للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أخذ الأجرة على القرآن
(س١٠٤) أ. ف. في الإسكندرية: قرأنا في مناركم نقلاً عن الأستاذ
الإمام عند تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة:
١٨٨) إلخ الوجوه التي يعتبر أخذ المال فيها محرمًا , وفيها ما يؤخذ على العدد
المعلوم من سورة يس - وأن القراءة لا تحقق إلا إذا أريد بها وجه الله خالصة , فإذا
شابت هذه النية شائبة فقد أشرك بالله غيره في عبادته بالتلاوة - وكذا من يقرأ
القرآن لأخذ الأجرة لا غير فإذا لم تكن لا يقرأ , وعلم من ذلك أن الحرمة على
المعطي والآخذ , فإذا كان الأول يعطي بمحض إرادته , وإذا كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) فكيف تكون الحرمة؟
وكيف الجمع بين القولين؟
والحديث كما لا يخفى رواه البخاري عن ابن عباس في (كتاب الطب) وهو
حجة الشافعي (كما سمعنا) على جواز أخذ الأجرة على القراءة , وحجة أبي حنيفة
على جواز أخذها على الرقى. أسعفونا بالجواب فأنا كالظمآن ينتظر ورود الماء ,
ولكم الفضل أولاً وآخرًا.
(ج) حمل بعض العلماء الأجر في الحديث على الثواب لأجل الجمع ,
وخصه بعضهم بالرقية , وينبغي أن تكون صلحًا على شفاء لديغ , فإن شفي استحق
الراقي الأجرة كما كانت واقعة الحال لأن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه ,
وقد تقدم الكلام على الرقية بالقرآن ونفعه في شفاء المرضى أو عدم نفعه في
الكلام على المسائل الزنجبارية. ومنها يعرف أنه على خلاف القياس. ومن
الأحاديث المعارضة له ما رواه أحمد والبزار من حديث عبد الرحمن بن شبل عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه , ولا تجفوا
عنه , ولا تستكثروا به) . ورجاله ثقات , وما رواه أحمد والترمذي وحسنه من
حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن
واسألوا الله به فإن من بعدكم قومًا يقرءون القرآن يسألون به الناس) وما رواه
أبو داود من حديث سهل بن سعد وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا
القرآن قبل أن يقرأه قوم يقيمونه كما يقام السهم يتعجل أجره ولا يتأجل) , وما رواه
أيضًا من حديث جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ
القرآن , وفينا الأعرابي والعجمي فقال: (اقرءوا فكل حسن , وسيجيء أقوام
يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) فهذا وما ذكر في التفسير كافٍ في
بيان الحق , وجعل حديث الرقية خاصًّا بتلك الواقعة وما كان في معناها , وهي تدل
على أن الأجرة كانت محرمة، فإن الراقي لما أخذ الشاء أنكر عليه رفاقه من
الصحابة حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم بأكلها , وكانوا استضافوا
أولئك العرب من المشركين فلم يضيفوهم , فرقى أحدهم لهم سيدهم وكان لديغًا على
أن يعطوه القطيع إذا شفي. فأنت ترى أنهم كانوا مضطرين ومحتاجين , ولا يقال
أن المعطي يعطي برضاه فإن العقد فاسد , وهذه شبهة مستحل الربا. والشافعي لم
يقل ما ذكر , وإنما هو بحث للشافعية في صحة الإجارة وعدمها.
***
حياة البرزخ وحياة الآخرة
(س١٠٥) يوسف أفندي هندي في بريد (بور سعيد) : أكد لي أحد طلبة
العلم بالأزهر الشريف أن الميت يشعر ويحس ويتألم ويسمع كل ما قيل أمامه حتى
وطء النعال على قبره , واستشهد بحديث عمر: (ما أنت بأسمع منهم) . وإني
شاك في ذلك لبعده عن التصور , وعدم تسليم العقل به مباشرة لأسباب، منها: عدم
تألم المرء بما يفعل بجسمه إذا خدر بدنه بالمادة المغيبة (البنج) والروح فيه , فما
باله بعد مفارقتها بدنه , ومنها أن الميت في بورسعيد يوضع في صندوق ويلقى في
حفرة رملية ويهال عليه التراب , ولا شك أن الأرض تغور به لأنها رملية فهل
يسلم العقل بأن الميت يشعر بهذا كله ونحوه , أرجو التكرم بشرح الحقيقة مأجورين.
