للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل

(س٢٠) السيد محمد بن عقيل في سنغافورة: اطلعت على جميع ما كتبتم
في ذبائح أهل الكتاب ثم وصل إليَّ من أحد أهل مصر كتاب يسمى التعاديل
الإسلامية في الرد على شيخ الإسلام (يعني الأستاذ الإمام) وكنت قد رأيت منذ نحو
١٤ عامًا فتوى لشيخنا العلامة السيد سالم بن أحمد العطاس العلوي الحضرمي مفتي
جهور تضارع فتوى شيخ الإسلام، ولكن يختلج في صدري شيء لم يذكره شيخ
الإسلام، ولا غيره فيما أعلم، وهو هل لأهل الإسلام نقل صحيح في التاريخ يفيدنا
بكيفية ذبح أهل الكتاب، أو قتلهم لما يريدون أكله في عصر المصطفى - صلى الله
عليه وعلى آله -؟ فإن وجد فهل يجب قصر حكم الحِلّ على ما كان؛ لأنه المفهوم
ويكون ما توسعوا به بعد ذلك من بدعهم فلا يفيد الحِلّ؟ فلو صح النقل بأنهم كانوا
يعصرون عنق نحو الدجاج ويوقذون نحو البقر لم يبق للمشاغب كلام، والمظنون
أن لأهل الكتاب كيفيات في الذبح في ذلك العصر كما نقل أن لهم في التسمية عند
الذبح عادات، وما صح به النقل لا نزاع فيه؛ فهل ظفرتم بنقل عن شيء من تلك
الكيفيات التي أحل الله لنا طعامهم وهو يعلمها ينجلي به غبار كل إشكال، أفيدونا بما
تعلمون لا زلتم مرشدين.
(ج) بيّنا فيما كتبناه في المجلد السادس في مسألة طعام أهل الكتاب أن
المسألة ليست من المسائل التعبدية، وأنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق
بروح الدين وجوهره إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من
عبادات الوثنيين وشعائر المشركين فحرم علينا أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه،
ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين
دخلوا في دينهم لا سيما النصرانية، وأراد تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة
المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد كما أباح لنا التزوج منهم مع
علمه بما هم عليه من نزغات الشرك التي صرح فيها بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُون} (يونس: ١٨) على أنه حرم علينا التزوج من المشركات
بالنص الصريح ولم يحرم علينا طعام المشركين بالنص الصريح بل حرم ما
أُهلّ به لغير الله. فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام
قطعي في المشركين وهو لم يمنع من التزوج بالكتابية، ولأجل كون حِل طعام
أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة
صرح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته فإن ذبيحته
تؤكل مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة فإن ذبيحته لا
تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري وما نقلناه في المنار عنه
وعن غيره كاف في هذا الباب، وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا
وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه سبحانه من مجاملتهم
ومحاسنتهم فهذه هي الحكمة في حِل طعامهم لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو
يطبخون بكيفية مخصوصة. ولو كان يجوز لنا أن نقيد نصوص الكتاب المطلقة
بمثل هذا التقييد لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه
مقيد بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر فنتقيد بما كان عليه
أهل العصر الأول في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم
على ذلك وهذا حرج عظيم وتحكُّم لم يقلْ به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم
المطلق أن يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وَجْه للبحث عن عدد الذين
أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صليا
فيه عند التشريع والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة.
ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم
تكن في حِل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك وقد سموا الذبيحة موقوذة وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال
قولاً مخالفًا للشرع لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل ولا يميزون بين الحق
والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه وهذه هي لذة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ولذلك لم يورد الذين
كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيَّد بالكتاب والسنة وفقه الشريعة وأسرارها
والمأثورعن سلفها لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم واشتغالهم
بالسفاسف وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم ساع في إقالتهم عثرتهم أو إنجائهم من هلكتهم حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم حده، وخذ بما صفا ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له، والله الموفق.