للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أوقاف الزوايا والحرمين والأشراف
صرف ريعها في التعليم
(س٩٥) م. ب. في (تونس) : ما قولكم أطال الله بقاءكم في الأوقاف
الموقوفة على الزوايا والحرمين الشريفين والأشراف وغيرها مما لا يعود نفعه على
مصلحة عامة شرعية، هل يجوز جمعها وصرف ريعها في إقامة مدرسة أو
مدارس كلية خاصة بالمسلمين تزاول بها العلوم العصرية؟
(ج) الأصل في الأوقاف أن يصرف ريع الأعيان الموقوفة على ما وقفت
لأجله من البر والخير وأن لا يحول إلى جهة بر أخرى إلا إذا تعذر وضعه في
موضعه، وقد قال أكثر علمائنا: إن شرط الواقف كنص الشارع؛ أي لا يغير،
ولكن بعضهم أبطل هذا القول بالأدلة القوية وجوز صرف ريع الموقوف على شيء
غير محمود شرعًا إلى ما هو خير منه فراجع تفصيل ذلك في (ص ٢١٠) من مجلد
المنار الخامس ومنه تعلم حكم الموقوف على الزوايا والحرمين. وأما الموقوف على
الأشراف فلا وجه لحرمانهم منه بدعوى أنه ليس من المصالح الشرعية العامة إذ
لم يقل أحد من المسلمين بأن الوقف لا يجوز إلا على المصالح العامة.
أما ما يجول في فكر السائل من وجوب انتفاع المسلمين من الأوقاف القديمة
التي قصد بها الخير والنفع وهي الآن لا تكاد تفيد بل منها ما هو ضار ومعين على
الإفساد - فإنه يجول في أفكار عقلاء الأمة في كل مكان لا سيما الذين أحسوا بالحاجة
إلى العلم وهم يرون أن بعض التكايا والزوايا قد أمست مأوى الفساق والكسالى الذين
ينقطعون عن أعمال الدين والدنيا ويلجأون إلى هذه التكايا يتمتعون ويأكلون كما تأكل
الأنعام ويشربون الخمور ولا يقصرون في سائر ضروب الفجور، فلا شك أن إعانة
أمثال هؤلاء على بطالتهم وجهالتهم وفسقهم من أكبر المعاصي، والإنفاق عليهم من
ريع الأوقاف الخيرية مما يعلم بالضرورة أنه غير مقصود للواقفين رحمهم الله تعالى.
ثم إن هذه الأوقاف الخيرية على قسمين: منها ما أوقف على جهة بر مخصوصة
بشروط معروفة كالموقوف على زوايا وتكايا عامرة فيمكن للنظار أن يشترطوا
لقبول الناس في هذه التكايا أن يتعلموا ما ينفعهم وينفع الناس بهم مع المحافظة على
شروط الواقفين الموافقة للشرع. ومنها ما جهلت شروطه أو تعذرت إقامتها
كأن يندرس المكان أو يزول المكين، فهذه هي التي ينبغي لعقلاء الأمة أن يسعوا في
الاستعانة بها على إنشاء المدارس العالية التي تتعلم فيها الأمة ما تعتز به في دينها
ودنياها معًا وهي في كل قطر إسلامي كافية لذلك لولا أهواء الرؤساء الغاوين من
الأمراء والفقهاء الذين أذلوا هذه الأمة وأفسدوا عليها أمر دينها ودنياها كما أذل
أمثالهم كل أمة ذلت , وأفسدوا كل ملة فسدت , وأن أمثال هذه الأماني لا تتم لعقلاء
المسلمين إلا إذا كثروا وصار لهم من النفوذ والتأثر في نفوس العامة ما يمكنهم
من الأمور العامة , فإن الرؤساء الغاوين لا يقهرون العقلاء المصلحين إلا بقوة
الرأي العام الذي أخضعته لهم التقاليد والأوهام , ولذلك تراهم يحاربون المصلحين
بتبغيضهم إلى العوام , إن لم يتمكنوا من الانتقام منهم بالنفي أو الإعدام.
