للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


الدين في نظر العقل الصحيح
محمد توفيق صدقي
(١)
قرأت في إحدى المجلات العربية مقالة بقلم أحد طلبة المدارس العالية، ذكر
فيها شيئًا من المذهب المادي في مصير الإنسان وأصله، وتبجح بأن هذا هو معتقده
وأن لا حق بعد ذلك، ولما كانت هذه الأفكار وأمثالها مما يخالج قلوب شبابنا اليوم؛
حتى صار جمهورهم لا يعبأ بعقائد الدين، ويظن أنها ضرب من أساطير الأولين لا
حاجة لعصرنا الحاضر بها تحركت نفسي لكتابة شيء في هذا الموضوع بعد عمل
الفكر وإحالة النظر في أطرافه، وجعلت اعتمادي فيما أقول على البراهين العقلية
الصحيحة التي تنتهي إلى البديهيات بحيث لا تجد فرقًا بينها وبين البراهين
الرياضية؛ لتكون أعظم مؤثر في قلوبهم، وليعلموا أن الدين في حججه يفوق المادية
في نظرياتها وأوهامها. ولإيفاء المقام حقه رأيت أن أبدأ بذكر حكم العقل في المادة
من جهة تركيبها، وتحليلها، وأصلها من حيث الحدوث والقدم، ثم أنتقل إلى
براهين وجود الخالق وما يليق به من الصفات، ثم أتكلم عن الروح والبعث، وأختم
كلامي بأدلة النبوة عمومًا، والمحمدية خصوصًا، وبذلك يتم الاعتقاد الإسلامي،
ويكون الإنسان مؤمنًا بالله واليوم الآخر والنبوة وما أتت به.
المادة وتركيبها:
الأجسام التي نراها شاغلة حيزًا من الفراغ تقبل القسمة إلى أجزاء أصغر منها
وكل جزء يقبل القسمة إلى ما هو أصغر منه، وهكذا فإذا استرسل العقل في القسمة،
فإما أن يقف عند حد أو لا يقف، فإن لم يقف كان ذلك قولاً بأن كل جسم أخذناه
بيدنا وحصرناه بين أصابعنا مركب من أجزاء لا نهاية لها وهذه الأجزاء مهما صغرت
فلا يمكن أن تحصر لعدم تناهيها. لكن هي محصورة بالحس؛ إذًا هذا الفرض باطل.
بقي القول بأن العقل لا بد أن يقف عند حد في القسمة، فهذا الحد إما أن يكون
له امتداد أو ليس له امتداد، فإن كان له امتداد فالعقل يتصور قبوله للقسمة ونرجع
إلى ما قلناه في الشق الأول: إذا لم يبق إلا القول بأنه لا امتداد له. وإذا ثبت هذا
علمت أن جميع الأجسام مركبة من أجزاء لا امتداد لها مطلقًا ولكن لها وضع معين
فهي مثل النقط الهندسية، وإنما تمتاز عنها في أنها أشياء وجودية لا وهمية. هذه
الأجزاء هي ما نسميه بالجواهر الفردة ويسمي حملتها الماديون (بالمادة) أو
(الأثير) وقالوا: إن اجتماع بعضها ببعض على أوضاع مختلفة وبأعداد مختلفة قد
نشأت عنه العناصر الأصلية، فيجوز أن تكون كل ذرة من الأوكسيجين مركبة من
جوهرين مثلا والذرة من عنصر آخر مركبة من ثلاثة أو أربعة وباتحاد العناصر
المختلفة بعضها ببعض تكونت المركبات، وسواء صحت هذه النظريات أو لم تصح
فالشيء الذي لا شك فيه هو وجود الجوهر الفرد وأنه الجزء الذي لا يتجزأ ومنه
تركبت الموجودات.
