للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

عرض أعمال الأمة على النبي
صلى الله عليه وسلم
(س ٩١) عبد الحميد أفندي السوسي بالإسكندرية: أرفع لفضيلتكم هذا السؤال
وهو أني سمعت فقيهًا يقول: إن أعمال الأمة المحمدية تعرض على الحضرة
المصطفوية كل أسبوع، وبالسؤال منه عن الكيفية أجابني بأنها تعرض عليه مقيدة
في كشف , فلم أرتح لجوابه وطالبته بزيادة الإيضاح بكل احترام فما كان منه إلا
أن رماني بالكفر ونهرني (وأنا السائل) وشتمني وصاحب الشريعة عليه الصلاة
والسلام يقول: (ما بعثت سبابًا , ولكن بعثت رحمة للعالمين) حصل بيني وبينه ما
حصل ولم أستفد منه شيئًا غير ما تقدم. ولما كنتم فضيلتكم من الذين يجب علينا أن
نأخذ الدين عنهم لا عن سواهم عولت على أن أستفهم من سيادتكم عن صحة ما
سمعته من الفقيه راجيًا إجابتي بجواب مؤيد بالدليل كما هي عادتكم مع بسط
الكلام عن حكمة العرض وكيفيته ولكم من الله الأجر ومن المؤمنين الشكر
(ج) إن هذا الذي قاله لك من سميته فقيهًا غير صحيح، على أنه من أمور
الآخرة أي من عالم الغيب الذي لا يبيح الدين لأحد أنك يقول فيه برأيه واجتهاده،
وإنما يجب الوقوف فيه عند النصوص الثابتة عن الشارع فإذا كانت هذه النصوص
قطعية كآيات القرآن العظيم كان الإيمان بما ورد فيها حكاية عن عالم الغيب واجبًا
وتكذيبها كفرًا، وإذا لم تكن قطعية كأحاديث الآحاد ولو صحيحة السند لا يكون التسليم
بها وجبًا بأن تعد من أركان الإيمان التي يكفر منكرها، فكيف يكفر من يسأل عن
كيفيتها وبيانها؟
نعم، إن من ثبت عنده حديث في ذلك لابد أن يصدقه ويسلم بمضمونه إذا كان
ممكنًا شرعًا وعقلاً أو بحمله على وجه ممكن. ثم إن ما ثبت من النصوص عن عالم
الغيب يجب أن تؤخذ على ظاهرها أي من غير اجتهاد فيها ولا بحث عن كيفية ما
لم يرد في النصوص ولا بيان كيفيته، فإذا فرضنا أن عندنا آية على أن الأعمال
تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، لم يكن لنا أن نسأل عن كيفية
العرض؛ لأنه من عالم الغيب الذي لا نعرفه وإنما نؤمن بما جاء فيه عن الله تعالى
لأنه جاء عن الله تعالى، وهذا لا يمنعنا عن البحث في فائدة إخبار الله تعالى به إذ
ليس في الدين شيء إلا وهو لمنفعة الناس وإصلاح حالهم. ولو كانت مسألة عرض
الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من قواعد الإيمان التي يكفر
منكرها لما خلت كتب العقائد من ذكرها، ولكن هؤلاء الشيوخ قد تعودوا على تكفير
كل من يعارضهم في مسألة دينية كأن الدين من مقتنياتهم يهبونه لمن شاؤوا ويمنعونه
من أرادوا، وقد يكون بعضهم أجدر بالكفر لكذبه على الله وتكفير المؤمنين.
هذه المسألة لم ترد في كتاب الله تعالى ولا في أحاديث الصحيحين أو السنن
أو المسانيد، وإنما ورد فيها خبر آحادي مرسل عن بكر بن عبد الله المزني عند
ابن سعد وهو (حياتي خير لكم ووفاتي خير لكم تحدثون فيحدث لكم، فإذا أنا مت
عرضت علي أعمالكم فإن رأيت خيرًا حمدت الله تعالى، وإن رأيت شرًّا استغفرت
الله لكم) وورد بلفظ آخر، وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل في
الأحكام العملية فذهب بعضهم كالشافعية إلى أنه لا يحتج به فكيف يجعل حجة في
العقائد وأصول الإيمان؟ على أن هذا معارَض بمثل حديث عائشة عند البخاري إذ
قالت: وارأساه! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك لو كان وأنا حي
فأستغفر لك وأدعو لك) .. الحديث , وهو أصح سنداً ومسند لا خلاف في
الاحتجاج به. ثم إن الرواية المرسلة ليس فيها بيان للكيفية التي ذكرها فقيه السؤال
ولا للتوقيت بالأسبوع فهو مفتات على الدين وعلى عالم الغيب.
