للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح بن علي اليافعي


شكل حكومة الإسلام
وضعف المسلمين باستبداد الحكام
مراجعة الشيخ صالح بن علي اليافعي من (حيدر أباد الدكن)
ورده الثاني على رفيق بك العظم

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ثم
أهدي السلام ورحمة الله وبركاته إلى حضرة العلامة الفاضل خادم السنة وقامع
البدعة مولانا السيد محمد رشيد رضا مدير المنار الأغر المنير، سلك الله بنا وبه
منهج الرشد والرضاء، آمين. وبعد، فإني وقفت على المراجعة التي كتبها حضرة
العلامة الفاضل كبير النفس وشديد الغيرة ورفيع الهمة، ذو المكارم الجمة، أخونا
رفيق بك العظم ونشرت في الجزء ١٧ من المجلد السابع من المنار تحت عنوان
(ضعف المسلمين بمزج السياسة بالدين) وافتنا هذه الرسالة في آخر رمضان شهر
الرحمة والغفران , ورأيتكم وعدتم بكتابة شيء في الموضوع فأخرت الجواب لعلمي
بأنكم إن فعلتم تأتوا بالحق الصراح وفصل الخطاب إن شاء الله. وفي رمضان
المعظم شاغل عما هو أهم من هذا , ووراء ذلك كله سبب آخر وهو أن محبكم
الحقير أصيب بالحمى , وحين حصلت الإفاقة ورأيت حضرتكم أرجأ البحث كتبت
إلى جنابكم هذه الكلمات لتنظروها أولاً ثم تصلحوا ما يلزم , ثم تنشروها في مناركم
الأغر. عسى بتكرار نشر هذه الأبحاث أن يجلي الله الصدأ عن متخيلات الأمة،
ويكشف عنهم الغمة والظلمة.
وأقول أولاً: ليعلم القراء الكرام أن هذه الأبحاث والمكاتبات والمراجعات
الصادرة مني ومن الأخ الفاضل رفيق - حفَّنا الله وإياه بالتوفيق - ليست من مباراة
المتنطعين، ولا من مغالبة المتعصبين، إنما مقصد كل منا ظهور الحق وبيان
الحقيقة التي هي ضالة كل مؤمن ومنصف , وغاية كل منا تنبيه أهل ملتنا على
حالتهم الواهنة وموقفهم الحرج المهين بإزاء الأمم المتراهنة في حلبة السبق إلى
مواقف الكمال وحلول منازل الشرف والسيادة. فيا عون الله ويا غارة الله ما لنا
وماذا حل بنا؟ أين الأنفة والغيرة التي يتحقق بها من يؤمن بقوله تعالى: {فَإِن
يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْن} (الأنفال:
٦٦) الآية؟ أعدم وثوق بوعده تعالى شأنه إيانا النصر؟ إنه لعار علينا أن نكون
من سلالة أولئك الأبطال الشجعان , ليوث المعامع والطعان الذين أجابوا بالتلبية
داعي الإيمان , ثم نحن نخضع ونرضى بخطة الذل وموقف الهوان، فوا عجباه
ووا أسفاه! أفهذا الجبن والجمود والعبودية لغير الله محبة في هذه الحياة المنغصة
التي يزهد فيها كل ذي شهامة؟ أم انقلب الأمر وعكست القضية حتى صدق علينا
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: ٩٦) وقوله تعالى:
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (البقرة: ٩٦) أما نتلوها كما كان يتلوها
أسلافنا في أناس أهانهم الله وسلطنا عليهم ثم أهانونا وتسلطوا علينا؟ أم كذبنا بما
وعد الله عباده المؤمنين تكذيبًا؟ وليت شعري كيف يتصور أن عقلاً يزهد في الدنيا
وفيما عند الله معًا؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن
تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) ويا ترى من أي صوب رمينا،
ومن أي وجهة بلينا، وما سبب هذا الداء العضال الذي حير ألباب الرجال؟
وأخونا الفاضل شريكنا في الألم والحزن والتوجع على القوم , وقد أبان في
ذلك من رأيه ما قد اطلع عليه القراء الكرام وأظهرت من رأيي ما ترجح لديَّ ,
وكان من رأيه أن هذا السقوط الذي يكاد أن يقضي على حياة الأمة باليأس والقنوط
سببه مزج السياسة بالدين منذ بدء الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا
الوقت المرذول , وشرحت من رأيي أن هذا المرض لم تصب به هذه الأمة إلا بعد
الخلافة النبوية , وسببه ترك الدين , وكلما امتد الزمان وبعد العهد زاد بُعدهم عن
الدين , وبذلك يزداد مرضهم وضعفهم الذي هم الآن يأنُّون من وطئته بلسان حالهم
لا بلسان مقالهم. وقلت: إنهم لو مزجوا السياسة بالدين كما أمرهم الله لما نزل بهم
ما نزل. الأخ الفاضل يدعوهم إلى تدارك ما فات العرب في بدء الإسلام من إقامة
سلطة شورية نيابية , وأنا ما أنكرت عليه ما استحسنه من هذه السلطة بل وافقته
عليها كما أني وإياه ككل ذي لب وغيرة مشتركون في الكآبة والنوح على ما أصاب
أهل ملتنا، وإنما أنكرت إطلاق أن سبب هذا الضعف هو مزج السياسة بالدين وتمنيه
أن لو تركوا الدين جانبًا والسياسة جانبًا، وتمنيه أيضًا أن لو سلك العرب في إقامة
الحكومة مسلك الرومان، وقوله في العرب: لعراقتهم في البداوة. والحال أنه يعلم أن
من العرب بدوًا وحضرًا , ومنهم تبابعة وسلاطين وأمراء وأقيالاً , ولو كانوا كلهم
أهل بداوة لما صح نهيه صلى الله عليه وسلم من تحضر أن يعود إلى البداوة.