* * *
حكم اللواط
وعقوبة اللذين يأتيانه
(س ٩٦) من عبد الفتاح أفندي هنو (بالإسكندرية) :
ما يقول حضرة الأستاذ الإمام (أدام الله بقاه) في ما يجب على اللوطية من
الأحكام الشرعية: هل هو قتل الفاعل والمفعول مطلقًا، كما ذهب إليه جماعة من
العلماء أم حكم الفاعل حكم الزاني بخلاف المفعول، كما ذهب إلى ذلك جمع آخر؟ أم
لا حدَّ على الفاعل والمفعول، كما هو المشهور عن أبي حنيفة رضي الله عنه؟ وإذا
كان الواجب قتل الفاعل والمفعول، فهل في ذلك نص قاطع من الكتاب أو من السنة
المتواترة أم لا؟ وهل في ذلك خبر آحاد أم لا؟ وهل على تقدير ورود خبر آحاد
فيه يجب العمل بمقتضاه أم لا؟ ومن قال إن حكم الفاعل حكم الزاني، هل له دليل
من الكتاب أو من السنة أو دليله القياس؟ وإذا كان دليله القياس فما العلة، وعلة
تحريم الزنا معلومة ومفقودة في اللواط؟ وهل ادعاء أن المشهور عن أبي حنيفة ما
ذكره أعلاه صحيح أم لا؟ وإذا رأيتم أن لا حدَّ على الفاعل والمفعول فهل ترون
حرمة ذلك؟ وإذا رأيتموها فهل هي من الكبائر؟ وإذا كانت منها فهل هي أكبر من
الزنا؟ وهل إذا أنكر منكر تحريم ذلك مطلقًا يحكم بكفره أم لا؟ أفيدوا لا زلتم
مهديين.
(ج) ورد هذا السؤال على مفتي الديار المصرية فأرسله إلينا لنجيب عنه
وقد كنا سئلنا في السنة الماضية عن حد اللواط فأجبنا عن السؤال في الجزء الثالث
عشر منها وملخص الجواب أن الله تعالى أمر بحبس النساء اللائي يأتين الفاحشة
وبإيذاء اللذين يأتيانها وذكر هذا باسم الموصول للمثنى المذكر والمتبادر أنه أراد
الزاني واللائط وهو المروي عن مجاهد وأبي مسلم وبه أخذ الشافعي، وقيل إن
المراد بهما فاعلا اللواط أي الفاعل والمفعول، والإيذاء في الآية مجمل وقد ورد في
بيانه من الحديث المار بقتل الفاعل والمفعول كما في حديث أحمد وأصحاب السنن
وغيرهم. وورد حديث آخر في الأمر برجمهما، وروى الطبراني أن عثمان بن
عفان أُتي برجل قد فجر بصبي فسأل عن إحصانه فقيل له أنه تزوج بامرأة ولم
يدخل بها، فقال علي لعثمان: لو دخل بها لحل عليه الرجم، فأما إذا لم يدخل بها
فاجلده الحد. فقال أبو أيوب: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
الذي ذكر أبو الحسن. ونقل ابن حجر في (الزواجر) عن بعض الصحابة الأمر
بإحراق اللوطي ولم يصح، ونقل عن بعض أئمة التابعين القول بأن حد اللواط هو
حد الزنا، قال: وبه قال الثوري والأوزاعي وهو أظهر قولي الشافعي، ويحكى عن
أبي يوسف ومحمد. وذكر مذاهب وأقوالاً أخرى تراجع في الجزء المذكور من
منار السنة الماضية. وصفوة القول: إن الله قد أمر بعقوبة اللذين بأتيان الفاحشة
وهي تشمل اللواط قطعًا بدليل التعبير عنها بلفظ الفاحشة في الكلام على قوم لوط
فإنكار ذلك إنكار لنص القرآن، وكذلك إنكار كونه معصية إذ لا عقوبة في غير
معصية ومما يدل على كونها معصية كبيرة مع الإجماع تلك الآيات التي تقبح عمل