أما حكمة الإخبار بعرض الأعمال على تقدير سلامته من المعارضة وما يمنع
الاحتجاج به فهي أن المؤمن بذلك إذا تذكره يكون من أسباب إحجامه عن السيئات
حياء من الرسول مع الحياء من الله تعالى.
* * *
حكم حلق اللحية
(س ٩٢) أحد القراء في (الجزائر) ما قولكم خلدت إفادتكم في حكم حلق
اللحية.
(ج) هو مكروه والأصل فيه التخنث بالتشبه بالنساء.
* * *
حكم تعليق الوسامات في الصدور
(س٩٣) ومنه: وما قولكم في حكم تعليق النياشين والوسامات في
الصدور خصوصًا المهداة من الدول الأوربية؟
(ج) ينظر في التحلي بهذه الأوسمة المعروفة بالنياشين من وجهين:
أحدهما: مادتها، فإذا كانت ذهبًا أو فضة فالمذاهب الأربعة متفقة على تحريم تعليقها
على الرجال، وقد تقدم في جواب السؤال السابع والخمسين من الجزء الحادي عشر
من هذا ما ورد في ذلك وحكمته.
وثانيهما: معناها وطريق الوصول إليها وما أنشئت لأجله وتأثير ذلك في
حاملها وفي الناس، وهذا لم يرد فيه شيء في السنة لأنه من المحدثات بعد التشريع
فالحكم فيه راجع إلى قاعدة تحريم كل ضار وإباحة كل نافع، ونعني بالمباح هنا
ما يقابل المحرم والمكروه. وإننا نعلم أن هذه الأوسمة قد وضعت في الأصل لتكون
سمة وعلامة تميز من يخدم دولته وأمته خدمة جليلة ليرغب غيره في مثل تلك الخدمة
حبًّا بالامتياز الذي هو ركن للشرف ركين، وهذا شيء يختلف باختلاف البلاد
والأشخاص، وإننا نرى أن نيل هذه الأوسمة وكذلك رتب التشريف التي تقارنها غالبًا
قد خرجت في هذه البلاد وفي الدولة العثمانية عن وضعها وصار الناس
يتوسلون إلى نيلها بالمال وبسيئات الأعمال، حتى عرف الخاص والعام أن لها
سماسرة في مصر والأستانة وأن لها أثمانًا معينة تختلف باختلاف درجاتها وأسمائها،
وأن بعض الأعمال السيئة كالتجسس والسعاية قد تغني عن المال في ذلك. ولا
شك أن ابتغاء هذه الوسائل الخسيسة إلى مثل هذا الشرف الوهمي، من الأعمال
المحرمة في الدين القبيحة في نظر العقل. وللحكومة المصرية اصطلاح في إعطاء
الرتب والأوسمة للمستخدمين فيها وهي أنهم يعطون على حسب درجات وظائفهم
وأنواعها ويطلبها لهم رؤساؤهم فلا يبذلون في ذلك مالاً، ولا يقدمون للقصور
أعمالاً، ثم إننا نشاهد لها في هذه البلاد مضرات أخرى في الأخلاق والاقتصاد، فإن
بعض محبي الفخفخة يبيع ما يملك ليشتري رتبة أو وسامًا حتى افتقر بعضهم،
ونرى من ينال منها شيئًا يدخل غالبًا في طور جديد من السرف والخيلاء ومنافسة
القرناء بالباطل حتى يحملهم على السعي في مساواته أو مساماته.