والصحابة رضي الله عنهم هم سادات الحضر , وظني أن الأخ الفاضل إنما أطلق
هذا اللفظ على ما هو المتعارف في هذا الزمان من أن البداوة ليست نقصًا , أو لعل
مراده العرب غير الصحابة لأن صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم أنالتهم كل
فضيلة. فهم سادات الحاضرة ولكن لم يوجد لديهم تاريخ أساسي ولا سياسي للدولة
لكون أسلافهم متأصلين في البداوة وهذا الاحتمال هو اللائق بعلمه وفضله. وأنا
ذكرت أن الله تعالى أغنانا بما شرع لنا ولم يحوجنا إلى الرومان ولا إلى غيرهم
على أن الوقوف على معرفة أحوالهم وتواريخهم كان يومئذ متعذرًا وفي غاية
الاستبعاد , فطريقتهم مجهولة مهجورة , والحكومات التي كانت بذلك العهد شخصية
استبدادية , ولو قلنا: إن العرب بل وأكثر طوائف ذلك العهد لم يداخل متخيلاتهم
ولم يطرق أسماعهم شورى الرومان النيابية - لم يبعد قولنا , فاقتراح ذلك على العرب
أو غيرهم ليس في محله.
ورأيت أقرب من هذا الاقتراح لو أن المسلمين توجهوا إلى الآيات والأحاديث
التي تتعلق بالإمامة العامة والحكومة فجمعوها وفرعوا عليها كما توجهوا إلى ما ورد
في غيرها من سائر الفرعيات من عبادات ومعاملات وغيرها مما دونوه في كتب
الفقه وشروح الحديث وغير ذلك , وذكرت أنه لم يمنعهم ويصدهم عما ذكر إلا ظلم
ظلمة المستبدين , وقلت: إن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تكن إماراتهم
شخصية استبدادية بل خلافة شورية أمرهم الله بها ووصفهم بها ومدحهم عليها ,
وأنه لم يكن في استطاعتهم رضي الله عنهم نصب مجلس شورى انتخابي كالمعهود
في هذا الزمان عند النصارى أو يكاد أن يكون مستحيلاً لأن أكثر كبارهم وقرائهم
وعلمائهم الذين لو وقع انتخاب لم يتعدهم كانوا متفرقين في الغزو والجهاد في سائر
البلاد مشتغلين بقيادة المجاهدين ونشر الدين , ولو أقيم مجلس شورى انتخابي منهم
لفاتهم الغرض الذي لأجله بعث الله أنبياءه وأنزل كتبه وهو نشر الدين , والبعض
القليل بقي في جوار الخلفاء فمن ينتخب ومن يترك؟ ومن هي الرعية التي تنتخب؟
فلم يبق في استطاعة الخلفاء في إقامة هذا الواجب شرعًا وعقلاً إلا ما عملوا به
وهو أنهم كانوا إذا نابهم الأمر ينادون: الصلاة جامعة، فيجتمع مَن ثَم مِن المسلمين ,
ويعرض الأمر المستشار فيه , فهذا عذرهم فاحفظه. وأما من سواهم ممن جاء
بعدهم من الظلمة فقل فيهم ما شئت. بقي أن الصحابة رضي الله عنهم لم يدونوا
لمن يأتي بعدهم الطريقة لتأسيس السلطة العامة؛ فجوابه أنهم لم يجمعوا غير القرآن
حذرًا من تدوين كتاب مع كتاب الله، وقد ثبت ذلك في الرسالة السابقة.
أما قول الأخ الفاضل: إنه قد ثبت عند الأصوليين أن الأنبياء قد يخطئون في
اجتهادهم , والعرب في صدر الإسلام لو فرضنا أنهم اجتهدوا وأخطأوا فهل في ذلك
ما يدعو إلى استكبار ذكر هذا الخطأ؟ فأقول في جوابه: ما ذكره من جواز اجتهاد
الأنبياء ثم جواز وقوع الخطأ فيه الذي لا يُقرون عليه ذكره الأصوليون واضطربوا
فيه , وما جزم به هو الحق الذي عليه أهل الأثر إنما بقي أمر وهو إن كان
الصحابة وسائر العرب اجتهدوا وأقاموا الحكومة , وفرض أنهم أقاموها شخصية
مطلقة فأخطأوا كما ذكر، أفليس يلزم حينئذ تجويز الخطأ على إجماعهم وعملهم
المستمر؟ وأنا وهو لا نقول به , أما إذا لم يكن إجماع فإني لا أستكبر ذكر هذا
الخطأ إنما يستكبره الجامدون على التقليد الذين يحيلون الخطأ من أئمتهم ويستثنونهم
ممن يجوز عليه الخطأ من أفراد الأمة.