قوم لوط أشد التقبيح مع قوله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأعراف: ٣٣) فليس لمؤمن أن يتردد في كون هذا العمل محرمًا يجب عقاب
مقترفه، أما كون العقوبة تسمى حدًّا وكونها عين عقوبة الزنا فهو مما علم برواية
الآحاد فلا حرج على من أنكره إذا لم يثبت عنده، كما روي عن أبي حنيفة، ولا
مندوحة لمنكرها عن القول بوجوب العقاب على مرتكب هذه الفاحشة بما يظن
الحاكم أنه يردعه عنها ويردع أمثاله. والعمل بأخبار الآحاد الصحيحة المبينة
لإجمال الكتاب في الأحكام العملية مما لا خلاف فيه بين علماء الأصول، والمراد
بالصحيح هنا ما يقابل الضعيف والمعلول. وأما الرواية عن أبي حنيفة فهي
في متون المذهب، قال في البداية: ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمِل
عَمَل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة ويُعزر، وزاد في الجامع الصغير: ويودع
في السجن وقالا: (هو كالزنا فيحد) قال في الهداية بعد هذا: وهو أحد قولي
الشافعي، وقال في قول: يقتلان في كل حال؛ لقوله عليه السلام: (اقتلوا الفاعل
والمفعول) ويروى: فارجموا الأعلى والأسفل. ولهما أنه في معنى الزنا؛ لأنه قضاء
الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حرامًا لقصد سفح الماء.
اهـ المراد.
ثم إننا نقول بأن القياس يتفق مع النص في تحريم هذه الفاحشة والعقاب عليها
بعقاب الزنا أو نحوه فإن ضررها كبير وإفسادها عظيم، فمنه إضاعة النسل بالمرة
وهي أشد ضررًا من وضعه في غير موضعه، فالأمة التي يفشو فيها اللواط يقل فيها
النسل ما لا يقل في نشوء الزنا، وإن كان الزنا أيضًا من أسباب قلة النسل وذلك أن
في فشو اللواط إهمالاً للنساء بقدره، ولا حاجة إلى زيادة التفصيل في بيان هذه المفسدة
وحسبك ما تسمع كل يوم عن فرنسا من اهتمام ساستها وعلمائها بما علم من قلة
النسل فيها. ومنه إفساد البيوت؛ فإن الذي يرتكب صاحبه هذه الفاحشة الدنيئة يسري
فيه الفحش سريان السم في الجسم فلا تبقى فيه امرأة ولا ولد إلا ويتسمم بفساده. ومن
بحث في سيرة الفساق بحث مستفيد معتبر يعرف صحة هذا القول. ومنه أن
مرتكبي هذه الجريمة يغلب عليهم المهانة وفقد إحساس الشرف والغيرة وغير ذلك
من الأخلاق الذميمة حتى إنهم يكونون محقرين مستذلين عند الأحداث والسفهاء.
ومنه أن المفعول به يصاب بداء الأبنة ولا داء يذل صاحبه ويشينه ويحقره مثل هذا
الداء الذميم الذي يتعذر كتمانه لا سيما في الكبرُ وإنك لتسمع في هذه المدنية الفاسقة
بذكر رجال من بيوتات الجاه الرفيع يوصمون بهذه الوصمة، فيقترن ذكرهم باللعنة،
ولم تبق لهم في نفوس الناس قيمة، ولولا دهان غلب على الناس لبصقوا في
وجوههم في حضرتهم كما يمضغون لحومهم في غيبتهم.
* * *
الانتقام من الأبناء بذنوب الآباء
(س٩٧) أحمد أفندي المشد المحامي في (ملوي) : هل المولى عز وجل
ينتقم من الابن بسبب الأب؟ وما هو الدليل القرآني أو الحديث على صحة أي
القولين.
