للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أنباء سوريا المزعجة
- الدولة والرعية

قد تبين أن حكومة (المابين الهمايوني) في خوف ووجل من سوريا أن تخرج
عليها كاليمن أو مع اليمن، وسوريا أبعد بلادها عن هذا العمل وعن التفكر فيه،
ولكن (المابين) قد صدق فيها تقارير الجواسيس والمفسدين، وأقوال المشاغبين
المحتالين الذين يخوفون (المابين) بما يكتبون من الرسائل والكتب في الدعوة إلى
الاستقلال، وزاد الطين بلة ما تكتبه الجرائد الأوربية في هذه الأيام عن ثورة اليمن
مدعية أنها ثورة مدبرة لها أنصار ودعاة في الحجاز وسوريا وسائر البلاد العربية
وكل ذلك أكاذيب يبغون بها الفتنة وإغراء الحكومة العثمانية برعيتها ليفني المسلمون
أنفسهم بأيديهم.
صدق المابين كل ذلك فأمر الولاة والمتصرفين بالإغارة على بيوت من يظن
أن عندهم كتبًا، أو جرائد، أو رسائل من مصر، وأخذ كل ما يوجد في تلك البيوت
وقراءته كلمة كلمة ومحاسبة أصحابه على كل ما يُشتمّ منه رائحة الشبهة، وقد ذكرنا
في الجزء الماضي بعض هذه الحوادث ثم جاءتنا الجوائب بعده بإنه قد جاء إلى
بيروت لجنة عسكرية ملكية أرسلها السلطان من الآستانة لتتولى التحقيق في هذه
الأمور المهمة ولا تدع بيتًا من بيوت الكبراء إلا وتفتشه، وقد كان من أوائل عملها
الإحاطة بدار عباس أفندي رئيس ملة البابية في عكا ودار الفريق رمزي باشا
وغيرهما وأخذ ما فيها من الأوراق والكتب المشتبه فيها. وقد فعل متصرف
طرابلس مثل ذلك ببيت عبد اللطيف أفندي الغلاييني وبيوت أخرى. وفتشوا في
حمص بيت (قائمقام) نقيب الأشراف، ولا يزال الهجوم على البيوت مستمرًّا في
كل مكان.
وقد بلغنا أن الكتب التي أخذت في بيروت من المكتبة الأنسية ومن طبعة
الإقبال قد اعتبرت من النوع الذي يسمى غير لائق وأنها حولت إلى العدلية وأنه
ورد نبأ برقي من الأستانة إلى بيروت بوجوب العناية والتشديد في شأن ضبط كتب
أبي الهدى أفندي التي وجدت في مطبعة الإقبال.
وإن للحكومة في الكتب والأوراق والجرائد تقسيمًا غريبًا فمنه ما يسمونه
الأوراق المضرة والعقوبة عليه شديدة جدًّا، ومنه ما يسمونه الأوراق الممنوعة وهو
أعم من المضرة إذا أطلق يراد بالعام ما وراء الخاص والعقوبة عليه أخف، ومنه ما
يسمونه غير لائق وهو أهون عندهم، ومن البلاء أن الرعية لا تعرف شيئاً من
حدود هذه الأقسام ورسومها فقد صار ما لم يكن ممنوعًا من قبل من الممنوع أو
الضار والناس لا يشعرون. نوقش عبد اللطيف أفندي الغلاييني الحساب أن وجد
عنده نسخ من مجلة نور الإسلام الدينية التي كانت تنشر في الزقازيق وكان عبد
اللطيف أفندي وكيلاً لها في طرابلس لم يتحرج من ذلك؛ لأنها كانت ترد إليه في
البريد العثماني وعمال البريد هم العالمون بالممنوع من الكتب؛ لأنهم يؤمرون
بإمساكه وعدم إيصاله إلى أربابه.
ولو كانت سوريا مستعدة للخروج على الدولة لا ينقصها إلا الحوادث التي
تؤلم الجمهور وتجمع الكلمة - لخشى أن تكون هذه الأعمال هي السبب في الثورة
والخروج، ولكننا نعلم علم اليقين أن سوريا غير مستعدة لذلك وستعلم ذلك الدولة بعد
هذا التحقيق والتدقيق فتندم أنها آلمت الناس وظلمتهم وذكرتهم بما لم يكن يخطر على
بال أحد منهم.
وأما الذين يكتبون في ذلك ما يكتبون من المنشورات والمقالات في جرائد
البلاد الحرة فلا غرض لهم إلا ابتزاز المال أو الرتب والأوسمة من الدولة كما بينّا
ذلك مرارًا.
وإنه ليؤلم العثماني الغيور أن يرى الإنكليز آمنين على سلطتهم في مصر لا
يبالون بما يقال، ولا بما يكتب، حتى إنهم يعتقدون أنه لم يبق لهم حاجة بجيش
الاحتلال القليل الباقي في البلاد، ويرى دولته في وَجَل شديد من رعيتها فتداوي هذا
الوجل بالتشديد والقوة وهو دواء غريب في بابه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
ومن أعجب ما يتناقله الناس، مما يوسوس به في هذا الباب الخناس، خوف
(المابين) من مصر والمصريين عامة، والأستاذ الإمام خاصة، والمصريون أشد من
الترك حبًّا فيه، إلا أفراد تعلموا السعاية والتجسس من الآستانة، وكل المصريين
يمقتونهم، والأستاذ الإمام مشغول عن هذه السخافات بخدمة مصر والإسلام، وهو
يعتقد أن السعي من جهة السياسة، لا يأتي إلا بالخيبة والتعاسة، فهو يرى الكلام في
السلطة والخلافة، من قبيل اللغو والسخافة، ومن المضحكات المبكيات أن حكومة
بيروت ظلت ثمانية أيام تفتش في الساحل وتتجسس في البيوت لعلها تعثر على
الشيخ محمد عبده لاعتقادها أنه جاء بيروت مستخفيًا، وأنزلته الباخرة الخديوية في
جهة رأس بيروت وأنه سيتولى زعامة قلب السلطة في سوريا بنفسه، والرجل
مريض لا يقدر على مفارقة سريره الذي ترفرف عليه قلوب العقلاء والفضلاء
مشفقة أن يخترمه حكم القضاء، فتحبط أعمال، وتنقطع آمال، ويخشى من سوء
المآل، هذه حال الرجل هنا وتلك حال الحكومة العثمانية هناك، ولم يشفق عليها
رئيس الجواسيس الذين شغلوها فيكاشفها بالحقيقة التي تسكن روعها، وترأب
صدعها.
