للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب المصالحة المنتظمة
بين سلطان مراكش ولويز الخامس عشر ملك فرنسا

الحمد لله وحده هذا ما صالح عليه مولانا الإمام المظفر الهمام السلطان الأعظم
الأمجد المعظم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن إسماعيل - الله وليه ومولاه - ابن
إسماعيل قدس الله سره، سلطان مراكش وفاس ومكناسة وسوس وتافلالت
وغيرهم - طاغيه جنس الفرنسيس ومن في حكمه لويز الخامس عشر من اسمه
بواسطة الباشا دور المفوض إليه من قِبله وهو كونط دبرنيون، على شروط تذكر
وتفصل بعد هذا , وتم هذا الصلح وانبرم في آخر ذي الحجة الحرام عام ثمانين
ومائة وألف الموافق لتاريخ الروم لثمانية وعشرين من شهر مايه عام سبع وستين
وسبع مائة وألف.
(الشرط الأول) يؤسس هذا الصلح وينبرم على ما انبرمت عليه المصالحة
بين السلطان الأعظم سيدنا ومولانا إسماعيل قدس الله سره وبين طاغية الفرنسيس
في ذلك الوقت لويز الرابع عشر من اسمه والشروط المشار إليها هي هذه.
(الشرط الثاني) إن لرعيتي الدولتين أن يذهبوا بتجاراتهم ومراكبهم حيث
شاءوا برًّا وبحرًا في أمن وأمان بحيث لا يتعدى أحدهما على الآخر ولا يمنعهم أحد
من ذلك.
(الشرط الثالث) إذا التقت سفن سيدنا - نَصَرَهُ الله - الجهادية أو غيرها
بقراصين الفرنسيس أو غيرها من سفنهم البازركانية حاملة لسنجق الفرنسيس ,
وعندهم بصابرط من قِبل طاغيتهم على الوجه المصطلح عليه كما هو مرسوم آخر
هذه الشروط فلا يتعرض لهم ولا يفتش فيهم , ولا يطالبون بغير إحضارها , وإن
احتاجوا لما يقضونه لبعضهم على وجه الخير؛ قضوه من الجانبين , وكذلك السفن
الفرنسيسية يفعلون مع سفن سيدنا - أيده الله - ما ذكر أعلاه إذا التقوا معهم , ولا
يطالبونهم بشيء إلا بإظهار خط يد القونصوا الفرنسيسي المستوطن بإيالة سيدنا -
نصره الله - على الوجه المصطلح عله أيضًا كما هو مرسوم بآخر هذه الشروط.
ولا تطالب القراصين الفرنيسيسة الكبيرة بإحضار الباصابرط إذا التقت بهم سفن
سيدنا - أيده الله - إذ ليس من عادتهم حملها , ويؤخر البحث عن الصغار لمضي
ستة أشهر تأتي من تاريخه أولها يونية وآخرها نوفمبر الآتي. وفي هذه المدة يعطي
طاغيتهم أمارة بالكتابة للسفن الصغار , وتأتي نسخة منها على يد القنصوا لتصاحب
قراصين سيدنا في سفرهم بحيث إذا التقوا بهم يستظهر كل واحد بما عنده من ذلك
العمل في نزول الفلوكة على ما وقع الشرط فيه بينهم وبين الجزيريين.
(الشرط الرابع) إذا دخلت سفينة من سفن سيدنا الجهادية أو غيرها لمرسى
من مراسي الفرنسيس أو بالعكس، فلا يُمنعون من حمل ما يحتاجون إليه من مأكول
أو مشروب لهم ولمن معهم في سفنهم من الجانبين , وكذلك إن احتاجوا إلى آلة من
آلات سفنهم فلا يمنعون من ذلك بالثمن الجاري بين الناس من غير أن يزاد عليهم
شيء في جميع ذلك مراعاة للصلح الذي بين الرعيتين.
(الشرط الخامس) لرعيتي الدولتين الدخول لأي مرسى شاءوا من مراسي
سيدنا - أيده الله - أو من مراسي بلاد الفرنسيس والخروج منها سالمن آمنين , وأن
يبيعوا ويشتروا ما شاءوا على حسب إرادتهم , وإن باعوا من سلعهم بعضًا وأرادوا
ردّ الباقي لمراكبهم فلا يطالبون بوظيف آخر , وإنما يطالبون بتعشير السلع أولاً
عند نزولها فقط , ولا يدفعون في التعشير زيادة على غيرهم من الأجناس، ولتجار
الفرنسيس التصرف في البيع والشراء في جميع إيالة سيدنا - نصره الله - كغيرهم ,
وإن تفضل سيدنا - أيده الله - على جنس من أجناس النصارى بنقص شيء من
القُمرق أو من الصاكة وغيرها فهم من جملتهم.