قال الأخ الفاضل: والرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة بل شرع
شرعًا. إلى أن قال: وليس هناك نص بعينه يبين كيفية تأسيس الدولة. كذا قال
وليس بصحيح على إطلاقه من وجوه:
(الوجه الأول) إن من أبعد كل بعيد أن يكون الشارع مع كمال حكمته
وعدله وعلمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض يدلنا على كل
أبواب الخير وطرقه , ورسوله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أكمل الأخلاق حتى آداب
العشرة وآداب قضاء الحاجة , ثم يهمل الإرشاد إلى هذا الأمر العظيم الذي به قوام
شرعه وصلاح حزبه.
(الوجه الثاني) ما هو الجواب إذا قالت الطواغيت المستبدة وحزبهم أعوان
الشياطين وبطانات السوء: إنكم إذا سلمتم أن الشرع لم يبين تأسيس الحكومة وإنما
تركها إلى اجتهادنا، فأي قباحة إذا اخترناها شخصية مطلقة؟ وإذا كانت إمارة الخلفاء
الراشدين مطلقة فلنا بهم أسوة فنحن مثابون على كلا التقديرين ومتبعون , وأما ما
ترونه من سلاطيننا ظلمًا فإنما هو باجتهاد منهم وهم مثابون على ذلك الاجتهاد أيضًا
لأن الأمور العامة منوطة بهم واجتهادهم كافٍ , ثم يقولون: إن الاستشارة الواردة
في الكتاب إذا لم تكن تأسيسًا للدولة ولا بيانًا لطرزها فإيجابها على أي أمير باطل،
وغايته أن تكون مندوبًا إليها استحبابًا.
(الوجه الثالث) إن السلطة العامة إما أن تكون جمهورية نيابية أو شخصية
مقيدة أو شخصية مطلقة لا سبيل إلى الأخير لأن تعيين الخليفة الشرعي مشروط
برضاء المسلمين واختيارهم له وبيعتهم , والأصل أن تبقى لهم هذه الحقوق بعد
نصبه وإلا فاتت فائدة منحهم إياها ابتداءً وأيضًا فلا تعقل حكمة لهذا الانتخاب
والبيعة إلا إذا استمرت للأمة هذه الحقوق في كل شئون الدولة؛ يؤيد ذلك حجية
الإجماع , وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة , وأنهم كالجسد الواحد إلى غير ذلك من
وصفهم بالاتحاد والاشتراك وتعميمهم بالخطاب ووصفهم بالتعاون على ما ورد من
أصول المدنية وتكميل كل خير عمومي , وفي القرآن والحديث من ذلك الكثير
الطيب , وكله منافٍ لتعيين أشخاص تستبد. فأقل حالات المستبد أن يكون عاصيًا
بتركه ما أمره الله وأوجبه عليه من استشارة المسلمين. وهذا الواجب لا يسقط
بمجرد اختياره أناسًا من خاصته الذين يتلونون بلونه ويتكيفون كيف شاء؛ إذ لا يكون
باستشارة هؤلاء مستشيرًا للمسلمين لا شرعًا ولا عرفًا , أما المستبد الظالم فتهديدات
الشارع وزواجره وإيعاده بغل يديه تارة وبالنار أخرى إلى غير ذلك من القوارع، لا
يبقى معها شك أن إقامة هذا القسم من الحكومات لا يأتي بها الشرع المتين، ولا
يرضاها الله ولا رسوله ولا المؤمنون، وتجويز أن الله شرع وأرشد إلى حكومة
مطلقة إنما يقوله البغاث والغثاء الذين لا يعبأ الله بهم المتزلفون بالمصانعة والنفاق
إلى طواغيتهم الظلمة , فقولهم هذا عار وخزي على المسلمين كما أنه كذب صريح
على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , فهو تنقيص لإكمال الأديان يقتضي نسبة
الظلم وتقريره والرضاء به على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , وأن يكون
الشرع آتيًا بنقيض ما تستحسنه العقول السليمة , ويكفي في رد هذا القول مجرد
حكايته , ويكفي في عدم المبالاة بقائليه الذين هم أهون على المسلمين من قمامة
الطريق مع وضوح افترائهم صغر أنفسهم وسقوط هممهم واقتصارهم على الحظوظ
الشخصية , واختيارهم هذا العرض الأدنى واستبداله بالذي هو خير , وتركهم
الإنسانية واعوجاجهم عن طريق العقلاء مع الوقاحة وقلة الحياء والغيرة , قلل الله
عددهم وأخزاهم.
