للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


(الأرض)
دليل حركتها من القرآن

(س ٧) ومنه: ثم أيها الأستاذ قد أوردتم في بعض أعداد المنار قوله تعالى:
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا} (الأعراف: ٥٤) دليلاً على دوران الأرض،
ولكن لم يظهر لي وجه الاستدلال في ذلك، وراجعت التفاسير ولم أجد ما يشفي العلة؛
فأرجو من فضلكم إيضاح ذلك أيضًا في أحد الأجزاء، وقد أورد الأستاذ العلامة
المرحوم شهاب الدين المرجاني القزاني - رحمه الله - دليلاً على حركة الأرض
قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: ٨٨) الآية وفصَّل ذلك
وبسطه حتى لو نظر المتأمل في ذلك يظهر له أن الآية واضحة الدلالة على المدعى،
ذكر ذلك في كتابه (وفية الأسلاف) والحاصل أنه حمل المرور المذكور في الآية
على المرور في الحال، ولكن سائر المفسرين حملوه على المرور الأخروي على ما
هو الظاهر من سوق الآية، وفي آيات أخرى أيضًا سيران الجبال سيق لبيان السير
الأخروي، والمرجو من الأستاذ إفادة ما هو الصواب فيه أيضًا.
وقد أرسلت لكم مع هذا مقالة المرجاني في ذلك نقلاً عن كتابه (وفية
الأسلاف وتحية الأخلاف) وهو كتاب كبير في التاريخ - ثمان مجلدات ضخام -
لم يطبع منها إلا مقدمته، وله تصانيف أخرى نافعة معمول بها في بلادنا. وكان -
رحمه الله - سنيًّا خالصًا على مذهب السلف يتمسك بالكتاب والسنة في الأصول
والفروع وهذه عبارته:
(ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ
تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل:
٨٨) فإنه خطاب لجناب الرسالة وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في
هذه الرؤية، وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في
الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة،
وقوله: {صُنْعَ اللَّه} (النمل: ٨٨) من المصادرالمؤكدة لنفسها، وهو مضمون
الجملة السابقة، يعني أن هذا المرور هو صنع الله كقوله تعالى: (وعد الله)
و (صبغة الله) ، ثم الصنع هو عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتروٍّ وتحري إجادة، ولا
يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعًا، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب
إليه، وقوله: {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: ٨٨) كالبرهان على إتقانه
والدليل على إحكام خلقته وتسوية مروره على ما ينبغي لأن إتقان كل شيء يتناول
إتقانه فهو تثنية للمراد وتكرير له كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
العَالَمِينَ} (آل عمران: ٩٧) ، وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد
وأنحاء المبالغة، ومن ذلك تعبيره بالصنع الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل
على الحكمة، وإضافته إليه تعالى تعظيمًا له وتحقيقًا لإتقانه وحسن أعماله،
ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذا المرور ثم إيراده بالجملة الكلامية
الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور، ثم التقييد بالحال لتدل على أنها
لا تنفك عنها دائمًا؛ فإنه قوله تعالى {وَهِيَ تَمُرّ} (النمل: ٨٨) حال عن
المفعول به وهو الجبال ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال، وعن هذا
استدلوا على قصر عدد الحل الزائد على أصل الحل بوقوع قوله تعالى: {مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: ٣) حالاً من الفعل، وعلى اشتراط إذن الإمام في
الجمعة؛ لقوله عليه السلام: (من تركها ولها إمام عادل أو جائر فلا جمع الله
شمله) وغير ذلك فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال
معها في هذه النشأة، وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو
عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام، وأن حسبانها جامدة
إحساسها العدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد؛ فإن ذلك لا يلائم
المقصود من التهويل على ذلك التقدير على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع
وإحكام، والعجب من حذاق العلماء المفسرين عدم تعرضهم لهذا المعنى مع
ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء به مع أنه أولى وأحق من
تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية على ما شحنوا بها كتبهم،
وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم
للشريعة والعقيدة الحقة بعد أن تعتقد أن كل ذلك حادث بقدرة الله تعالى وإرادته،
وخلقه بالاختيار كائنًا ما كان، وهو العلي الكبير وعلى ما يشاء قدير.
واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا
فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النمل: ٨٦) ، اعتراض
في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة،
كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان، ومثل ذلك ليس بعزيز
في القرآن، وفائدته هنا التنبيه على سرعة تقضي الآجال وقصر الآماد والتهويل من
هجوم ساعة الموت وقرب ورود الوقت المعتاد فإن انقضاء الأزمان وتقضِّي
الأوان إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان
وهذا المرور وإن لم يكن مبصرًا محسوسًا، لكن ما ينبعث منه من تبدل الأحوال بها
بما يطروه من تعاقب الليل والنهار وغيره بمنزلة المحسوس المبصر {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) فيكون هذا معجزة النبي مخصوصة به؛ إذ لم
يخبر به قبله غيره من الأنبياء، وليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع
عند قيام الساعة، ووفاء النشأة الآخرة؛ إذ هو ليس من الصنع في شيء، بل إفساد
أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم وإهلاك بني آدم) اهـ وذكرناه بنصه ولعله لا
يسلم من تحريف.
(ج) قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: ٥٤)
ليس نصًّا قطعيًّا في حركة الأرض ولكنه يدل على أن الليل الذي هو ظل الأرض
يسير مسرعًا وراء النهار الذي هو نور الشمس الواقع على الأرض؛ حتى كأنه
يطلبه بإرادة واختيار، ولا يخفى أن النظر إلى تعاقب الليل والنهار يُجِيز لنا أن
نقول: إن كل واحد منهما يغشى الآخر ويتبعه أو يطلبه، ولكن جعل الليل هو
الغاشي كما يؤيده قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: ١) يشعر بأن هذه
الحركة التي يدور فيها الليل وراء النهار، والنهار وراء الليل هي للأرض، وذلك أن
العقل جازم بأن ذلك لابد أن يكون بسبب دوران الأرض تحت الشمس أو دوران
الشمس وما يتبعها من الكواكب حول الأرض في هذا المدار الواسع الذي
يبلغ نصف قطره بالنسبة إلى الشمس إذا اعتبرنا الأرض مركزًا نحو ٥٢ مليونًا من
الأميال.وذكرنا أن مختار باشا الغازي وهو من أكبر علماء الفلك، يقول إن الآية
تدل على دوران الأرض قطعًا؛ وذلك أنه يجب حملها على أحد الوجهين المشار
إليهما، وأحدهما ممنوع بالأدلة الرياضية وهو كون الشمس التي تدور في هذا
الفلك الواسع حول الأرض، ويتبع ذلك أن كواكبها كذلك تدور حول الأرض،
ومنها ما هو أبعد منها عن الأرض كثيرًا فيتعين الوجه الثاني وهو الذي قامت عليه
الدلائل الرياضية على أنه أقرب إلى العقل والتصور.
وأما قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: ٨٨) الآية، فقد استدل بها المعاصرون على حركة الأرض، وقد قرع هذا
الاستدلال سمعي في المدرسة أيام التحصيل، ولم يحسن أحد في توجيهه إحسان
عالمكم القزاني - رحمه الله تعالى - فإن جوابه عن ورود الآية في سياق الكلام
عن قيام الساعة وأهوال الآخرة بأنه يصح أن يكون مرادًا به البرهان بقياس
النظير في العمران على النظير في الخراب - جواب وجيه وما دعم قوله به من
بيان معنى الصنع والإتقان قد أحسن فيه الصنع كل الإحسان، لولا أنهم أجابوا
عنه بأن الله تعالى أحسن الصنع وأتقنه في تخريب العالم وتبديله، كما أحسنه في
إنشائه وتكوينه فلكلٍ وجه، وليست الآية نصًّا في أحدهما ويؤيد قول الجمهور
آيات ذكر فيها تسيير الجبال في معرض الكلام على الساعة، ولسنا في حاجة إلى
نصوص قاطعة تصف الأكوان بكل أوصافها، وتبين حقائقها وماهيتها، فحسبنا أن
الله تعالى أرشدنا إلى البحث وأمرنا بالنظر لنصل إلى ما يمكن الوصول إليه
مستدلين به على علمه وحكمته , وشمول قدرته سبحانه فالكتاب مرشد، والبحث
موصل، وقد تركنا هذا النظر وصار فينا من يحرمه باسم الدين، وإن ترك الدين
بمخالفة كتابه المبين.