا أراها أو أرى
شعاعها , فلا يجوز لي أن أفطر ولا أن أصلي المغرب. وأنا أصلي كل يوم اعتمادًا
على إخبار المؤذن , وأفطر في كل يوم من رمضان عند سماع مدفع المغرب أو أذان
المؤذن , وكذلك يفعل جميع المسلمين في المدن والأمصار. فأي دليل في الشرع على
التفرقة بين الإخبار بأول يوم من رمضان , والإخبار بمواقيت الإمساك والإفطار في
سائر أيامه , ومواقيت الصلاة والحج، وما هو المسوغ لتزوير دعوى لإثبات العبادة.
إذا قالوا: يجب العمل بما مضت به سنة الشارع؛ نقول: إن كتب السنة
الصحيحة بين أيدينا ناطقة بأن رؤية الهلال كانت عندهم كرؤية الفجر: مَن رأى
يخبر , والمؤذن يبلغ الناس دخول رمضان كما يبلغهم دخول وقت الصلاة
بمعرفته أو بإخبار بعض المؤمنين له , وفي الحديث الصحيح: (إن بلالاً يؤذن
بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى
يقال له: أصبحت أصبحت. وفي لفظ (ينادي) بدل (يؤذن) وهو متفق عليه من
حديث ابن عمر مرفوعًا , وروى مسلم والترمذي - واللفظ له - وغيرهما من
حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعكم من
سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل , ولكن الفجر المستطير في الأفق) .
وإذا قالوا: إن إخبار المؤذن ليس بشرط , وفي معناه كل إعلام كالمدافع في هذا
الزمان , وإنما الأذان سنة متبعة في الإعلام بمواقيت الصلاة فقط، وإن شارك الصوم
الصلاة في بعضها فبالتبع؛ نقول: إن هذا كلام معقول مقبول , ولقد كان إخبار
المؤذن بدخول رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عن شهادة بعض
المؤمنين برؤيته , فلتكن المدافع وما في معناها من طرق الإعلام عن شهادة الشهود
أمام القاضي , ودعوا هذه البدعة التي جريتم عليها. وليعلم أن الشهادة عند القاضي
لأجل الضبط والثقة بالأخبار , ولو شهد الشهود عند الوالي (كخديوي مصر) أو
نائبه الإداري كناظر الداخلية أو المحافظ , وأمر بإعلام الناس حصل المقصود.
* * *
العمل
بخبر التلغراف والتلفون
وإذا جاز العمل بصوت المدفع أو بإيقاد القناديل في المآذن ونحوها وإطفائها إذا
جرت العادة بجعل ذلك علامة على الصوم والفطر , فلا شك أنه يجوز العمل بخبر
التلغراف والتلفون لا سيما إذا كانا من عمال الحكومة حيث يؤمن التزوير ويغلب على
الظن الصدق؛ لأن الحكومة تعاقب عامل التلغراف إذا كذب أو زور عقوبة شديدة.
فخبره يوجب العلم الراجح الذي يعمل به في الأحكام كخبر المؤذن وصوت المدفع
ونحو ذلك، وقد تتعدد طرقه فيوجب العلم اليقين كالتواتر الحقيقي بل إن التلغرافات
الرسمية لا يرتاب أحد في صدقها كما هي حتى في الأمور السياسية وإن جاز الخطأ
فيها عقلاً كالكتابة وغيرها من ضروب الخبر والتبليغ.
* * *
إثبات
رمضاننا هذا في مصر
اجتمع في ليلة الثلاثين من شعبان وهي ليلة الثلاثاء قاضي مصر وأعضاء
المحكمة الشرعية وبعض العلماء لسماع شهادة المستهلين حسب العادة , فلم يشهد أحد
بأنه رأى الهلال على كثرة المستهلين، وانتظار الجائزة للشاهدين، وذلك أن رؤيته
كانت مستحيلة كما عُلم من حساب الفلكي القطعي، ولقد كان جميع العارفين بتعذر
رؤية الهلال يعتقدون اعتقادًا جازمًا بأن من يشهد برؤيته يكون كاذبًا في شهادته ومنهم
بعض أعضاء المحكمة الشرعية.