وإذا بطلت الحكومة المطلقة شرعًا وعقلاً بقيت الحكومة المقيدة والحكومة
الجمهورية النيابية، فإذا نظرنا بالإنصاف والعدل ورمينا الإفراط والتفريط بعيدًا
عنا رأينا أن الشارع لم يهمل هذا الأمر المهم العظيم , وأن إرشادات الكتاب والسنة
دائرة على جواز تأسيس إحدى هاتين الحكومتين على التبادل واختيار إحداهما
بالمصلحة التي تقتضيها حاجة المسلمين , وعلى الحكومة الأولى مضت سنة الخلفاء
الراشدين , ويدل عليها قوله تعالى مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} (آل عمران: ١٥٩) وقد قرر علماء الأصول أن الأمر
يقتضي الوجوب , فهذه الآية أصل عظيم في جواز تأسيس الحكومة الشخصية
المقيدة بالشورى، بيانه أن الاستشارة واجبة , وترك الواجب معصية فترك
الاستشارة معصية , وقد جاء في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)
والسلطان المستبد مخالف لأمر الله في حكمه , وكل مخالف لأمر الله في حكمه لا
يرضاه بل يسخط عليه فالسلطان المستبد لا يرضاه الله شرعًا فلزم أن هذا السلطان
لا طاعة له ولا يرضاه الله فلا يكون شرعيًّا إلا إذا كانت سلطته مقيدة بالشورى ,
فالمسلمون ينصبون الخليفة ويولونه , وهذه الآية الكريمة تقيد سلطته , وتبين طرز
الحكومة , فتعينه ونصبه بأيديهم , وأمور الحكومة مشتركة بينهم وبينه بحكم الشرع
والعقل , ويجب عليهم نصحه وطاعته في كل منصوص شرعًا , أو ما أجراه بعد
إبرام أهل الرأي والمشورة , وتكون طاعته في الأمر الأول كوجوب امتثال حكم
القاضي، ولا يلزم في أحكام القضاة المنصوصة المشاورة , وإذا كان الله أمر
رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاورة المسلمين مع عصمته وتأييده بالوحي من
السماء فما بالك بمن يجوز عليه الخطأ وهو يدعي النيابة عن هذا الرسول المقبول
وأنه من أتباعه وأمته، أيليق به أن يرغب عن نهج متبوعه إلا أن يكون كاذبًا في
دعواه ماردًا متمردًا , والله تعالى لا يرحم المارد المتمرد.
ووالله إن هؤلاء الظلمة وأعوانهم قد تجرءوا على الله وخالفوا أمره واتبعوا
غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين , وخالفوا العقول واستغنوا عما
لم يستغنِ عنه من يدَّعون أنهم نائبون عنه. أفسدوا أمر الأمة وأوهوا قواها وأماتوا
إحساسها وشعورها , ولقد بلغ هؤلاء النوكى من التهافت المبلغ الأردأ وهم للأمة
والدين والعقل أعداء. فلا أهلاً ولا سهلاً بهذه الوجوه القامحة ولا سمعًا ولا طاعة
ولا هم أمراؤنا بل الخصوم اللدّ. ولكن ذلك عقاب ما كسبت أيدينا، والتقصير منا
واللوم عائد علينا إذ وسدنا أمورنا إلى مثل هؤلاء وجعلناهم مختارين، وخالفنا بذلك
ديننا وعقول العقلاء ولو أنا نشترط مع تأمير كل أمير ما يضمن لنا السلامة من
فجوره وفتكه في أمورنا وأنفسنا لما تعدى طوره [١] .
أليس من العجيب الغريب أن نأتي ونعمد إلى شخص كسائر أفرادنا فنرفعه
ونعلي رتبته ونوليه أموالنا وأعراضنا وأنفسنا ونحن نرى ونذوق من أمثاله من
مزارات الاستبداد والظلم ما يضعضع الجبال ولا يجهله الأطفال , ومع ذلك كله لا
نشترط عليه شروطًا شرعها الله وقضى بها العقل؟ وهل هذا إلا عار على الإنسانية
وترك للدين أو سفاهة وجنون؟ اللهم سلم سلم، أما الحكومة الثانية أعني الجمهورية
النيابية فيستدل على جوازها بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: ٥٥) وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) بيانه أن وعد الله لهم بالاستخلاف جاء لتبشيرهم
وإدخال السرور على جميع المسلمين وهو لا يتحقق إلا إذا كان أمر الاستخلاف
مشتركًا بينهم ولكل فرد منهم فيه حق يستوفيه ويباشره بنفسه أصالة أو بإنابة من
يثق به , وهذا المعنى يتم بانتخاب النواب في الجمهورية , فالآية تدل على هذه
الحكومة وتحتمل الدلالة على الحكومة المقيدة أيضًا كل منهما في الوقت اللائق به.