حدوث المادة:
قلنا: إن الجوهر الفرد هو ما ليس له امتداد، وله وضع معين وهو شيء
وُجودي كل ما كان له وضع معين فالعقل يتصور جواز انتقاله من موضع إلى آخر
وهذا الانتقال هو الحركة، فلو فرضنا أن الجوهر الفرد قديم لتصور العقل إمكان
تحركه من مكان إلى آخر، ولو أمكن ذلك لأمكن وجود حركات في الأزل لا أول لها
وهذا محال؛ لأنه يستلزم جواز تحرك الجوهر حركات لا عدد لها قبل كل حركة،
وكونها لا عدد لها يستلزم أنها لا تحصر، ولا تدخل تحت عد وإتيان الجوهر الفرد
بها يدل على أنه يمكن عدها وعد ما لا يعد تناقض بديهي البطلان؛ إذا ثبت أن
الجوهر لا يجوز أن يتحرك في الأزل، لكن جواز تحركه من لوازم ذاته بحيث لا
يتصور وجوده بدون ذلك الجواز، وحيث إن فرض وجوده في الأزل يؤدينا إلى
المحال، وما يؤدي إلى المحال محال ثبت أنه لا يمكن أن يكون موجودًا في
الأزل، أي إنه حدث بعد أن لم يكن.
وجود الواجب:
يقسّمون المعلوم إلى قسمين: واجب لذاته، وغير واجب لها، فالواجب لذاته
هو ما كان وجوده من لوازم ذاته بحيث لا يمكن أن ينفك عنها. وغير الواجب
قسمان: موجود بالفعل، وغير موجود. وغير الموجود قسمان: جائز وجوده،
ومستحيل. والمستحيل: هو ما لا يمكن وجوده، فكل موجود إما أن يكون واجبًا أو
جائزًا ولا ثالث لهما، أما الواجب فسبق تعريفه وأما الجائز فهو ما جاز عليه الوجود
والعدم ولا يرجح أحدهما إلا بمرجح، إذا عرفت هذا فنقول:
الجوهر الفرد موجود فإما أن يكون واجبًا أو جائزا لا يمكن أن يكون واجبًا؛
لأنه قد ثبت أنه كان معدومًا في الأزل، والواجب لا يمكن أن ينفك عنه الوجود لا
أزلا ولا أبداً، إذًا هو جائز والجائز لا يمكن أن يرجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
والمرجح لا يمكن أن يكون سوى الواجب إذ لم يبق سواه غير المستحيل، إذًا
الواجب موجود قطعًا.
أحكام الواجب:
قد سبق أن الوجود لا ينفك عنه أي: إنه قديم باقٍ، فلا أول لوجوده ولا آخر
له وهذا بمقتضى التعريف السابق. ومن أحكامه أنه ليس له وضع معين ولا جهة
يشار إليه فيه وإلا لتصور العقل جواز تحركه ولو جازت عليه الحركة لكان حادثًا،
ولو كان حادثًا لما كان واجبًا، وحيث ثبت أنه لا وضع ولا جهة له ثبت أنه لا
امتداد له وإلا لشغل حيزًا من الفراغ وتعين له الموضع والجهة.
إذا عرفت هذا علمت أنه لا يجوز عليه الحلول ولا الاتحاد ولا التجسد؛ لأنه
لو حلّ أو اتحد بجسم المسيح على مذهب أو تجسد وظهر بصورة المسيح على
المذهب الآخر كما يقول النصارى لوجبت له الحركة وإلا لما كان للحلول والاتحاد
والتجسد معنى حقيقيًّا تعالى الله عن أن يظهر في مخلوق أو يتصور بصورته.
ومن أحكامه التفرد بالوجود؛ لأنه لو كان هناك واجبان فأكثر وخلق أحدهما
جائزًا من الجائزات فإما أن يبقى الآخر قادرًا على خلق هذا الشيء بعينه أو غير
قادر، فإن بقي قادرًا أمكنه تحصيل الحاصل وهو محال؛ لأنه يستلزم أن يكون
للشيء الواحد وجودات متعددة، وإن لم يبق قادرًا زالت قدرته القديمة عن بعض
الأشياء، والقديم لا يزول؛ لأن قدمه إما أن يكون لذاته أو لشيء آخر قد اقتضى
وجوده، فإن كان قدمه لذاته فلا يمكن أن يزول من الذات ما هو لها وإن كان لغير
ذاته فما دام المقتضي موجودًا فلا يمكن أن يزول المقتضى.