وفي نهار تلك الليلة ورد على قاضي مصر تلغراف من قاضي الفيوم الشرعي
يقول فيه: إنه شهد عنده شاهدان برؤية الهلال ليلة الثلاثاء , وحكم بذلك , ويعهد إليه
بأن يبلغ الحكومة ذلك لتبلغ الناس، فقال قاضي مصر: إن خبر التلغراف لا يعمل
به شرعًا , وهو لا يشك في أن التلغراف الذي جاءه هو من قاضي الفيوم الشرعي ,
ولذلك خاطبه بالتلغراف , وهو لا يشك في وصوله إليه وتصديقه إياه بأن يرسل إليه
الشهود الذين شهدوا هناك ليشهدوا أمامه هنا فحضروا وشهدوا , ولفقت الدعوى
المعتادة , وحكم قاضي مصر , وبلغ الحكومة بأنه ثبت عنده أن هذا اليوم (الثلاثاء)
أول رمضان، وعهد إليها أن تخبر الناس بذلك , فأمرت بإطلاق المدافع في القاهرة
فأطلقت , وبلغت سائر البلاد بالتلغراف , فمن بلغه الخبر في النهاروصدق الشهادة
والحكم؛ أمسك نهاره وقليل ما هم، وأصبح المسلمون يوم الأربعاء صائمين معتقدًا
أكثرهم أنهم أفطروا يومًا يجب عليهم قضاؤه , وطفق أهل العلم والفهم من الخواص
يتحدثون متعجبين مما حصل لاعتقادهم بأن رؤية الهلال كانت من المحال، وأن خبر
قاضي الفيوم بثبوت الشهر هو كخبر قاضي مصر لا فرق بينهما شرعًا، فلماذا أعلن
إثبات الشهر بالتلغراف والمدفع عندما شهد الشهود أمام قاضي مصر، ولم يعلن عندما
شهدوا أمام قاضي الفيوم، كلاهما قاضٍ شرعي , وطريقة الإثبات واحدة , وطريقة
إعلانه واحدة، فهل صارت العبادة الإسلامية متوقفة على رئيس مخصوص يصح
على يده ما لا يصح على يد غيره؟ ونحن نعلم أنه لم ينطق الكتاب الإلهي ,
ولم تمض السنة النبوية، ولا عمل السلف الصالح , ولا قال الأئمة المجتهدون بأن
عبادة الصيام أو غيرها تتوقف على حكم شرعي أو على أمر رئيس ولا حاكم؛
ولهذا لا يجوِّز القضاة لأنفسهم الحكم بإثبات شهر رمضان ابتداء، بل يجعلون إثباته
تبعًا للحكم بقضية من المعاملات لعلمهم بأن العبادة لا تتوقف على حكم الحاكم
إجماعًا، وإنما جرت العادة بأن يشهد المستهلون برؤية الهلال عند الحكام لأنهم هم
الذين يتيسر لهم إعلام الناس بذلك حتى لا يكلف كل واحد بتأبي الرؤية كما يستغنون
بأذان المؤذن عن تعرف الأوقات بأنفسهم , ولا فرق بين الإعلام بمواقيت الصلاة
ووقت الصيام إلا من جهة واحدة وهي: أن الشرع تعبدنا بأن يكون الإعلام
بمواقيت الصلاة بألفاظ مخصوصة، هي كلمات الأذان , أي أنه جعل هذه الكلمات
عبادة، وشعارًا دينيًّا لا أنه جعلها شرطًا للصلاة أو للعلم بوقتها.
* * *
العمل
بحساب الحاسبين في العبادة
اختلف الفقهاء في العمل بحساب الحاسب في إثبات رمضان , فقال بعضهم: لا
عبرة به مطلقًا، وقال آخرون: إن الحاسب يعمل هو بما ثبت عنده ولا يعمل غيره
بخبره، وقال بعضهم: يعمل به من صدقه.
حجة المانعين أن الشرع ورد بحصر إثبات دخول شهر الصيام برؤية الهلال
وإلا فبإكمال عدة شعبان، ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه عند البخاري
ومسلم وأبي داود والنسائي مرفوعًا: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا
وهكذا) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. والحكمة في ذلك ظاهرة وهي: أن
تكون طريقة إثبات العبادة واحدة تسهل على كل مكف وأن لا يكون لبعض الناس من
الرؤساء أو العلماء أو الحكام سلطة دينية تتوقف عليها العبادة، على أن حسابهم يخطئ
أحيانًا بدليل اختلافهم فيه.