أما قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) فهي تبين
وصفهم على سبيل المدح والرضاء والتقرير في الحال والاستقبال والمراد بالأمر
الذي لا يجوز إرادة غيره الأمر الذي أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم
فيه جعله في هذه الآية بينهم مشتركًا لم يخص به أميرًا دون مأمور على تنزيل
المعدوم الموعود به في آية الاستخلاف منزلة الموجود , والخبر بهذه الصفة يفيد
معنى الأمر مع زيادة تأكيد لدلالته على الحال والاستمرار بخلاف الأمر بصيغته
ولفظه فإنه لا يدل على التجدد.
ومما يحتمل أن يراد به هذه الحكومة أو شبيهتها قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: ٥٩) الآية، وللمفسرين في أولي الأمر قولان: الأول: الأمراء , والثاني:
العلماء. ومآل التفسيرين ومعناهما واحد لأن الأمراء الذين يأمر الله بطاعتهم
لا بد وأن يكونوا علماء , وقد تقدم أن الله لا يرضى بتأمير الجهلة ولا يأمرنا
بنصبهم للخلافة قط , ولا يجوز لأي طائفة من المسلمين أن يختاروا للإمارة من كان
بهذه الصفة سواء كان من نواب جمهورية أو من أهل شورى مع الإمام أو من سائر
العمال. وجه دلالة الآية أن المأمور بطاعتهم في هذه الآية جماعة لا سيما على قول
من قال: إن أولي الأمر العلماء، ولا تتحقق إطاعة كلهم أو أكثرهم إلا إذا كانوا
مجتمعين معينين بالشخص والزمان والمكان , واتفاقهم على أمر واحد , وكل ذلك لا
يتصور إلا في الجمهوريات أو ما شابهها على الأقل. والمراد بالعلماء العلماء
بالكتاب والسنة إذ لم يكن إذ ذاك علماء سواهم , وهم الذين يردون فصل متنازعاتهم
إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , أما المقلدة فإنما يتحاكمون إلى كتب مذاهبهم
وإلى ما وجدوا عليهم آباءهم من كتب وأقوال مشايخهم , والعلماء والأئمة ذموا
المقلد ونهوا عن تقليدهم وقالوا: المقلد حاطب ليل , وقالوا: ليس هو من العلماء ولا
هو داخل في عدادهم وزمرتهم.
وأيضًا قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: ٥٩) يؤيد ويوضح أن المراد بذلك طاعة أهل الحكومة الجمهورية أو
ماهي قريبة منها ومشابهة لها , إذ لا مراجعة ولا رجوع بعد النزاع إلا في هاتين
السلطتين , أما حكومة الفراعنة والنماردة المستبدة فلا يستطيع أحد من الأعيان
فضلاً عن عامة الرعية مراجعة أصحابها، فما بالك بمنازعتهم.
وأيضًا قوله تعالى (في شيء) عام يدخل فيه التنازع في كل الأشياء , وبعض
هذه أشياء الحكومة، فإذا كان المتنازع فيه أمرًا من أمور الحكومة فالمتنازعون فيه
هم أهلها وهو المراد. يؤيده أنه لو كان المتنازعون غير أهل الحكومة لكان رد
تنازعهم إلى أهل الحكومة ليفصلوا بينهم بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
فلزم أن أهل الحكومة هم المتنازعون، وذلك لا يكون أبدًا إلا إذا كانت الحكومة
جمهورية أو قريبة منها، والله أعلم.
وهذه الآية الكريمة حملها أعوان السلاطين المستبدين على غير محملها
وأرادوا منها غير ما أراده الله، فموَّهوا على المسلمين وخوَّفوا بها العامة وقادوهم بها
مرغمين افتراء على الله ورسوله {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: ٢٢٧) من زوال النعمة والرياسة ثم غضب الله وعذابه.
بقي أمر وهو ما إذا تغلب على أمر المسلمين أحد هذه الطواغيت، فهل يجوز
خلعه والخروج عليه أم لا؟ والحق أنه يجوز خلعه أو يجب , وأما الخروج عليه
فلا يخلو إما أن تترجح المصلحة على المفسدة , وإما أن يتساويا , وإما أن تترجح
المفسدة على المصلحة ففي الصورتين الأوليين الجواز أو الندب , وفي الأخيرة
اختلاف , والجمهور من المتأخرين قالوا بالمنع , وأجازه كثير من السلف , وقد
خرج جماعة من كبارهم على جبابرة زمانهم ولم ينقل إلينا عن علماء ذلك العصر
إنكار عليهم ولم يبدعهم أحد منهم ولا من المتأخرين القائلين بالمنع أيضًا , أما
الأحاديث في هذا الباب فهي كثيرة وبعضها قد يوهم التعارض , ومن جمع بين
أطرافها وتحقق فحوى خطابها عرف أن الأولى والأفضل عدم الخروج في هذه
الصورة لا عدم الجواز؛ لأن السائل لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أجالدهم
بسيفي هذا؟ قال له: (ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك) وأرشده إلى الكف
عنهم , ووقع مثل هذا السؤال من كثير من الصحابة فأجابهم مثل ذلك أو مقاربه ,
وهو لم يقل لأحد منهم: إنك إن فعلت ذلك تكن من الظالمين المعاقبين , وفي
بعضها إطلاق الأمر بالطاعة وفي بعضها تقييدها بغير المعصية وقد كان هؤلاء
السائلون أفرادًا كل واحد يسأل عما يفعل حاله كونه منفردًا فجوابه صلى الله عليه
وسلم بالكف والصبر يحتمل أن يكون من باب الشفقة ولئلا يكلفهم ما لا يطيقونه مع
تحقق عدم المنفعة والجدوى بخروجهم , أو لئلا يفتح باب الفتن لأمته وخوفًا من أن
يحمل كل ظالم من أهل البغي وقطاع الطريق سيوفهم بدعوى التأويل فيخرجون
على الأمة يضربون برها وفاجرها , وقد صرح بهذا عليه السلام وروي عنه في
أحاديث كثيرة فأرشد إلى ما هو الأحوط والأفضل.