وكثيرًا ما يقع التنازع والتعادي في النسب والصهر للتفاوت العارض بينهم
بأخذ بعضهم رتبة أو وسامًا دون عشيرته، وكل هذه مفاسد محرمة، وقد بلغتنا
وقائع منها لا سيما بين نساء العشيرة، فإن المرأة التي ينال أبوها أو أخوها وسامًا
أو رتبة أو لقب (بك) يسرع إليها الصلف والتكبر على زوجها ويتلوه الشقاق
فالفراق أو يسعى الزوج في مساواة أبيها في ذلك. ومن هذه المضرات تعالي
الوضيع برتبته أو وسامه على الرفيع بفضله وعلمه أو مجده وشرفه حتى تبرم
الفضلاء، وتبظرم السفهاء، وصرنا نرى في الناس من يلهج بذم هذه الزينة الباطلة
وذم باعتها ومشتريها وسماسرتها. وعندي أنه لم يبق لهذه الرتب والأوسمة من
الشرف في الشرق الأدنى إلا بقية في رؤساء الجند وما كان من جمعيات أوربا
العلمية.
أما حكم هذه الأوسمة من الدول الأوربية فهو تابع لسبب إعطائها فإن كان من
يعطاها قد خدم الدولة الأجنبية خدمة جائزة شرعًا بأن كانت نافعة غير ضارة بأمته
ولا بلاده فلا يحظر حمله الوسام من هذا الوجه إلا إذا كان مرغبًا في خدمة
الأجنبي ولو بغير حق وسببًا للاعتزاز به من دون الحق. وإن كانت الخدمة غير
جائزة شرعًا فلا شك أن حمل الوسام يكون آية على الإصرار ودوام الرضا بالذنب
وأن المعصية الصغيرة لتكون بالإصرار عليها كبيرة.
* * *
اللباس الرسمي وكساوي التشريف
(س ٩٤) ومنه: وما قولكم في اتخاذ الولاة والحكام لباسًا رسميًّا خصوصيًّا
(كالبرنس الأحمر عندنا) وتحلي العلماء والوجهاء بالكساوي التشريفية؟ أفيدونا
مأجورين.
(ج) إن الإسلام لم يشرع للناس لباسًا خاصًّا ولم يحظر عليهم زيًّا من
الأزياء، فلكل فرد ولكل صنف أن يلبس ما أحب واختار إلا ما ورد في لبس
الحرير والذهب والفضة، وقد تقدم شرحه في الجزء الحادي عشر، وما ورد من
النهي عن لباس الشهرة وتقدم أيضًا.
وأنت تعلم أن هذا اللباس تابع للرتب بل هو مظهرها ومجلاها، وقد علمت
ما فيها. ونزيد هنا التذكير بما ألمعنا به من قبل من أن الدولة العثمانية قد أخذت
ملابسها الرسمية عن الروم، وأقدمها ملابس العلماء وهي مرتبة على نحو ترتيب
الروم في أزياء البطارقة والقسيسين وهو ما يسمونه ملابس الكهنوت المطرزة أو
الموشاة بالذهب والفضة وأعلاها الحلة البيضاء التي يلبسها بطريق القسطنطينية في
المواسم والأعياد وهي في الدولة لشيخ الإسلام وقد أشرك السلطان معه الشيخ أبا
الهدى في السنة الماضية. ومن مفاسد السياسة أن العلماء صاروا يتنافسون في هذه
الملابس مع اتفاق مذاهبهم على تحريم التحلي بالذهب والفضة في اللباس وغيره
وتحريم التشبه بغير المسلمين في الشعائر الدينية ونحوها، وهم مع ذلك يحرمون
لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة مطلقًا على أنها ليست لبوسًا دينيًّا! وقصارى ما قال
فقهاؤهم في قصد التشبه بالكافر في غير أمور الدين أنه مكروه، ولم يقولوا إنه
محرم، فليحظروا على أنفسهم ما يسمونه كساوي التشريف (الكسوة بالضم ويكسر
اللباس ج كسى) أولاً ليُسمع قولهم فيما هو دونها، والبرنس الأحمر المعروف
عندكم خير من الجبب المفضضة والمذهبة عندنا إذا لم يكن مثلها أو من الحرير
المصمت والله أعلم.