(ج) ولع كثير من الذين يشتغلون بعلم الدين بالكلام في الغرائب , ولا
أغرب من أمور عالم الغيب , واحتجوا عليه بالروايات حتى الضعيفة والموضوعة
وأدخلوا فيه القياس على ما رووا , بل منهم من احتج فيه بالرؤى والأحلام حتى
قالوا وكتبوا ما يحمل كثيرًا من الضعفاء على الشك في أصل الدين. ومن ذلك أن
الأموات يأكلون في قبورهم ويشربون ويغشون النساء. والحق المجمع عليه أن
حياة الآخرة من أمور عالم الغيب , فما ورد فيها من النصوص القطعية عن الله
ورسوله نؤمن به من غير بحث في كيفيته , ونؤمن مع ذلك أن عالم الغيب ليس
كعالم الشهادة فلا نقيس حياة الآخرة على الحياة الدنيا في شيء. والعقل لا ينافي
هذا لأنه يدلنا على أن الذي وهبنا هذه الحياة قادر على أن يهبنا بعد الموت حياة
أخرى أرقى منها أو أدنى , وقد اختلف المسلمون في حياة البرزخ فقال الأكثرون:
إن الميت يحيا بعد الدفن لأجل السؤال , وأنه يعذب بعد الموت قبل البعث يوم
القيامة , وعليه جمهور أهل السنة لأحاديث وردت في ذلك , ولكن هذه الحياة
عندهم غيبية لا يقاس عليها.
ونقل صاحب (لوائح الأنوار البهية في شرح عقيدة الفرقة المرضية) عن
الإمام ابن حزم في كتاب الملل والنحل أن من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم
القيامة فقد أخطأ لأن الآيات تمنع من ذلك يعني قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (غافر: ١١) , وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ
أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (البقرة: ٢٨) قال: ولو كان الميت يحيا في
قبره لكان الله تعالى قد أماتنا ثلاثًا وأحيانا ثلاثًا , وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من
أحياه الله آية لنبي من الأنبياء - ثم ذكر قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف،
والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها - أي أن الآيات تجيء على خلاف
الأصل , والأصل هنا أنه لا حياة بعد الحياة الدنيا إلا حياة الآخرة , وذكر في
الاحتجاج قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى} (الزمر: ٤٢) أي
يرسل روح الذي يموت إلى يوم القيامة فلا حياة له قبلها , ثم قال ابن حزم: ولم
يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد
إلى أجسادهم عند المسألة , ولو صح ذلك لقلنا به , وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد
الأرواح إلى القبور المنهال بن عمرو وليس بالقوي , تركه سعيد وغيره وقال فيه
المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة
في الإسلام على ما قد نقل , وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. (قال) وهذا
الذي قلناه هو الذي صح عن الصحابة , وذكر آثارًا عنهم تؤيد ما قال.
وقد أورد صاحب اللوائح ردًّا عليه لابن القيم قال: إن أراد ابن حزم بقوله:
(من ظن أن الميت يحيا في قبره فقد أخطأ) الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها
الروح بالبدن وتصرفه وتدبره ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ
كما قال , والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص. وإن أراد به حياة أخرى غير هذه
الحياة بأن تعاد الروح إليه إعادة غير المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا
حق ونفيه خطأ , وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله: (فتعاد روحه
في جسده) في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وساق الحديث , وهو عند
أحمد وأبي داود , ثم ذكر أن قوله فيه: (ثم تعاد روحه في جسده) لا يدل على
حياة مستقرة , ثم ذكر أن تعلق الروح بالبدن من أول التكوين إلى يوم القيامة خمسة
أنواع ذكرها المؤلف وهذا نوع منها. أي وهو غيبي لا نعرف حقيقته. ثم ذكر أن
جرح المنهال خطأ وذكر من وثقه , وأن أعظم ما قيل فيه أنه سُمع صوت غناء من
بيته. وأما حديث أهل القليب وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنتم بأسمع لما
أقول منهم) فهو يدخل في الآيات , فقد قال قتادة رضي الله عنه: أحياهم الله
تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال الحلبي في سيرته:
أقول: المراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا
للغرض المذكور , ولا يعد أن يريد أن أرواحهم هي التي سمعت؛ فإنها هي التي
تدرك وتعقل، فلا تتوقف صحة الحديث على رجوعها إلى الأجساد , ولكن هل يقاس
على النبي غيره في مخاطبة الأرواح، والقائس لا يعرف حقيقة ما به القياس؟ أم
يعطي الله لكل أحد يكلم الموتى من الآية في أسماعهم ما أعطى نبيه عليه الصلاة
والسلام؟ كلا فعلم مما تقدم أن ما سمعتموه من أن الأموات أحياء غير صحيح، بل
هو تناقض صريح، والله أعلم.