أما إذا كان الخارجون على هذا الظالم طائفة يترجح عادة أن يزيلوا ظلمه
ويكبحوا جماح غيه؛ فلا ريب ولا شك في جواز خروجهم عليه حيث أمن أن يكون
خروجهم فرصة يغتنمها عدو الدين -أعني الكفار- فإذا أمن هذا المانع فأقل الحالات
دخول جواز الخروج في عموم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي
تؤذن بجواز ذلك إن لم نقل باستحبابه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى
منكم منكرًا فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فلينكره بقلبه) -
وفي روايات زيادة - (وذلك أضعف الإيمان) .
قال أخونا الفاضل: والذي يستنتج من رأيه هذا أن الخلافة لو بقيت باختيار
أهل الحل والعقد ووسدت إلى أهلها ممن عناهم حضرته لما حل بالأمة من مصايب
الاستبداد ما حل , ولما طرأ على الدولة الإسلامية من الضعف ما طرأ - إلى أن
قال: وما دام مسلِّمًا معنا بهذه المقدمات فقد كان يلزمه أن يبحث عن السبب الذي
أفضى بالخلافة إلى غير أهلها , ويبين الوجه الذي يضمن بقاءها على ما تركها
عليه الخلفاء الأولون سائرة على نهج الحق والعدل لا سبيل لأولئك النازعين إلى
الملك المتوثبين على الخلافة إلى خرق حرمتها , والتغلب على من كانوا أهلها
وأحق بها، ويرى ما الذي أدخل على مركز الخلافة الاضطراب من عهد الاضطراب
عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه حتى زعزعته عواصف الفتن إلخ.
وأقول: قد تقدم لنا ذكر تأسيس الحكومة الإسلامية شرعًا وبيان خلافة الخلفاء
الراشدين بما له وما عليه وفيه الكفاية على اختصاره , وجواب هذا السؤال أن نقول:
قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن
تَشَاء} (آل عمران: ٢٦) وإلا فهل يمكن أن يكون في طوق البشر صد كل
الحوادث والاحتراز عن جميع الطوارق التي تأتي على غير المعتاد والمنتظر وهل
يلزم من وجود الأسباب انتفاء المعارضات والموانع؟ لا شيء يقطع للملك بالدوام
ولو بلغ من الانتظام والإتقان ما بلغ، وإلا فليبين لنا أخونا الفاضل ما هو السبب
الذي تداعت له أركان جمهورية الرومان، ولماذا هاج وماج وذهب أدراج الرياح
ذلك النظام المستقر على النواميس السياسية والبراهين العقلية الطبيعية لحكومة
كانت نيابية تتجدد في أوقات مقررة فاضمحلت بعد الهرم حتى لم يبق لها عين ولا
أثر أيام ظهور الإسلام والفتح الإسلامي؟ والحق أن يقال: سنة الله في خليقته
{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: ١٤٠) ونحن لا نترك الأسباب
بل نعمل ونجتهد فإذا غلبنا فوضنا مع الاعتراف بأن لله الحكمة البالغة وهو
أعدل الحاكمين وما أصابنا من مصيبة فيما كسبت أيدينا.
على أن سبب تلك الأعاصير والزوابع التي زعزعت سرادقات الخلافة في
دورها الثالث معلوم منشؤها، ألا وهي دسيسة ذلك الوزغ الطريد راجت على أولئك
الأغبياء الذين أوردوا الخليفة حياض المنون , وفتحوا على الأمة باب الشر والبلاء
وهم لم يأتوا ما أتوا بدعوى دينية , وإنما ساقتهم إلى الخروج سورة غضب من لم
يستثبت ولم يغضب لله ولدينه. يوضح ذلك طلبهم واقتراحهم عليه ما لا يستحقونه
شرعًا من خلع نفسه أو تحويلهم ذلك الطريد المنحوس، والأول ليس لهم إنما هو
إلى كبار الأمة أهل الحل والعقد، وتأديب المجرم إلى الحاكم وهو هو إذ ذاك , ولو
أنهم طالبوه بالحقوق الواجبة عليه للأمة من إقامة مجلس شورى ونحوه؛ لكان هناك
شبهة على أنهم قاموا عليه بدعوة دينية. على أن تلك العصابة كانوا قبل ذلك
الحادث المحزن خاضعين مذعنين له باستحقاقه الخلافة أو حقيتها، وعلى كل حال
فالأولى بنا أن نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} (البقرة: ١٣٤) الآية وإنما موضوع
البحث أن الشارع هل وضع أصلاً تؤسس عليه الحكومة أم لا؟ وقد مر بيان ذلك.
