للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب الإمامة والسياسة

كنا نسمع بهذا الكتاب ونرى اسمه في الكتب فنتمنى لو نراه لمكان مؤلفه أبي
عبد الله بن قتيبة في العلم وتقدمه في الزمن , فهو من أهل القرن الثالث ومن
أصحاب الرواية حتى أتاح الله لطبعه في هذه السنة محمد أفندي محمود الرافعي
وهو تاريخ للخلفاء الراشدين ومَن بعدهم من ملوك المسلمين إلى عهد المأمون.
والكتاب في انسجام عبارته وتحري مؤلفه في روايته مما لا يستغني المسلم عن
قراءته، ومن قرأه معتبرًا يعرف شيئًا من قوة روح الإسلام , وكيف أحيا الله به
هذه الأمة حتى صار يؤثر عنهم من العدل والحكمة وهم لم يدارسوا السياسة ولا
تربوا في حجورها - مالا يؤثر مثله عن ملوك أوربا وحكامها على رقيهم المشهود
في العلوم الاجتماعية والسياسية , وأخذ أممهم على أيديهم. ومما نحب توجيه النظر
إليه المقارنة بين ملوك المسلمين وأمرائهم حتى بعد أن صارت الخلافة ملكًا
عضوضًا مخالفًا لكثير من أصول الإسلام , وبين ملوكهم وأمرائهم في هذا الزمان
الذي انحطت فيه الأمة إلى حضيض الهوان. فما أورده في ذلك:
(دخول سفيان الثوري وسليمان الخواص على أبي جعفر المنصور)
ومما ذكره عن سفيان أنه أجاب أبا جعفر عندما قال له: إلىّ إليّ ادن مني؛
بقوله: إني لا أطأ ما لا أملك ولا تملك. فقال أبو جعفر: يا غلام أدرج البساط
وارفع الوطاء فتقدم سفيان فصار بين يديه , وقعد ليس بينه وبين الأرض شيء
وهو يقول: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه:
٥٥) فدمعت عينا أبي جعفر , ثم تكلم سفيان دون أن يستأذن فوعظ وأمر ونهى
وذكََّر وأغلظ في قوله , فقال له الحاجب: أيها الرجل أنت مقتول. فقال سفيان:
وإن كنت مقتولاً فالساعة. فسأله أبو جعفر مسألة فأجابه. ثم قال سفيان: فما تقول
أنت يا أمير المؤمنين فيما أنفقت من مال الله ومال أمة محمد بغير إذنهم، وقد قال
عمر في حجة حجها , وقد أنفق ستة عشر دينارًا هو ومن معه: (ما أرانا إلا وقد
أجحفنا ببيت المال) وقد علمت ما حدثنا به منصور بن عمار - وأنت حاضر ذلك ,
وأول كاتب كتبه في المجلس - عن إبراهيم بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رب متخوض في مال الله ومال رسول
الله فيما شاءت نفسه له النار غدًا) فقال أبو عبيد الكاتب: أمير المؤمنين يُستقبَل
بمثل هذا؟ فقال له سفيان: اسكت فإنما أهلك فرعونَ هامانُ وهامانَ فرعونُ. ثم
خرج سفيان , فقال أبو عبيد الكاتب: ألا تأمر بقتل هذا الرجل؟ فوالله ما أعلم أحدًا
أحق بالقتل منه. فقال أبو جعفر: اسكت يا أنوك (أي يا أحمق) فوالله ما بقي
على الأرض أحد اليوم يُستحيا منه غير هذا ومالك بن أنس. اهـ.
ومثل هذه الرواية كثير في الكتاب وغيره. هذا وقد كان الإمام مالك الذي قال
فيه المنصور ما قال يرى عدم صحة بيعته على علمه وفضله؛ لأن الحكومة كانت
دخلت في طور الإطلاق المخالف للشرع , وإن لم يكن ثَم قانون غير الشرع.
فانظر ما أبعد الفرق بين المنصور وأمثاله على علاتهم وبين ملوكنا وأمرائنا
المتأخرين , وهل يطيق أحد منهم أن يسمع من عالم كلمة حق. على أنهم قد
شرعوا لأنفسهم من الحقوق ما لم يأذن به الله كتعطيل الأحكام الشرعية واستبدال
القوانين بها , ومنع الجند والعمال أرزاقهم , وهبة ما شاءوا من بيت المال بغير
الحق. وهذه الأخيرة قديمة عهد. ونوجه أنظار القراء إلى ما في الكتاب من دلائل
الحياة الأدبية كخطب موسى بن نصير , والمقارنة بينها وبين حياتنا اليوم.
والكتاب جزءان في مجلد واحد , وثمنه عشرة قروش صحيحة , وأجرة البريد
قرش ونصف , وهو يطلب من إدارة مجلة المنار , ومن المكتبة الأزهرية.