***
دعوى الولاية والتصرف في الكون
(س١٠٦) الشيخ أنور محمد يحيى في (الإبراهيمية) : ظهر في بلدة
الإبراهيمية رجل يسمى الشيخ.... . بالتصوف ومشيخة الطريق فأخذ عليه العهد
نحو ثمانين شخصًا لما له من الشهرة بالصلاح , فراودت نفسي أن آخذ عليه العهد
وأتخذه مرشدًا , فلما اجتمعت مع أحد تلامذته وسألته عن أحوال هذا
الأستاذ؛ أقسموا لي بالله ثلاثًا أنه يوجد في تلامذته من تفوق رتبته رتبة سيدي
أحمد البدوي وأن له التصرف في الكون , فأنكرت ذلك عليه فسألني ثانيًا: أتنكر ذلك؟ فقلت له: نعم. فأجابني بأنه لا بد من أن يصيبك مرض شديد لأنك
مصر على إنكار التصرف , فصرت منتظرًا حدوث المرض كما أوعدني فلم
يحصل , فهل يجوز لنا أن ننكر على هذا شرعًا أم لا؟ بينوا لنا....
(ج) جاء في كتب العقائد أنه لا يجب على أحد أن يصدق بأن فلانًا بعينه
من أولياء الله تعالى وإن ظهرت الخوارق على يده. وإننا نذكر لك ما جاء في
اللوائح عند شرح قوله:
وكل خارق أتى عن صالح ... من تابع لشرعنا وناصح
فإنها من الكرامات التي ... بها نقول فاقف للأدلة
قال في تفسير الصالح: وهو الولي العارف بالله وصفاته حسب ما يمكن،
المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات
والشهوات من ذكر وأنثى إلخ , وقال في تفسير ناصح: لله ولرسوله ولكتابه
ولشريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أتى بها عن الله , وناصح لأئمة المسلمين
وخاصتهم وعامتهم فإن الدين النصيحة إلخ , ثم قال في سياق النقل عن ابن
حمدان حقيقة الكرامة: ولا تدل على صدق من ظهرت على يده فيما يخبر به عن
الله تعالى أو عن نفسه ولا على ولايته لجواز سلبها وأن تكون استدراجًا له. يعني
أن مجرد الخارق لا يدل على ذلك , ولذلك قال: ولا يساكنها ولا يقطع هو بكرامته
بها , ولا يدعيها , وتظهر بلا طلبه تشريفًا له ظاهرًا , ولا يعلم من ظهرت منه هو
أو غيره أنه ولي لله تعالى غالبًا بذلك وقيل: بلى. ولا يلزم من صحة الكرامات
ووجودها صدق من يدعيها بدون بينة أو قرائن خالية تفيد الجزم بذلك وإن مشى
على الماء أو في الهواء أو سخرت له الجن والسباع حتى تنظر خاتمته وموافقته
للشرع في الأمر والنهي. فإن وجد الخارق من نحو جاهل فهو مخرفة ومكر من
إبليس وإغواء وإضلال.
فهذا نص عالم من أشد الناس انتصارًا للكرامات وإنكارًا على منكريها من
المسلمين كالأستاذ أبي اسحق الإسفرايني والشيخ عبد الله الحليمي من أئمة الأشاعرة
وغيرهم من الفرق. وتفسيره للولي يؤخذ من لفظه فإن معناه الناصر والموالي ,
ولا يكون ناصرًا لدين الله ومواليًا له إلا بالعلم والعمل بالكتاب والسنة والنصيحة لله
ورسوله بإقامتهما , والنصيحة لأئمة المسلمين وهم السلاطين والأمراء الذين يحرم
منافقو هذا الزمان نصيحتهم ويلعنون الناصح لهم , ولعامتهم. ثم إنه يذكر أن الولي
لا يدعي الكرامة ولا هي تكون باختياره وتصرفه , ولكن إذا وقع له أمر خارق
للعادة حقيقة يحمل على أنه إكرام من الله وعناية منه به , ولكن ما كل من يظهر
على يده الخارق يكون وليًّا بل ربما يكون ذلك استدراجًا له، وإذا كان جاهلاً أو
عاصيًا فإننا نجزم بأن ما ظهر على يديه استدارج له ليزداد إثمًا، هذا إذا لم يظهر لنا
أنه حيلة وشعوذة , ولذلك اشترط رحمه الله العلم الجازم بوقوع الخارق. فكيف حال
هؤلاء الأدعياء الجهلاء الذين يخدعون العوام بدجلهم وحيلهم ويهددون ضعفاء العقل
بالأمراض والمصائب إذا هم أنكروا عليهم حتى كأن الكرامات صناعة لهم وسلاح
يحاربون به الناس لأكل أموالهم بالباطل والسيادة عليهم بالبهتان.
لا تصدق أحدًا يدعي الولاية أو الكرامة أو يبث التلامذة والأعوان لدعواها
وإن أنذر بعض الناس بالمرض فمرض , فإن الدعيَّ دعيّ , ولا يغرنك ما تكتبه
الجرائد التي تسمى إسلامية عن بعض أهل الجاه منهم , وأنكر عليهم وانصح
للمسلمين بالإعراض عنهم , ووالِ من والى الله ورسوله بالعلم والعمل والنصح
للمسلين. وتبرأ من العصاة الجاهلين.