للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاتحاد [*]
ملخص خطاب كان ألقاه منشئ هذه الجريدة (المجلة) في منتدى حافل بعلماء
طرابلس الشام وحكامها ووجوهها أيام كان فيها لمناسبة اقتضت ذلك.
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) .
الاتحاد والالتئام حياة للهيئة الاجتماعية، بها قوامها ومحور لسعادتها الصورية
والمعنوية، عليه مدارها.
الاتحاد والالتئام في الأمة كالفصل المقوم في الهيئة النوعية، فمن شذ عن
الاتحاد من أفراد الأمة يعد خارجًا منها، وينبغي أن يحرم من حقوقها، كما أن فاقد
القوة الناطقة من آحاد النوع الإنساني يعد منسلاًّ من الإنسانية لاحقًا بالعجماوات.
الاتحاد والالتئام في المجتمع الإنساني كالجذب والانجذاب في العالم العنصري من
حيث التكوين والانتظام، أما الأول فكما أن الله تعالى فتق رتق الهباء الأول بناموس
الجاذبية العامة، وسوى منه الأجرام السماوية والكرة الأرضية - ولولا ذلك لكانت هباء
منبثًّا- كذلك يؤلف الله تعالى الأمم والدول بناموس الاتحاد والالتئام العام، ولولا ذلك
لسعى كل شخص في محيط نفسه، فلا يكون إلا هنيهة حتى تنقرض الأمة ويمحى
اسمها من لوح الوجود، وبمقتضى هذا الناموس يفهم سر {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: ٣٢) .
ويجدر أن يسمى العامل - أي عمل ينفع الناس - خادم الإنسانية، والجاني
على أي فرد من أفرادهم جانيًا على الآدمية، وبهذا الاعتبار يتبين أن العالم والحاكم
والزارع والصانع والتاجر والناظر كلهم أكفاء، وفي درجة واحدة، وإن كانوا
يتفاضلون باعتبار آخر.
وأما الثاني فكما أنه بمقتضى الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحفظت
النسبة بينه وبين سائر الكواكب بتقدير العليم الحكيم، كذلك بمقتضى الاتحاد والالتئام
يقوم كل فرد من أفراد الأمة بالعمل الذي يحسنه، ويحفظ النسبة بينه وبين سائر
أفراد الأمة من الحقوق والواجبات التي تأمر بها الشريعة العادلة {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: ٨٨) فلو نُزع روح الاتحاد والالتئام من نفوس الناس
لرزءوا باختصام واصطدام، كما تتصادم أجرام الكواكب، لو فقد منها الارتباط
الإلهي المعبر عنه بالجاذبية لظلوا في مباغضة ومناصبة، ومناهضة ومواثبة، حتى
يأذن الله تعالى بانقراضهم وما ذلك من الظالمين ببعيد.
فضيلة الاتحاد والالتئام والوفاق والوئام، هي أقدس السجايا وأنفس المزايا،
رغيبة تنبعث عن المحبة والألفة، وتبعث على القيام بالمصالح العامة، مع
الاتصاف بالأخلاق الفاضلة، وتلك غاية الغايات المشار إليها بحديث (بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق) .
لا جرم أن صدق المحبة والألفة للناس الكافل لحصول الغرض المطلوب، لا
يتأتى إلا بعد شعور المرء بأن مجموع الأمة كالشخص الواحد، وأن كل صنف من
أصناف العاملين فيها كعضو رئيسي في البنية الشخصية وأن تفاوت الأصناف في
المظاهر والرتب في النظر العام، لا يخرجهم عن كونهم أكفاء متساوين في المزية
تجاه الهيئة الاجتماعية، كما أن تفاوت الأعضاء الوضعي في تركيب البنية لا يوجب
تفضيل العينين على القدمين بالنسبة للمصالح الشخصية، لعلو تينك وتسفل هاتين؛
لأن الكمال الاجتماعي والشخصي وإبراز مزاياهما متوقف على كلا الأمرين على
السواء. ولا التفات لأهل البطالة المتكبرين بالأوهام، حيث يحتقرون الصناع
والزراع، فإنما مثل الفريقين كالأعمى والأصم والسميع والبصير، والنسبة بينهما
كالنسبة بين الأيدي والأرجل، وبين زوائد الأظافر والشعور لو كانوا يعقلون.
لست أعني بالشعور بما تقدم أن يمر في التصور أو يقع في الذهن، فإن ذلك
لا يغني شيئاً، وإنما أعني أن يكون أمرًا وجدانيًّا، وملكة نفسانية راسخة في النفس
تزعج المرء على العمل، وتنكب به على مزالق الزلل، ولا وسيلة لهذا إلا
التربية العملية، والتهذيب على أصول الحكمة الدينية العقلية، بنشر المعارف
الصحيحة بين جميع طبقات الأمة، وتلقينها للأحداث من الذكران والإناث، ونقشها
في ألواح نفوسهم من أول النشأة، لتثبت فيها ملكات الفضائل، وتقف بحب الذات
الذي هو علة العلل للشقاء موقف الاعتدال، فيسلكون في أعمالهم مهيع العدل الذي
هو مركز دائرة الكمال، ومدار فلك الفضيلة، ومبدأ السعادة الحقيقية بشهادة
{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: ٨) {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: ٩) .
ولقائل أن يقول: إن العلم غير العمل كما أشرت، فتلقين الأحداث المعارف
ليس كافلاً تهذيبهم، فلابد من مراعاة شيء آخر يساعد المعارف على التهذيب،
ويمد التربية العملية وينميها، حتى تؤدي إلى الغاية المقصودة منها، فإننا نرى كثيرًا
من الناس يعنون بتربية أولادهم ولا تنجع فيهم التربية، كما نرى الكثير من حملة
العلم بعداء عن التهذيب، فما هو الأمر المساعد للتربية والتعليم على هداية الصراط
المستقيم؟
والجواب: ذلك هو (التشبه والاقتداء) والكلام فيه طويل الذيل، متدفق
السيل. وإنني أقتصر منه على كلمة تقتضيها الحال، وتعد الزيادة عليها من
الإرغال [١] ، وهي أن الإنسان مولع بالاقتداء بالكبراء والعظماء ومحاكاتهم، فالحالة
التي يكون عليها الأمراء الجالسون على منصات الأحكام، والشيوخ المتصدرون
لإرشاد الأنام، لها تأثير عظيم في نفوس السواد، فإذا كان هؤلاء الرؤساء معتصمين
بحبل الوفاق والوئام، أثرت حالتهم في المرءوسين أثرًا محمودًا، وتضاعف نفوذهم
الحسي والروحي بالحق تضاعفًا مبينًا، وفي ذلك من التقدم الديني والمدني ما ينهض
بالأوطان، ولا يرتاب فيه إلا العميان.
(بقية الخطاب كلام خاص لا فائدة في نشره)