وحجة المجوزين أن المقصود العلم بدخول الشهر كالعلم بدخول وقت الصلاة
والأحاديث الواردة بالرؤية وإكمال العدة لا تنفي طرق العلم الأخرى , كما أن
الأحاديث الواردة بمعرفة وقت الظهر ووقت العصر بالظل لا تنفي معرفة ذلك
بالحساب. ويمكن منع جعل إثبات العبادة خاصًّا ببعض الحاسبين الذي هو سلطة
ورياسة دينية ممنوعة في الإسلام بأن لا يعمل بقولهم إلا في بلد كثر فيه الحاسبون
الموثوق بعلمهم بحيث ثبت عند الناس صدقهم إذا اتفقت تقاويمهم. وأما الخطأ الذي
نراه في التقاويم المصرية إذ يقول بعضها: إن أول الشهر يوم كذا , ويقول الآخر:
بل يوم كذا , فهو عن جهل بعضهم بهذا الحساب , أو بأن الشهر الشرعي هو
غير الشهر الفلكي , فإن أول الشهر الشرعي هو الليلة التي يمكن أن يرى فيها الهلال
كل معتدل البصر إذا لم يحجبه سحاب أوغيره , ولعله يكون ثاني الشهر الفلكي
في الأغلب , وإننا لنراهم يكتفون بإمكان رؤية أي راءٍ , أو بإمكان الرؤية في نفسها
ولو من حديد البصر كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإن غُمَّ على مثل زرقاء
اليمامة فأكملوا عدة شعبان ولكنه قال: (فإن غُمَّ عليكم) أي يا معشر المسلمين.
* * *
رأي مشايخ العصر في ذلك
نحن نعلم أن المؤذنين في جميع الأمصار الإسلامية يعتمدون في معرفة الأوقات
علي تقاويم الحاسبين وآلة الساعة لا على ما ورد في الشرع من مراقبة الفجر وظل
الشمس وغروبها وذهاب الشفق الأحمر، وينكرون علي من يخالف هذه التقاويم،
حتى إن العلماء ليكادون يوافقون العامة علي الإنكار في ذلك، وقد كنا مرة مع بعض
أكابر علماء الأزهر في الريف , فأبصر مفتي الديار المصرية أن الشفق قد زال فقام
إلى صلاة العشاء , فقال له بعض العلماء: قد بقي إلى وقت العشاء خمس دقائق , قال
المفتي: قد زال الشفق ولم يبق شيء فوافق الآخرون بعد كلام وصلينا جميعًا ,
ولكنني رأيتهم بعد السلام قد فتحوا ساعاتهم وقال بعضهم: الآن قد دخل الوقت. إنهم
صلوا علي علم بأن صلاتهم صحيحة , ولكن مع تأثر نفوسهم بمخالفة العادة التي
جروا عليها ولا يخفى عليهم أن الشفق يختلف في بعض البلاد وفي بعض الأحوال
عن بعض، فإذا كان في الأفق رطوبة شديدة يختلف بقاؤه عن وقت الجفاف ,
والتقاويم تبنى على الاحتياط.
كنا عند مختار باشا الغازي مع المشايخ في دعوة رمضان فجرى حديث إثبات
رمضان والعمل بالحساب وبخبر التلغراف، فقالوا: إن العمل بها غير جائز شرعًا
لأنهما ليسا من البينات الشرعية، فقال الباشا: إن الله عظيم الشأن علم ما كان
يتلاعب به رؤساء الأديان السابقة في عبادات الناس فجعل عبادة هذه الأمة متعلقة
بالمشاهدة وهي رؤية الهلال في إثبات الصيام، وبذلك يتساوى جميع الناس إذ لا يوجد
في كل مكان حاسبون متقنون يوثق بهم , ولكن إن وجد في بعض البلاد الحاسبون
الذين يؤمن تزويرهم وخطأهم كأن وضعت الحكومة لهم مرصدًا يصدر التقاويم
ويعين المواقيت تسهيلاً على الناس، فأي مانع من العمل به وهو يقين؟ فقال بعض
المشايخ: لا يجوز العمل بقول الحاسب لأنه غير شرعي , وقال بعضهم: لا يجوز
لأنه لا يوثق به فإننا نرى الحاسبين دائمًا يغلطون , فالحساب لا يوثق به , وقال
بعضهم: إن للحاسب أن يعمل بحسابه ولمن صدقه أن يعمل بقوله عندنا معشر
الشافعية، فقال الباشا: إن الحساب قطعي لا يمكن أن يخطئ وذكر لهم أمثلة حسابية
فلكية، وقال: إن من ذلك استحالة رؤية الهلال في الليلية التي شهد شهود الفيوم بأنهم
رأوه فيها لأنه كان تحت الأفق قطعًا. وذكر كاتب هذه السطور سبب خطأ بعض
الحاسبين على نحو ما تقدم , وذكر من قال من أئمة العلماء بكون حساب الشمس
والقمر قطعيًّا لا ظنيًّا كالإمام الغزالي , وقلت: إذا كان يجب على من يصدق الحاسب