(ج) يقول الله تعالى في سورة فاطر: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن
تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (فاطر: ١٨) أي لا
تحمل نفس وازرة (مذنبة) وزر نفس أخرى، وإنما تحمل كل نفس وزر نفسها وإن
تدع نفس مثقلة بالذنوب والأوزار نفسًا أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها لا تجاب
دعوتها ولا يحمل من تدعوه عنها شيئًا ولو كان من الأقربين كالآباء والأبناء، وهذا
المعنى مكرر في القرآن {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: ٤٩) وأما قوله تعالى:
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِم} (العنكبوت: ١٣) فهو في المضلين الذين
يحملون إثم الضلال الذي وقع من الناس بإغوائهم، ويوضحه قوله تعالى {وَمِنْ
أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْم} (النحل: ٢٥) .
* * *
تربية اللقطاء
(س٩٨) ومنه: هل يجوز شرعًا تربية الأطفال اللقطاء؟ وهذا السؤال
مفرع على ما قبله.
(ج) التربية الصالحة من أفضل الأعمال ولا شيء منها غير جائز، ولو
فرضنا أن الأبناء يؤاخَذون بذنوب الآباء لما كان ذلك مانعًا من جواز تربيتهم، فإن
إهمال التربية الصالحة سبب لكثرة الشر والفساد في الأرض.
* * *
عقيدة الدروز
(س٩٩) سعيد أفندي قاسم حمود في كنتون أوهايو من (أمريكا الشمالية)
دار بين جماعة منا معشر المسلمين وجماعة من الدروز اللبنانيين حديث
أفضى إلى ذكر الحشر والنشر والموقف العظيم، فقال أحد الدروز: هل تعتقدون أيها
المسلمون بيوم القيامة وبالجنة والنار؟ فقلت: نعم، قال: فأنتم إذن كالعيسويين.
فاستوقفته حينئذ عن هذه المحاجة التي أدت به إلى الكفر وجئتكم أنا وإخواني
المسلمين سائلين عن هذه الشيعة الدرزية هل تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم
وبيوم البعث؟ أم ماذا يعبدون وبماذا يؤمنون؟ عرفونا لنكون على حذر ونؤدبهم
بمناركم المؤيد إلى أبد الآبدين آمين
(ج) لا يضرنا معشر المسلمين أن نوافق النصارى في بعض عقائدهم،
فالأصل موافقة جميع الأديان في العقائد، ولولا تحريف الأمم وإضاعتهم لَما خالفت
عقيدة نبي عقيدة من قبله من الأنبياء. وأما الدروز فإنهم فرقة من فرق الباطنية
الذين انشقوا من المسلمين وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ولكنهم
يحرفون القرآن بالتأويل كسائر الباطنية ويعتقدون بأن العلي والبار وأبو زكريا
وعلي والمعل والقائم والمنصور والمعز والعزيز والحاكم إله واحد، والحاكم هذا
هو أعظمهم ويعبرون عنه بمولانا، ويدينون بتوحيده وهو الحاكم بأمر الله من الملوك
العبيديين المعروفين بالخلفاء الفاطميين، والحاكم هذا كان ظالمًا وظلمه مشوب بفن
من الجنون. ومبنى عقيدة الدروز على التناسخ، وقد ذكرنا طرق الاستدلال عندهم
وبعض عقائدهم في مقالات المصلح والمقلد في المجلدين الثالث والرابع من المنار،
ولا حاجة للإطالة بها والجدال معهم عبث؛ فإنه لا قانون في دينهم للاستدلال إذ
العمدة فيه على الحروف وحساب الجمل، على أن العارفين بالدين منهم قليلون وهم
الذين يدعونهم العُقًّال. وقد رأينا من المتعلمين على الطريقة العصرية ومن أهل
البصيرة والنباهة من يتمنون نشر التعاليم الإسلامية في قومهم، ولو وجد
للمسلمين نهضة للتعليم ورقي في العلم والاجتماع لسهل عليهم جذب معظم هذه
الطائفة في زمن يسير.