للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شهادة غير المسلم وخبره

(س٨) ومنه: هل تقبل شهادة غير المسلم كالنصراني أو اليهودي في
بعض الأمور، أم لا تقبل أصلاً، وشهد طبيب نصراني بأن الزوج ضرب زوجته
ضربًا شديدًا والمرض حصل بسبب ذلك هكذا كتب الطبيب، فهل يقبل قول هذا
الطبيب؟ وهل هذا القول شهادة أم خبر؟ وما الفرق بين الشهادة والخبر؟ أم هذا
القول في حكم الكتاب فيعمل به من حيث هو كتاب؟ هذا ما كنا نرجو شرحه
من حضرتكم دام فضلكم وعم نفعكم وعلى الله أجركم.
(ج) تقبل شهادة غير المسلم في بعض الأمور، وفي ذلك نزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ
مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} (المائدة: ١٠٦) وهي في سورة المائدة التي لا نسخ
فيها فقد أخرج أحمد من حديث جبير بن نفير عن عائشة قال: دخلت على عائشة
فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت فما
وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه، وروى البخاري
في التاريخ وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث ابن عباس قال خرج رجل من
بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء [١] فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم،
فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا [٢] بذهب فأحلفهما رسول الله، ثم
وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه
فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهما، وقال: ففيهم نزلت هذه الآية
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: ١٠٦) وروى أبو داود والدارقطني
بسند قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات عن الشعبي، أن رجلاً من المسلمين
حضرته الوفاة بدقوقا [٣] ولم يجد أحدا من المسلمين يُشهده على وصيته فأشهد رجلين
من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته
ووصيته، فقال: الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدَّلا، ولا كتما، ولا
غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.
ظاهر الآية والأحاديث مشروعية إشهاد غير المسلم، وخصَّه من قال به من
العلماء بالسفر وعدم وجود مسلمين، ولا نعلم أن أحدًا قال بالإطلاق أو بقياس غير
السفر عليه عند الحاجة. وعظُم على بعضهم جواز إشهاد غير المسلم، وحاولوا
التفصي منه فزعم بعضهم أن الآية يحتمل أن تكون منسوخة، ورُدَّ بأن سورتها آخر
القرآن نزولاً، وورد أنه لا منسوخ فيها على أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وزعم
بعضهم أن قوله تعالى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: ١٠٦) معناه من غير
أقاربكم ورُدَّ بأن الخطاب في الآية للمؤمنين فغيرهم من ليس على دينهم. وقال
بعض العلماء: إن هذه الآية في غاية الإشكال. واحتج من لم يُجز إشهاد غير المسلم،
ولم يقبل شهادته عليه بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: ٢) ،
قالوا: والكافر لا يكون عدلا وقال: الرازي في تفسيره: (أجاب الأولون عنه لم
لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب، لا من كان
عدلاً في الدين والاعتقاد، والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء
والبدع مع أنه ليسوا عدولاً في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحترازعن
الكذب قبلنا شهادتهم؛ فكذا هنا. سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: ٢) عام وقوله في هذه الآية: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} (المائدة: ١٠٦) خاص؛ فإنه
أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في
السفر؛ فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام
لا سيما إذا كان الخاص متأخرًا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان
تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبًا بالاتفاق، والله أعلم)
اهـ.
ولا شك أن المراد بعدل الشهود ما ذكره أولاً، ومن عجيب أمر الجمود على
المذهب، والتعصب للتقليد؛ أنه يُجَرِّئ صاحبه على سوء الأدب مع الله تعالى،
ومن ذلك قول بعضهم: إن الآية تخالف القياس والأصول، وأي أصل لدين الإسلام
غير القرآن؛ فيحتمل عليه أو يرجع إليه. قال في (نيل الأوطار) : (وأما اعتلال
من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر
.. و.. و..، فقد أجاب عنها من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره، وقد
قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب ... ) إلخ.
أما قبول قول الطبيب الكافر؛ فقد قال به بعضهم على إطلاقه، وقيده بعض
الفقهاء في المرض المبيح للتيمم أو الفطر في رمضان بما إذا صدقه المريض أي
يُعمل بقوله إذا لم تقم قرينة أو شبهة على أنه كاذب وكذلك الطبيب المسلم إذا قامت
القرينة على كذبه لا يعمل بقوله.
ثم إن من العلماء من يقول إن البينة هي كل ما يتبين به المطلوب حتى يعلم
الحاكم مثلاً أن الذي حصل هو كذا، وقد أطال ابن القيم ببيان هذا في كتابه (إعلام
الموقعين) واحتج عليه بالكتاب والسنة. وعليه يقال: إذا كان بعض الكافرين
المعروفين
بالصدق شهدوا في قضية شهادة تؤيدها القرائن، بحيث يطمئن قلب القاضي وغيره
بصحتها، وافرض أن من جملة هذه القرائن أنها ربما مَسَّتهم بضرر وأن كتمانها ربما
جر إليهم منفعة؛ فإن هذه الشهادة تعتبر على ما ذهب إليه ابن القيم (بينة شرعية) ،
على أن مذهب أصحاب الحنابلة تخصيص شهادة الكافر بمسألة الوصية كما ورد،
وبكون الشاهدين من أهل الكتاب ولو غير ذميين.
وأما الفرق بين الشهادة والخبر؛ فالأصل في الشهادة أن تكون إخبارًا عن
مشاهدة ورؤية؛ ثم إنها تطلق على التحمل وعلى الأداء، قال في كشاف
اصطلاحات الفنون:
الشهادة بالفتح والهاء المخففة لغة خبر قاطع، كما في القاموس، وشرعًا
إخبار بحق للغير على آخر عن يقين، وذلك المخبر يسمى شاهدًا: وقال في الكلام
على هذه القيود: وقولنا عن يقين يخرج الإخبار الذي هو عن حسبان وتخمين:
وكان ينبغي أن يقول الذي قد يكون عن حسبان وتخمين، ثم زاد قيدًا آخر عن فتح
القدير وهو (في مجلس الحكم) .