أن يعمل بحسابه فإننا نرى جميع الناس يصدقونهم في مواقيت الصلاة التي هي
مواقيت الصيام في كل يوم من أيامه؛ فأي فرق بين إثبات أول يوم من أيام الصيام
وبين سائر الأيام من حيث بدايتها التي يجب فيها الإمساك والشروع في الصوم
ونهايتها التي يحل فيها الإفطار؟ قال بعضهم: إن الشرع جعل إثبات أول الشهر
برؤية الهلال وإلا فبإكمال العدة. قلت: وإن الشرع جعل إثبات أول النهار برؤية
الفجر والمؤذن الآن يؤذن في الوقت الذي يعينه الحاسب , ففي الحديث الصحيح عند
البخاري وغيره: (إن بلالاً يؤذن بليل , فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)
وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت. فقال بعض المشايخ -
وهو من أعضاء المحكمة الشرعية -: إن هذا خلاف الشرع، ووافقه من في جانبه
قالا: لأنه يفيد أن الإنسان يأكل إلى وقت الفجر. فقلت: أي شرع يخالف قول
الرسول؟ أقول: إن صاحب الشرع قال هذا في أصح الروايات عنه، ويقال: إن
قوله مخالف للشرع؟ وأزيد هنا أن الحديث رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن ما عدا الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعًا , وأحمد ومسلم والترمذي من
حديث سمرة بن جندب وتقدم لفظه , وأحمد والشيخان من حديث عائشة وابن عمر
ولفظه ما تقدم آنفًا، وفي رواية للبخاري وأحمد زيادة: (فإنه لا يؤذن حتى يطلع
الفجر) . وجملة القول هنا: إنني أطالب الفقهاء بالتفرقة بين إثبات أول رمضان،
وإثبات سائر مواقيته ومواقيت الصلاة، وأقول: يجب العمل بما ورد في السنة في
الجميع ومنع العمل بالحساب أو إجازته في الجميع إلا أن يبينوا فرقًا صحيحًا.
ثم انتقلنا عند الباشا إلى الكلام في العمل بخبر التلغراف؛ قال بعض الشيوخ:
لا يجوز العمل به لأنه ليس بينة شرعية، ولأنه يجوز فيه الكذب، فقلت: إن الشهود
يجوز عليهم الكذب أيضًا , وشهادة الزور شائعة في هذا العصر , ولم يعهد الكذب في
خبر التلغراف الرسمي الذي يرد على الحكومة ولا في غيره إلا نادرًا. وأما كونه
غير بينة فممنوع لأن الشرع لم يحصر البينة بشهادة الشهود , فهذا العلامة ابن القيم
قد حقق أن البينة في الشرع كل ما تبين به الحق. على أن الكلام في الخبر بأن كذا
قد ثبت عند القاضي مثلاً , وأخبار التلغراف أصدق من أخبار الآحاد، لأن
عماله المخبرين مسئولون يعاقبون على الكذب. وقال الباشا: إن التلغراف يعمل
به في الحرب التي تسفك فيها دماء الألوف من الناس وتخرب البلاد، فكيف لا
يعمل به في الأخبار بإثبات العبادة التي لا يترتب عليها ضرر. وقال بعض المشايخ
المالكية: إن الشيخ عليشًا أفتى بجواز العمل بالتلغراف، وقال الشيخ عبد الخالق
المهدي العباسي: إن والدي قد أفتى بجواز العمل به لمن صدقه، لكن لا يبنى على
خبره إلزام ولا يصح للقاضي أن يحكم استنادًا على خبره , فشهادة الشهود لأجل
الحكم الملزم. قلت: إن الصيام لا يتأتى فيه الإلزام، وإن العبادة لا تحتاج في ثبوتها
إلى حكم الحكام؛ فهذه القضية التي يلفقونها ويحكمون فيها بدخول الشهر ليثبت
وقت العبادة تبعًا لها لا يعرف لها أصل في الكتاب والسنة، ولا حاجة إليها للإلزام ,
وإنما يكفي إعلام الناس بأن الشهود شهدوا برؤية الهلال , وأن يكون هذا الإعلام
بحيث يثق به الناس , وأكثر أهل القطر المصري يعلمون بإثبات الشهر بخبر
التلغراف ولا يُشكُّون فيه، وأهل القاهرة يعرفون ذلك بسماع المدافع وإيقاد القناديل
في المنائر وهي بمعنى التلغراف. اهـ الحديث بإيضاح في بعض المسائل واختصار
في بعض آخر , فمن أنكر مما كتبنا شيئًا أو كان عنده بيان آخر للحق فليرسله
إلينا ننشره شاكرين.