وقوله: فإذا توهم أخونا الفاضل أن هذه الحياة لا تكون طيبة سعيدة إلا إذا
انصبغت بصبعة الدين فما رأيه في اليابانيين وهم من الوثنيين؟ جوابه أني لم
أتوهم ذلك ولم أقل أن العقل بمجرده لا يدل على حسن هذه الحياة السياسية , وإنما
قلت: إن المسلمين هم أولى بها عقلاً وشرعًا. هذا وقد اتفق العقلاء على أن أقوى
أسباب الاتحاد والتعاون والهجوم والدفاع هي الرابطة الدينية , والجابانيون وإن
كانوا وثنيين ومعارفهم ليست فرعًا عن داعٍ ومحرك دينيّ فاتحادهم وثباتهم في
ميادين الوغى المشهودة إنما هو ناتج عن اتحادهم الديني بزعمهم و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥٣) .
أما من تركوا الأديان بالكلية وانخرطوا في سلك الدهرية فاتحادهم المتكلف
للمصلحة هو أوهى من بيت العنكبوت , ولذلك لا تجد دهريًّا متحققًا بدهريته شجاعًا
أبدًا، بل هو أحرص الناس على الحياة وأشد الناس حرصًا وجهدًا في أسباب الثروة
والراحة لا يبالون من أي طريق وجدوها سواء لديهم الخيانة ونقض العهد والاغتيال
والظلم إلا إذا خافوا ضررًا يحبط أعمالهم أو صعوبة تؤدي إلى إنفاق الأنفس
والأموال والمنفعة المترقبة لهم في مقابلة ذلك أقل. فإذا توجسوا أمامهم هذه العقاب
والصعاب تكايسوا وعادوا إلى روغانهم وكلامهم المشهور عنهم من ذكر المدنية
وحب الأمان والإنسانية وشبهها من حبالات مكرهم وخداعهم. والعقلاء منهم عرفوا
ذلك من أنفسهم ولهذا تلبسوا بلباس عامتهم الديني , وشاركوهم في رسومه الظاهرة
حرصًا منهم على بقاء الرابطة الدينية في عامة أقوامهم. وهم تحققوا وعرفوا أن
العامة تكون بدعوة الدين ترسًا وحائلاً عظيمًا لحفظهم وصد كل هاجم على بلادهم
وأعراضهم وأنفسهم وأموالهم، وتارة يصدرون العامة ويتخذونهم آلة للهجوم وفتح
البلاد , أما أن أحدًا من هؤلاء الدهرية التاركين للدين يستميت في هذه السبيل فحاشا
وكلا؛ لأن ذلك مُنافٍ للوازم ما زعموا أنهم درسوه من علومهم , ومناقض لما قام
بأنفسهم واعتقدوه , وإن شذ أحد منهم فذلك لأسباب أخرى كأن تنغصت حياته بالآلام
حتى انقلب عليه نعيمها عذابًا وصفوُها كدرًا , وحينئذ قد يرغب بعضهم عن هذه
الحياة , ولهذا وأمثاله ترى بعض هؤلاء ينتحر باخعًا نفسه وهؤلاء هم كبار الزنادقة
وعلماؤهم، ومثلهم في حب الحياة والحرص عليها مَن تديَّن بدين يعلم بطلانه كاليهود
الذين كانوا في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم.
وفي مقابلة هؤلاء وعلى نقيضهم علماء الإسلام وأهل الإيمان وحزب
الرحمن الذين يتحابون في الله ويتعاونون له مستعينين به، ويشفقون على أهل
ملتهم وعوامهم ابتغاء مرضاة الله تعالى لا يبخلون ولا يجبنون ولا يتخذون العامة
وقاية وترسًا بل يتقدمون الصفوف ويصافحون الحتوف رجاء فيما عند الله ومزيد
رضاه {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: ٩)
تحققوا بوراثة النبيين وعلموا أنه ما من فضيلة ومزية أخروية أو دنيوية إلا والوحي
وفق العقل رائدها ودليلها وموضحها إيجابًا أو استحبابًا أو إباحة , وأنهم مثابون في كل
ذلك حتى في اللقمة يرفعها أحدهم إلى فيه، وما من رذيلة أو إثم أو نقيصة دنيوية أو
أخروية إلا وقد كرهها لهم الدين المبين. فكل العلوم والمكاسب التي فائدتها ونفعها
أكثر من مضرتها المستعملة لتقدم الطوائف وشرفها فأكثرها لا ينحط حكمها
عن فروض الكفاية وقد يكون بعضها من فروض الأعيان ومنها ما يستحق حكم
الاستحباب , وأقل حالات بعضها الإباحة ومن عرف دين الإسلام عرف ما ذكرناه.