(الشرط السادس) إذا انتقض الصلح بين أهل تونس والجزائر وأهل
طرابلس وغيرهم وبين الفرنسيس ودخلت سفينة من سفن الفرنسيس أيًّا كانت
لمرسى من مراسي سيدنا - نصره الله - وتبعتها سفينة حربية من سفن عدوّهم
لتأخذها، فعلى أهل تلك المرسى منع سفينة الفرنسيس المذكورة من عدوّهم المذكور ,
ولو برميه بالمدفع ليبعد عدوّهم عنها , ويحبس المركب الطالب لها بالمرسى مدة
حتى تبعد السفينة المطرودة عنها لئلا يتبعها في الحال حسبما هي العادة , وإذا
التقت مراكب سيدنا الجهادية بعدوِّهم بكوشطة الفرنسيس فلا يأخذونهم إلا بعد
تجاوز ثلاثين ميلاً.
(الشرط السابع) إذا دخلت سفينة من عدو الفرنسيس لمرسى من مراسي
سيدنا - أيده الله - وبها أسارى من الفرنسيس، فإن كانوا باقين بالمركب لم ينزل أحد
منهم للبرّ فلا كلام معهم فيهم , وإن نزلوا للبر فهم مسرحون وينتزعون من يد الذي
هم تحت أسره , وكذلك إذا دخلت سفينة من عدو سيدنا - نصره الله - لمراسي
الفرنسيس وفيها أسارى من الإيالة المولوية يفعل بهم مثل ذلك , وإن دخل عدو
للفرنسيس أيًّا كان لإيالة سيدنا بغنيمة أو دخل عدو سيدنا -أعزه الله - بغنيمة
لمراسي الفرنسيس - فإن الجميع يُمنعون من بيع الغنيمتين بالإيالتين. وإذا وجد عدو
إحدى الدولتين تحت سنجق الأخرى فلا يتعرض له ولا لماله من الجهتين , وإذا
أخذت سفينة سيدنا - أيده الله - غنيمة ووجد فيها بعض الفرنسيس ركابًا فإنهم
يسرحون بأموالهم وأثاثهم كله , وكذلك إذا غنم الفرنسيس سفينة لعدوه أيًّا كان ووجد
فيها ركابًا من الإيالة المولوية فإنهم يفعل بهم مثل ذلك، وأما إن كانوا بحرية فلا
يسرحون من الجانبين.
(الشرط الثامن) لا يلزم رؤساء المراكب البازركانية بحمل ما لم يريدوه في
سفنهم ولا أن يتوجهوا لمحل من غير إرادتهم.
(الشرط التاسع) إذا انتقض الصلح بين وجاقات الجزائر ووجاقات تونس
وطرابلس وبين الفرنسيس فلا يأمر سيدنا - نصره الله - بإعانة الوجاقات
المذكورين بشيء أصلاً , ولا يترك أحدًا من رعيته يتسلح ويركب تحت سنجق أحد
الوجاقات ليقاتل الفرنسيس ولا يترك أحدًا يخرج من مراسيه ليقاتلهم , وإن فعل أحد
من رعيته ذلك عاقبه وضمن ما أفسده , وكذلك يفعلون مع من عادى الجناب
المولوي -أسماه الله- لا يعينونه ولا يتركون من يعينونه من رعيتهم.
(الشرط العاشر) لا يكلف جنس الفرنسيس بدفع آله الحرب من بارود
ومدافع وغير ذلك مما يقاتل به.
