للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة
البحث الثالث
في عرض المسألة على كتاب الله وسنة رسوله
اعلم أن الله عز وجل قد أمر بفهم كتابه الكريم، والعمل بسنة رسوله الرؤوف
الرحيم، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: ٢٤)
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: ٧)
وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه ترك لنا شيئين لا نَضل إذا تمسكنا بهما أبدًا وهما:
كتاب الله وسنة رسوله، وقد أمرنا الله بأن نعرض ما تنازع فيه الناس واختلفوا
على الله ورسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) وقال أيضًا: {إِنَّمَا كَانَ
قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: ١) وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: ٦٥) فهذه الآيات
ونحوها تدل أبلغ دلالة على أن المرجع مع الاختلاف إنما هو إلى حكم الله ورسوله،
وحكم الله كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله هو ما صح عنه من الأحاديث، ولا
يقال: إن ما استشهدت به وارد في أمر مخصوص فلا يصلح دليلاً؛ لأنا نقول:
(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وهو مطلق حكم في مطلق اختلاف
ومشاجرة، ولا ريب أن الأمر هنا للوجوب؛ إذ إن الله قد تعبدنا بكلامه وكلام
رسوله دون سواهما من الخلق؛ لأنهما هما عليهما المعول وكلام غيرهما قد يخطئ
وقد يصيب؛ فلذا قال إمام أهل المدينة مالك بن أنس - رضي الله عنه -: (ما منا
إلا من رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبر الرسول الأعظم - صلى
الله عليه وسلم - وقد نقل عن الأئمة الأربعة وغيرهم - رضوان الله عليهم -
جمل كثيرة كلها دالة على أن الإنسان لا بد أن يعرض الأحكام كلها على الكتاب
والسنة، فما وافقهما عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره.
ولما كانت مسألتنا هذه مما اختلفت المذاهب فيها ليس بين الشافعية وغيرهم
فقط؛ بل بين الشافعية أنفسهم - أمواتهم وأحيائهم - وجب علينا أن نعرضها على كتاب الله وسنة رسوله، وقد بينا مسألة التعدد بيانًا شافيًا، وعرفنا أنه لم يرد نص يمنعه من القرآن ولا الأحاديث، وأن مذهب الشافعي يقتضي التعدد عند الحاجة إليه.
وقد بقي علينا عرض مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة مع تعددها فنقول:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: ٩) ، ثم قال: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً
لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: ١٠) فأنت ترى أنه قد أمرنا بأن ننتشر في الأرض بعد
انقضاء الصلاة ونطلب من فضل الله ولم يأمرنا أن نصلي الظهر بعد الجمعة ولم
يقل إن تعددت فصلوها، فمن أين استنبطنا هذه الصلاة ومن أين أتينا بها حتى إنه
قد ورد أن النبي ما كان يصلي سنة الجمعة البعدية في المسجد، بل كان يذهب
ويصليها في البيت عملاً بهذه الآية؛ لأنه تعالى أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة يدل
على ذلك ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: (أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة، وعنه (أنه
إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان
بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد)
رواه أبو داود، قال الآلوسي عند تفسير هذه الآية: (وأخرج أبو عبيد وابن
المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بر الحراني، قال: رأيت عبد الله
ابن بر المازني صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الجمعة خرج فدار
في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له لأي
شىء تصنع هذا، قال: إني رأيت سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - هكذا
صنع وتلا هذه الآية (فإذا قضيت الصلاة) إلخ، فعلم من هذا أن الكتاب لا ينطق
بلزوم الظهر بعد الجمعة مع التعدد بل يفهم منه خلاف ذلك لأن الأمر بالانتشار
مطلق غير مقيد.
وأما السنة السَّنية، والأحايث النبوية، فهي طافحة بما يدل على خلاف ذلك
ويناقضه كل التناقض، إذ معلوم من الدين بالضرورة أنه لم يثبت عن النبي القول
بصلاتها مع تعدد الجمعة وأنت تعلم أن الدين قد كمل في عهده - صلى الله عليه
وسلم - بحكم قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: ٣) فلا حاجة لنا إذن بعبادة لم نُؤمر بها.
هذا ولو أردنا أن نبحث لوجدنا التعدد لحاجة الغير حاجة ليس شرطًا في صحة
الجمعة تفسد بفقده لما علمت في البحث الأول من أنه لم يرد نصّ عن المعصوم ولا
عن الصحابة ناطق أو مقتض لعدم جواز التعدد ولو لغير ضرورة، وأما كونها
لم تفعل إلا في مصلى واحد فليس بدليل لما أوضحناه لك سابقًا إيضاحًا شافيًا، ولما
هو مقرر من أنه لا ينسب لساكت قول، على أن إيجابكم عدم التعدد؛ لأنها لم تعدد
في زمن الرسول يلزمكم أن توجبوا الخروج لصلاة العيد خارج البلد؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم - كان يخرج لصلاتها مع الصحابة إلى الصحراء ولا قائل
منكم بذلك والمسألتان سواء [*] .