ولما فسد هذا الصنف من المسلمين فسد سائر الأمة إلا أناسًا قليلين غرباء لا
يزالون يدْعون إلى الصلاح والإصلاح فنسأل الكريم المجيب أن يكثر عددهم
وعُددهم ويؤيدهم بروح منه. ولقد ظهرت في هذا العصر تباشير الظفر والنجاح،
وطلعت أعلام الهدى والنجاح، وزال الغطاء عن أذهان كثير من المسلمين فلا يزال
يزداد اشتراك المسلمين في معارف هذه الطائفة المصلحة , وذلك بفضيلة مولانا
الإمام وشيخ الإسلام المفتي محمد عبده توَّجَه الله بتاج عزه، وأخزى عدوه وأزّه،
وأرداه في رزءه، ووقفنا الله وإياه إلى الحق وإشاعته، وإرضاء الله وطاعته،
وأعان من تصدى لخدمة هذه الطائفة وبذل المجهود والجهد في إظهار الحق ونشره،
آمين.
أماّ قول أخينا الفاضل أني استعظمت قوله بترك الدين جانبًا والسياسة جانبًا
حتى تفرس في سوء الظن به حفظه الله فصحيح , ولقد صدقت فراسته والحق أحق
أن يقال , وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتقوا فراسة المؤمن) الحديث
وكان ذلك قبل معرفتي بحاله , أما الآن فقد ذهب ذلك الظن وأستغفر الله لي وله
وسرني سرورًا لا مزيد عليه موافقته إياي على ذم التمذهبات والتقليد الذي فرق
المسلمين ونهك اتحادهم , وذكر أن له فيه كلامًا طويلاً في كتابة (أشهر مشاهير
الإسلام) وددت لو أني اطلعت عليه , ولكن حتى الآن لم ييسره الله لي جعلنا الله
وإياه من حزبه , ووفقنا للعمل الصالح واتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
في ٣ ذي القعدة سنة ١٣٢٢ ... ... ... ... (صالح بن علي اليافعي)
(المنار) كثر في هذا الزمان الطعن في الإسلام حتى من بعض المنتسبين
إليه , وأشد ما يطعنون فيه شكل الحكومة؛ إذ يظن الأجانب أنها حكومة ملكية مطلقة,
ومن المسلمين المشتغلين بالقوانين من يطن ذلك , ومنهم من يقول: إن الشريعة
الإسلامية لم تبين شكل الحكومة ولم تضع لها أصلاً. ثم إن المستبدين الذين اتخذوا
علماء السوء أعوانًا يقنعون العامة بأن الخضوع للسلطة الاستبدادية الشخصية فرض
ديني حتى إنه ليوجد في العامة من يعتقد أن انتقاد أعمال السلاطين كفر. بل سمعت
رجلاً خطيبًا ومدرسًا رسميًّا يقول: من يعترض على السلطان فأنا لا أعتقد بصحة
إسلامه. لهذا نرى كثيرًا من أصحاب الغيرة طفقوا يبرءون دين الإسلام الحق
وشريعته العادلة مما يقول الأعداء له والجاهلون به. ورفيق بك يوجه كلامه إلى
هؤلاء المعاصرين ويريد من الدين القسم التعبدي الذي يجب الأخذ فيه بظواهر
النصوص الواردة في الكتاب والسنة بلا تصرف ولا زيادة ولا نقصان , ولا ينكر
أن للحكومة أصلاً اجتهاديًّا في الشريعة , فكلامه في ترك الدين جانبًا مبني على
الفرق بين القسم الديني المحض من الشريعة والقسم الدنيوي المحض وهو اصطلاح
عصري , وكلام الشيخ صالح اليافعي مبني على عدم التفرقة وهو الاصطلاح
الإسلامي القديم وقد فتحنا بابًا في المنار لمناظرتهما ليتجلى الحق في هذه المسألة
العظيمة التي هي مصدر كل شقاء. إذ لا يتجلي البحث الذي عمي على أهله قرونًا
طويلة إلا بكثرة المراجعة وإيضاح الدلائل. وأما أهل الذكاء والاطلاع فيكتفون بما
هو دون ذلك، وقد نشرنا في المجلد الرابع ما ورد في الأخبار النبوية وآثار السلف
في مسألة الحكومة الإسلامية , وجمعنا بين الأحاديث التي أشار إليها الشيخ صالح
في مقالته هذه. والأحاديث التي أوردناها هناك ثلاثون حديثا ونيفًا، وقد جلى الأخ
الصالح أصل المسألة على أن في بعض كلامه مجالاً للبحث , وإن لنا لعودة إلى
الموضوع في زمن قريب إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))