(الشرط الحادي عشر) لطاغية الفرنسيس أن يجعل بإيالة - سيدنا - نصره
الله - من القونصوات ما أراد , وفي أي بلد شاء ليكونوا وكلاء له في مراسي سيدنا
أيده الله - ليعينوا التجار ورؤساء البحر والبحرية في جميع ما احتاجوا إليه ,
ويسمع دعاويهم , ويفصل بينهم فيما يقع بينهم من النزاع لئلا يتعرض لهم أحد من
حكام البلد غيرهم. وللقونصوات المذكورين أن يتخذوا بدورهم موضعًا لصلاتهم
وقراءتهم , ولا يُمنعون من ذلك , ومن أراد إتيان دار القونصوا للصلاة أو للقراءة
من أجناس النصارى أيًّا كانوا فلا يتعرض لهم أحد ولا يمنعون من ذلك , وكذلك
رعية سيدنا - أيده الله - إذا دخلوا بلاد الفرنسيس لا يمنعهم أحد من اتخاذ مسجد
لصلاتهم وقراءتهم بأي مدينة كانوا. ومن استخدمه القونصوات المذكورون من
كتاب وترجمان وسماسير وغيرهم فإنه لا يتعرض لمن استخدموه بوجه , ولا
يكلفون بشيء من التكاليف أيًّا كانت في نفوسهم وبيوتهم , ولا يمنعون من قضاء
حاجة القونصوات والتجار في أي مكان كانوا , ولا يدفع القونصوات ملزومًا ولا
وظيفًا عما اشتروه لأنفسهم من مأكول ومشروب وملبوس , ولا يأخذ منهم العشر
عما جاءهم من بلادهم من الحوائج المعدة للباسهم ومأكولهم ومشروبهم كيفما كانت،
ولقونصوات الفرنسيس التقدم والتصدر على غيرهم من قونصوات الأجناس
الآخرين , ولهم أيضًا أن يذهبوا حيث شاءوا من إيالة سيدنا - أيده الله - برًّا وبحرًا
من غير مانع لهم من ذلك , ويذهبون أيضًا لسفن جنسهم إن أرادوا من غير مانع
أيضًا, ودورهم موقرة لا يتعدى فيها أحد على آخر.
(الشرط الثاني عشر) إذا وقع نزاع بين مسلم وفرنسيسيّ فإن أمرهما يرفع
للسلطان - نصره الله - أو لنائبه حاكم البلاد , ولا يحكم بينهما القاضي في نازلتهما.
(الشرط الثالث عشر) إذا ضرب فرنسيسي مسلمًا فلا يحكم فيه إلا بعد
إحضار القونصوا ليجيب ويدافع عنه , وبعد ذلك ينفذ فيه الحكم بالشرع , وإن
هرب النصراني الضارب فلا يطالب به القونصوا لأنه ليس بضامن له , وكذلك إذا
ضرب المسلم الفرنسيس وهرب فلا يطالب بإحضاره.
(الشرط الرابع عشر) إذا كان لأحد من التجار دين على أحد من رعية
الفرنسيس فلا يكلف القونصوا بخلاصه إلا إذا ضمن المال وكتب في ذمته فحينئذ
يكون الخلاص عليه , وإن توفي أحد من النصارى الفرنسيس في جميع إيالة سيدنا
نصره الله - فتسلم أرزاقه وأمتعته ليد القونصوا ليزممها ويختم عليها أو يتصرف
فيها بما شاء , ولا يمنعه أحد من ذلك , ولا يتعرض له أحد من القاسمين ولا من
أهل بيت المال.
(الشرط الخامس عشر) إذا رمى الريح مركبًا من المراكب الفرنسيسية على
سواحل إيالة سيدنا - نصره الله - أو جاء هاربًا من سفن أعدائه فليعط سيدنا أمره
لجميع أهل سواحله أن من وقع عنده مثل ذلك يعينونهم على قدر طاقتهم إما بإخراج
المركب للبحر إن أمكن , وإن حرّث أعانوهم على تخليص الأمتعة التي به وجميع
آلاته وكل ما خرج من المركب يتصرف به القونصوا القريب من ذلك المكان أو
نائبه بما شاء ليخلص تلك السفينة بعد أن يعطي لمعينه أجرته , ولا يؤخذ عن تلك
السلع حال التحريث عُشر إلا ما بيع منها فيؤخذ عُشره.
(الشرط السادس عشر) إذا دخلت مراكب الفرنسيس القرصانية لمرسى من
مراسي سيدنا - نصره الله - فليلتقوا بالبشر والبشاشة مراعاة للصلح الحاصل ,
ورؤساء هذه المراكب إن اشتروا بدرهمهم شيئًا من مأكول أو مشروب لا يطالبون
بصاكة ولا بغيرها وكذلك يفعل بمن دخل لمراسي الفرنسيس من سفن سيدنا - أيده
الله - وهذا المأكول والمشروب المذكوران لأنفسهم ولأهل مراكبهم.