فالحق الذي لا محيد عنه أن المصلى الواحد ليس شرطًا في صحة الجمعة
وإنما هو حكمة من حِكَمِها، ولو تعددت الجمعة فهي صحيحة، ولا ظُهر بعدها
سواء أكان تعددها لضرورة أم لا لأنه لم يرد ما يحظر ذلك، بل الوراد خلافه فقد
روي عن ابن عباس أنه يجيز للرجل أن يصلي الجمعة منفردًا في بستانه. قال ذلك
الشعراني في (كشف الغمة) .
وإني ذاكر لك الأحاديث الدالة على عدم مشروعية الظهر بعد الجمعة بحال من
الأحوال حتى لو لم تصل الجمعة [١] :
عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا
يوم الجمعة فجاءت عير من الشام، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر
رجلاً فنزلت هذه الآية التي في الجمعة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: ١١) الآية، رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وفي
رواية أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانفض الناس إلا
اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية (وإذا رأوا ... إلخ) رواه أحمد والبخاري،
فنسألكم معشر الفقهاء الذين توجبون لصحة الجمعة أربعين رجلاً أحرارًا مقيمين لا
يظعنون صيفًا ولا شتاءً يستمعون أركان الخطبة كلها ويقيمون الجمعة، كيف أن
النبي -عليه الصلاة والسلام - لم يُعِد الجمعة أو لم يصل الظهر؟ لأن جمعته غير
صحيحة إذ لم يبق وهو يخطب إلا اثنا عشر رجلاً، ولا شك أنه لا يسعكم إلا التسليم
بأن الجمعة لا يشترط فيها العدد المخصوص وهو غير مذهبكم، أو أن تقولوا يحتمل
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر أو أعاد الجمعة، والحال أنه لم
يثبت ذلك قطعًا والدين لا يثبت بالاحتمال أو تقولوا: حقًّا إن صلاة الظهر بعد
الجمعة بدعة لا تجوز؛ لأن النبي لم يفعلها ولو لزمت لفعلها يوم العير [**] .
ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة، بل على عدم مشروعيتها يوم
الجمعة مطلقًا، صليت الجمعة أم لم تصل، ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد
الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة، ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم
يثبت ذلك وهاك النصوص:
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا؟ قال: (نعم صلى العيد أول النهار ثم
رخص في الجمعة؛ فقال من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون)
رواه أبو داود وابن ماجه وعن وهب بن كيسان، قال (اجتمع عيدان على عهد ابن
الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل
للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس؛ فقال: (أصحاب السنة) رواه النسائي
وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء ولأبي داود عن عطاء قال: (اجتمع يوم
الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعًا فصلاهما
ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) .
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظُهر بعد الجمعة بل
إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم، وفيما روي عن ابن عباس،
وقد سئل عن رجل صلى الجمعة منفردًا في بستانه فقال: (لا بأس إذا قام شعار
الجمعة بغيره) ، دليل على ما نقول لأن صلاته على ما أشترطه الفقهاء فاسدة، وإن
كنا لا نقول بصحة الجمعة في غير جماعة لما روى أبو داود من حديث طارق بن
شهاب: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك، أو
امرأة، أو صبي أو مريض) وفي حديث أبي هريرة، وحديث جابر (ذكر
المسافر) .
وقد قال في نيل الأوطار بعد ما أورد حديث أبي داود السابق، وحديث
النسائي وظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه: أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه
المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء حكى
ذلك عنه في البحر، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة أصل، وأنت خبير
بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب
صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح
للتمسك به على ذلك فيما أعلم) . اهـ
وأنت تعلم أن مؤلفه الإمام الشوكاني من مشاهير حفاظ الحديث وفقهائه المعول
عليهم وربما يثقل هذا القول على فقهاء العصر، في كل قرية ومصر، اللهم إلا من
كان محبًا للحقيقة منهم.
قال في كشف الغمة: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك صلاة
الجمعة لغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار فإن لم يجد فبدرهم أو
نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع أو مُدّ) فأنت ترى أنه لم يأمره
بصلاة الظهر بل أمره بالصدقة، ولا يقال أمره بالظهر والصدقة لأنه لم يثبت ذلك
والخير في الاتباع والشر في الابتداع.
(الخلاصة)
اعلم أن صفوة الكلام أن تعدد الجمعة للحاجة جائز عند الإمام الشافعي، وأن
الجمع في بلدتنا ونحوها متعددة للحاجة، وعليه فصلاة الظهر بعدها غير واجبة ولا
مسنونة بل هي بدعة غير جائزة وعلمت أن القول بصلاتها بعد الجمعة مبني على
التعدد لغير حاجة في بعض الصور وقد وفينا الكلام حقه في الأبحاث السابقة فراجعه
بدقة وإنصاف، والله أعلم.
هذا ما أردت إنشاءه وإيراده في هذه الرسالة فعسى أن تكون فصل الخطاب،
فقد جمعت من الكلام ما هو أضوأ من الشمس، وأنور من البدر، ومن الأدلة
الساطعة، والبراهين الناصعة، ما أزال عن وجه الحقيقة الغشاء، فبدت وضّاحة
الجبين، غَرَّاء الطلعة، وفيها كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، فاجعلها اللهم
خالصة لوجهك الكريم.