هذا واعلم أن قول النصارى: إنه واحد في الذات،ثلاثة في الأقانيم - مُحال
لأنهم يعتقدون أن كل أقنوم يمتاز عن الآخر بخواص كثيرة، فالأول يمتاز بخاصية
الأبوة، والثاني بالبنوة وبالحلول أو التجسد، والثالث بالانبثاق، وأن الامتياز بينهم
حقيقي بحيث إن ما يثبتونه لأحدهم لا يمكن أن يثبتوه للآخر. إذا عرفت هذا أقول
الشيء الذي به الامتياز إذا ثبت لأحد الأقانيم فهو ثابت لذاته، وإذا ثبت لذاته فهو
ثابت لذات الله تعالى، وبما أنه علة للامتياز فلا يمكن أن يثبت للأقنوم الآخر وإذا لم
يثبت له لم يثبت لذاته، وإذا لم يثبت لذاته لم يثبت لذات الله وعليه يكون الشيء
الواحد ثابتًا للذات وغير ثابت لها، فمثلاً: إذا قلنا: إن الابن حلّ أو تجسد أي إن
ذاته حلت أو تجسدت كانت ذات الله حالة أو متجسدة، ولكن الآب لم يحلّ ولم
يتجسد فذات الله لم تحل ولم تتجسد، وعليه تكون ذات الله حالة أو متجسدة وغير
حالة ولا متجسدة وهذا تناقض ظاهر البطلان.
بقي عليّ أن أذكر كلمة صغيرة في القدرة قبل ترك هذا الموضوع وهي أنها لا
تتعلق بالمستحيل. وخلق حوادث في الأزل مستحيل؛ لأنه يستلزم وجود حوادث لا
أول لها وهو باطل وعليه فالقدرة الأزلية لا توجد الحوادث إلا في غير الأزل،
والأزل لا يمكن العقل تصوره فهو ليس مركبًا من لحظات لا أول لها؛ لأن ذلك
أيضًا باطل فلم يكن ثَمَّ دهر ولا زمان بخلاف ما إذا فرضنا أن الجوهر الفرد قديم
فإنه يستلزم جواز وجود الحركات في الأزل وذلك يستلزم تعاقبها وتعاقبها يستلزم
وجود الزمان، أما خلق الحوادث في غير الأزل فلا يستلزم وجود لحظات متعاقبة
ولا وجود متجددات في الأزل.
والخلاصة: أن الواجب قديم باق قدير متفرد بالوجود ليس كمثله شيء، وهو
السميع البصير.
الروح والبعث:
عناصر الجسم الكيماوية معروفة ومشهورة وعناصره (الهستولوجية) هي ما
يسمونه بالخليات، وكل خلية حية بذاتها بحيث يمكن بقاؤها حية بعد انفصالها عن
الجسم مدة من الزمن، وتأتي من الأعمال مثل ما تأتيه في الجسم؛ فمثلاً كرات الدم
البيضاء إذا فصلت عن الجسم ووضعت في وسط مناسب لحياتها تبقى حية مدة
فتتحرك وتتغذى وتنقسم، وليس الأمر قاصرًا على الخليات، بل ما تركب منها من
الأعضاء والعضلات وغيرها؛ وإذا فصل من الجسم يبقى حيًّا مدةً؛ فمثلاً: قلب
الضفدعة يستمر على ضرباته بضع دقائق، وكذا العضلات الأخرى من الجسم
تنقبض وتنبسط إذا نبهت، ثم إن جميع وظائف الجسم وحواسه ومدركاته لها مراكز
مخصوصة في المخ والنخاع الشوكي؛ بحيث إذا أتلف هذا المركز بطلت الوظيفة،
وبين المراكز والأعضاء اتصال بالأعصاب الحساسة والمحركة؛ ولهذه الحقائق
المحسوسة ظن الماديون أن لا معنى للقول بالروح؛ إذ لا أثر لها في الحياة ولا في
غيرها ولو كان هناك شيء يليق أن يسمى روحًا، فالمخ أولى الأشياء بهذه التسمية ثم