(الشرط السابع عشر) إذا دخل قرصان من قراصين الفرنسيس لمرسى من
مراسي الإيالة المولوية فإن القونصوا الحاضر في الوقت بالبلد يخبر حاكمها بذلك
ليتحفظ على الأسارى الذين بالبلاد لئلا يهربوا للسفينة المذكورة , فإن هرب أسير
وحصل المركب فلا يفتش عليه , ولا يطالب به القونصوا ولا غيره لأنه دخل تحت
سنجق الفرنسيس ولاذ به , وكذلك من فعل من أسارى المسلمين أيًّا كانوا ذلك
بمراسي الفرنسيس لا يفتش عليه لأن السنجق حرم.
(الشرط الثامن عشر) ما نسي من الشروط يفسر ويشرح على وجه مفيد
معتبر لكي يحصل منها خير كثير ونفع عام لرعيتي الدولتين ولأن بواسطتهما تشد
عقود الموالاة والمصافاة.
(الشرط التاسع عشر) إذا حصل خلل في الشروط التي انعقد عليها الصلح
فلا يفسد الصلح بسبب ذلك , وإنما يبحث في المسألة ويرجع فيها للحق من أي إيالة
كانت , ولا يتعرض لرعايا الدولتين الذين لا مدخل لهم في شيء من الأشياء ولا
يباشر أحد من الرعيتين الخصومة والجدال إلا بعد مخالفة الشريعة والحق إعلانًا.
(الشرط الموفي العشرين) إن قدر الله بنقض الصلح المنبرم فجميع من
بإيالة سيدنا - نصره الله - من جنس الفرنسيس يؤذن لهم في الذهاب لبلادهم
بأموالهم وأمتعتهم لمضي ستة أشهر.
***
ذكر الباصابرط المصطلح عليها
لكل مركب من المراكب الفرنسيسية البازركانية من عند أمير البحر بكل
مرسى من مراسي الفرنسيس لويس جان مري دبربون دك دبنطيور أمير البحر
بإيالة الفرنسيس السلام على كل من ينظر هذه الأسطر , نعلمه أنا دفعنا ونفذنا
إجازة بالباصابرط هذه لفلان رئيس المركب المسمى فلانًا فيه من الوسق كذا , وأنه
ذاهب إلى بلد كذا موسق بكذا مكاحلة ومدافعة كذا , رجاله كذا , وهذا بعد ما صار
النظر والاطلاع الشرعي بما فيه , فشهادة على ذلك وضعنا إمضاءنا وطابعنا ,
وكتب بخط يده كاتب البحر فلان في مدينة باريز في شهر كذا سنة كذا
لويزجان مري دبوربون وتحت ذلك ... ... من جانب حضرته السمية ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... غرامبرك مختوم
* * *
ذكر خط يد القونصوا المصطلح عليه الذي يكون عند سفن سيدنا أيده الله.
صورته:
كاتبه فلان قونصوا الفرنسيس بإيالة سيدنا - نصره الله - بثغر كذا. نُعلم كل
من رأى هذه الأحرف أن المركب المسمى كذا رئيسه فلان , وفيه كذا , وهو من
ثغر كذا بأنه هو ومن معه من إيالة السلطان المنصور بالله سيدنا محمد بن عبد الله
سلطان مراكش ومن انضاف إليه, رجاله كذا , مدافعه كذا , وشهادة على ذلك
وضعنا اسمنا على هذه الورقة التي ختمناها بخاتمنا في بلاد كذا في شهر كذا من
سنة كذا
* * *
العبرة بحال مراكش
كانت مملكة مراكش منذ قرن أو قرنين عزيزة الجانب مرهوبة الشذى من
ممالك أوربا , ولكن غرور المسلمين واختيارهم الجهل بحجة الدين قد جعل شر
أحوالهم عواقبها وخواتيمها (والعياذ بالله تعالى) فانظر أيها القارئ بعين العبرة
في هذه المعاهدة أو المصالحة بين سلطان مراكش وملك فرنسا التي وقعت من نحو
قرن ونصف؛ تجد أن السطان المسلم كان هو وقومه فرحين مغتبطين بالفخفخة
والإطراء، والألقاب الضخمة ورسوم الدعاء، والاغترار برضا ملك فرنسا بلقب
الطاغية , ولم يفقهوا أن هذه المصالحة التي توهموا أن لهم فيها العزة والشوكة
والصولة والدولة ما هي إلا مبدأ الخيبة والانخذال، ومقدمات الاضمحلال
والانحلال، ولو وجد في ذلك الوقت رجل حكيم بصير بالعواقب وقال: إن المزايا
التي أعطيتموها لفرنسا على أن لكم منها مثلها ستكون وسيلة لاستيلائها على
جيرانكم من إخوانكم ثم عليكم لانخذالكم وتفرقكم؛ لأفتى الفقهاء منهم بكفره وحكم
الحاكمون بقتله، وأجمعت الأمة على لعنه، لأنه خالف مولانا الإمام المظفر واعترض
أمره، ولكن من رأى فرنسا استولت على الجزائر ثم احتلت تونس ثم أنشبت براثنها
في مراكش التي خذلت جارتها الجزائر في محاربتها لفرنسا من قبل , وسمع ساستها
وكتابها يفتخرون بأنهم ورثوا ملك هذه البلاد وأملاكها - من رأى وسمع ما ذكر
يسهل عليه أن يعرف درجة جهل مراكش من ذلك اليوم بقوتها، وخطر استرسالها
في جهالتها، وهل أفاق بعد هذا كله المراكشيون؟ لعمرك إنهم لفي سكرتهم
يعمهون.
لا نريد بهذه الذكرى إيقاظ أهل مراكش لأجل مقاومة نفوذ فرنسا، فإننا نعلم أن
الأرض يرثها من عباد الله الصالحون لعمارتها وإقامة النظام والعدل فيها , وأهل
مراكش كأمثالهم من سائر المسلمين في هذه العصور أعداء العدل والنظام، عشاق
الخلل والاستبداد، حرب العلم والصناعة، سلم مع التفريط والإضاعة، لا هم لهم
في عالم السياسة إلا في التزلف والاستخذاء لأمير أو سلطان منهم يسومهم سوء
العذاب، ويجعل نفسه في مصاف الأرباب، وهم لا يتحامون وصفه بصفات
الألوهية، ووسم أنفسهم بسمات العبودية، ولقد كانوا يتنزهون عن هذا اللفظ
(العبودية والعبد) ثم صار يقال جهرًا ويحسب دينًا لا كفرًا. أو إقامة عدة زعماء،
وتمزيق الأمة بتفرقهم في الأهواء، ويا ويل من أنكر عليهم ما يعرفون، وأنذرهم
مغبة ما ينكرون، إنني أكتب هذا وأفكر فيمن يألم له , وأزن آلامي بكل ما
أتخيل من آلام فأراها ترجح في إحساسي واعتقادي , وإن قلمي ليقطر حبرًا أحمر
وقلبي يقطر دمًا أسود، فليقل من شاء ما شاء فلا يستطيع أحد أن يؤلمني بقوله بأشد
مما أنا فيه , وأعود إلى ما أريد من الذكرى، أريد أن يتنبه من عنده استعداد للفهم
من أعداء الإصلاح إلى حاجتهم إلى النذر والتأمل في كل قول ينتقد به حال أمتهم
وملتهم , وإن كان القائل ظنينًا عندهم في رأيه واعتقاده، وأن يعلموا أن ضعف
الأمم وهلاكها بفساد رؤسائها , وأن الذين يعظمون هؤلاء الرؤساء ويتقربون منهم
ويتمتعون بأموالهم وبجاههم - ومنه رتب الشرف وأوسمته - هم الجديرون بالاتهام
بغش الأمة في كل زمان ومكان، كذلك كانوا وكذلك هم الآن، ولكن الرياسة
تستعبد الطامعين، والسياسة فتنة للعالمين، كانت دولة مراكش عند عقد هذه
المصالحة لا تزال عزيزة قوية ولكنها جاهلة بأن دوام الدولة إنما يكون بقوة الأمة،
وقوة الأمة في هذه الأزمنة لا تكون إلا بالعلم والصناعة والثروة. ولقد كانت دولة
فرنسا لذلك العهد ملكية مطلقة كدولة مراكش، فلماذا سقطت هذه الدولة الإسلامية حتى
صارت لا تقوى على تأديب خارج عليها، ونهضت تلك الدولة حتى صارت في
مقدمة الدول العظمى؟ ولماذا صارت لا ترى مانعًا من الاستيلاء على مملكة مراكش
إلا معارضة دول أوربا , فلما رضوا قالت: أنا وارثة هذا الملك، بعد أن كانت
ترضى من صاحبه بتلك المصالحة التي يلقب فيها ملكها بالطاغية، ويرضى بما
دون المساواة لصاحب مراكش؟ ولقد كان الحال بين الدولتين على عهد لويس السادس
عشر كما كان على عهد من قبله , وكان محمد بن عبد الله بن إسماعيل
يتعالى على لويس في الخطاب كما كان يتعالى على من قبله , وآخر كتاب رأيناه منه
مؤرخ في سنة ١١٩١ على أن محمدًا من خير من ولي مراكش عند أهلها ,
ولويس السادس عشر من شر ملوك فرنسا عند أهلها , إذ كانت الثورة الكبرى على
عهده وقد أهانت الأمة دماء الملوك بسفك دمه , فكيف نهضت فرنسا على ما كان من
ضعف ملكها , وسقطت مراكش على ما كان من عظمة سلطانها وفضله؟ الجواب