إنهم شاهدوا أن الجسم دائم في التغير والانحلال والتركيب بحيث إن جسم الإنسان
في بضع سنين يكون قد تغير كله وأتى بدله جسم آخر. وفسروا شعور الإنسان
بشخصه أنه لم يتغير طول حياته بأن الانطباعات والتأثرات المخصوصة في جوهر
المخ تتجدد في كل مادة. وبعد أن أنكروا ما يسميه علماء الأديان روحًا وأنه شيء
يقوم بذاته، ولا يتغير، وأنه ليس من مادة عالمنا هذا إلى آخره بعد أن أنكروا ذلك
ووجدوا أن جسم الإنسان بعد الموت ينحل ويدخل في تراكيب النباتات والحيوانات
الأخرى، ومن بينها الإنسان قالوا: إذًا البعث مستحيل؛ لأن الإنسان ليس له روح
مخصوصة تممتاز عن جسمه وليس جسمه ثابتًا له بل ربما دخل في جسم إنسان
آخر وعليه فالحشر روحيًّا كان أو جسديًّا ضرب من المحال.
هذا هو ملخص مذهبهم. والناقد البصير يرى أنه مبني على المحسوس
والمعقول إلا في نقطة واحدة هي محور غلطه ومركز شططه وهي قولهم: إن
شعور الإنسان بشخصه من أول العمر إلى آخره ناشئ عن الانطباعات المخصوصة
وتجدّدها في كل مادة تدخل في تركيب مخّه لا لشيء ثابت من أول الحياة إلى آخرها؛
إذًا لا علاقة بيني الآن وبين شخصي بعد بضع سنين سوى الانطباعات
المخصوصة المتماثلة في المادتين. أقول: المتماثلة؛ لأنها لا يمكن أن تكون هي
بعينها؛ لأنها أعراض لا قيام لها بذاتها ولا تنتقل من مادة إلى أخرى فكأنه بعد
مرور بضع سنين على الإنسان يعدم من الوجود ويوجد شخص آخر غيره ومع ذلك
يشعر كل بأنه هو الآخر بعينه لتماثل الانطباعات فيهما ولو سلمنا ذلك فلماذا لا يكون
البعث من هذا القبيل؟ وإذا وجد شخص آخر فيه مثل ما فيَّ من الانطباعات فهل
أشعر بأني أنا هو وهو يشعر بأنه أنا؟ وما الفرق بين هذه وتلك؟ وهل إذا عدم
أحدنا يشعر الآخر بإنه هو الأول بعينه؟ كلا، ثم كلا، إذاً لا بد أن يكون هناك
شيء ثابت في الإنسان من أول الحياة إلى آخرها وبه تتحقق شخصيته ويمتاز
وجوده وسواء كان هذا الشيء من عالمنا هذا أو من عالم آخر فلا يهمنا، وهذا
الشيء هو روح الإنسان وجوهره وحقيقته وحيث إننا لا ندري مكانه ولا كنهه فلا
يمكننا الحكم بأن يدخل في تركيب إنسان آخر، ولم لا يجوز أن يبقى محفوظًا إلى يوم
القيامة ثم يعاد في جسم جديد.
ولا عبرة بالجسم الأول المتبدل المتغير الداخل في تركيب غيرنا بعد انحلاله؛
فإن شخصية الإنسان لا تتحقق به ولا تتوقف عليه. إذا علمت هذا أيقنت أن للإنسان
روحًا بالمعنى المتقدم وكذا لكل حيوان له شعور بشخصه وأن ليس البعث ضربًا من
المحال بل هو من الجائزات، وسنأتي في مقال آخر بأدلة النبوة وصدق ما أتت به
وبعد ذلك نثبت بالبرهان النقلي وجوب البعث يوم القيامة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
... ... ... ... ... ... ... ... ... الطبيب بسجن طُرى
((يتبع بمقال تالٍ))