عن هذه الأسئلة واحد؛ وهو أن الأمة الفرنسية كانت تجدّ في نشر العلم وجمع
كلمة أهل الرأي لتقييد السلطة المطلقة حتى ظفرت بها وسارت على سنة الله في
ارتقاء البشر بالأسباب , والأمة المراكشية كانت تتوهم أنها مؤيدة من السماء،
ومتعبدة بالخضوع للرؤساء، لا يخطر على بالها أنها في حاجة إلى العلوم الكونية
والصناعات العملية والقوة القومية، فكانت تزيد تفرقًا من حيث يزيد الفرنسيس
اجتماعًا، وتوغل في فيافي الجهل كلما أوغل الفرنسيس في ربوع العلم، وتستخذي
لسلطة الرؤساء والحكام. إذ ساواهم الفرنسيس في الحقوق بالعوام، وتتكل على
كرامات الأحياء والأموات، كما يتكل الفرنسيس على ما وهبهم الخالق من القوى
والأدوات، فأيّ الفريقين أحق بالقوة والسيادة؟
من المصائب الكبرى أن الأمراء والسلاطين السكارى بخمرة السلطة المطلقة
والاستبداد لا يسمعون النذر التي تصيح بجوارهم، ولا يبصرون العبر التي تنزل
بديارهم، وأن الأعوان الغارِّين الغاشِّين للأمة بهم لا يكفون عن غشهم للمرؤوس،
وتملقهم للرئيس، ما دام في يده لماج يأكلونه، أو وشل يشربونه، أو وسام يتحلون
به أو يبيعونه. وإن العامة تقبل هذا الغش وتدين لذلك القهر، مفتونة بقوة الغالب
وخلابة الخالب.
جميع الممالك والبلاد الإسلامية على خطر السقوط في أيدي أوربا , وجميع
أهلها سادرون في غرورهم إلا أفرادًا من المملكة العثمانية يطلبون الإصلاح الواقي
بما يظنون نفعه , والجماهير ينبزونهم بالألقاب ويتهمونهم بسوء القصد أو بسوء
العمل , والجرائد الخاتلة الخادعة تنفر العامة منهم - هذا والمملكة العثمانية أقدر
الممالك على الإصلاح لكثرة المتعلمين القادرين على الإدارة المنتظمة فيها، وهناك
أفراد في المملكة الفارسية يقال أن الشاه نفسه يود معهم الإصلاح ولكن سلطة الشاه
مقيدة بسلطة العلماء والمجتهدين الذين لما يشعروا بالخطر المحيط بالمسلمين؛
وليس عنده رجال يقومون بالأعمال، فماذا نقول في بلاد نجد وحضرموت وهم
على بداوتهم يخضعون لرؤساء في عزلة عن الكون وما فيه من القوى الحربية
والسياسية التي لا تبارى إلا بمثلها. ولعلك إذا قلت في البلاد العربية أو الفارسية
أنه يجب على الأمة أن تتعلم العلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية، تُرمى بالكفر ,
ولا يبعد أن تُرمى بعده بالرصاص.
لا يسهل تذكير المسلمين إلا إذا سلبوا كل قوة وزالت من أيديهم كل سلطة
وأنى لهم الذكرى حينئذ. ولو قلت للعقلاء العائشين منهم في بلاد الجهل والاستبداد:
عليكم أن تفكروا , عليكم أن تجتمعوا , عليكم أن تتعلموا, عليكم أن تعملوا,
عليكم أن تخاطروا , ولا يغرنكم نبذ الأكثر منكم لكلام النذير لكم , وزعمهم أنه ضد
للرؤساء , بل تمثلوا حال كل بلاد استولى عليها الأجانب تجدوا أن الناصحين
كانوا فيها على خطر , ثم ظهر صدق قولهم وتأويل وعدهم - لاختلفوا في الجدل،
مع الاتفاق على ترك العمل؛ إلا من هداه الله من المتقين، وذكر فإن الذكرى تنفع
المؤمنين.