قلنا: إن ذلك الخوف من أعجب ما ينقل وما هو بالعجيب ولا بالأعجب،
فإن الدول في مثل هذا الطور الذي وصلت إليه دولتنا -أصلحها الله تعالى-
تبني أكبر من هذا البناء على أساس أوهن من هذا الأساس، بل يفعل الحكم المطلق
في طور الحياة والقوة مثل هذه الفعال، ويفتك بحكم الوشاية بأعظم الرجال، ألم يأتك
نبأ موسى بن نصير في الأندلس وكيف فتح البلاد؟ وكيف ساسه ابنه عبد العزيز
أحسن سياسة؟ ثم كيف كافأه سليمان بن عبد الملك بانتزاعه وولده عبد
الله من السلطة، وقتل ولده عبد العزيز غيلة، سمع وشاية المفسدين فيه؛ فأوعز إلى
من قتله وهو يصلي بالناس صلاة الفجر كما قتل الإمام العادل عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - وإنا نقص على القراء ما دار بين سليمان وموسى ليعلموا
كيف ظهر لسليمان خطأه ويعتبروا بذلك؟
قال ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة:
قدوم رأس عبد العزيز بن موسى
على سليمان
وذكروا أن سلميان لما ظن أن القوم قد دخلوا الأندلس وفعلوا ما كتب به إليهم
عزل عبد الله بن موسى عن أفريقية وطنجة والسوس في آخر سنة ثمان وتسعين
في ذي الحجة وأقبل هؤلاء حتى قدموا على سليمان وموسى بن نصير لا يشعر بقتل
عبد العزيز ابنه، فلما دخلوا على سليمان ووضع الرأس بين يديه بعث إلى موسى
فأتاه فلما جلس وراء القوم قال له سليمان: أتعرف هذا الرأس يا موسى؟ قال:
نعم، هذا رأس عبد العزيز بن موسى. فقام الوفد فتكلموا بما تكلموا به. ثم إن
موسى قام فحمد الله، ثم قال: وهذا رأس عبد العزيز بين يديك يا أمير المؤمنين؛
فرحمة الله عليه؛ فلَعَمْرُ الله ما علمته نهاره إلا صَوَّامًا، وليله إلا قَوَّامًا، شديد الحب
لله ولرسوله، بعيد الأثر في سبيله، حسن الطاعة لأمير المؤمنين، شديد الرأفة بمن
وليه من المسلمين، فإن عبد العزيز قضى نحبه، فغفر الله له ذنبه، فوالله ما كان
بالحياة شحيحًا، ولا من الموت هائبًا، وليعز على عبد الملك وعبد العزيز والوليد أن
يصرعوه هذا المصرع، ويفعلوا به ما أراك تفعل، ولهو كان أعظم رغبة فيه، وأعلم
بنصيحة أبيه، أن يسمعوا فيه كاذبات الأقاويل، ويفعلوا به هذه الأفاعيل، فرد
سليمان عليه قال: بل ابنك المارق من الدين، والشاق عصا المسلمين، المنابذ لأمير
المؤمنين، فمهلاً أيها الشيخ الخَرِف، فقال موسى: والله ما بي من خرف، ولا أنا
عن الحق بذي جَنَف، ولن ترد محاورة الكلام مواضع الحِمَام، أنا أقول كما قال
العبد الصالح {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: ١٨) فتأذن
في رأسه يا أمير المؤمنين. واغرورقت عيناه؛ فقال له سليمان: نعم، فخذه. فقام
موسى فأخذه وجعله في طرف قميصه الذي كان عليه، ثم أدبر في السماطين فوقع
الطرف الآخر عن منكبيه وهو يجره لا يحفل به ولا يرفعه، فقال له خالد بن الريان:
ارفع ثوبك يا ابن نصير، فالتفت موسى وقال: ما أنت وذاك يا خالد. قال سليمان:
دعه حسبه ما فعلنا به، فلما توارى موسى، قال سليمان: إن في الشيخ لبقية بعد، ثم
إن موسى التفت إلى حبيب بن أبي عبيدة (قاتل ابنه) فكلمه بكلام غليظ حتى ذكر
أمرًا خفيًّا من نسبه فأفحمه.
ثم إن سليمان كشف عن أمر عبد العزيز فألفى ذلك باطلاً، وإن عبد العزيز لم
يزل صحيح الطاعة مستقيم الطريقة، فلما تحقق عند سليمان باطل ما رفع إليه عن
عبد العزيز ندم، وأمر بالوفد فأخرجوا ولم ينظر في شيء من حوائجهم وأهدر موسى
بقية القضية التي كان قاضاه عليها، وكان سليمان قد آلى قبل خلافته لئن ظفر
بالحجاج بن يوسف وموسى بن نصير ليعزلنهما ثم لا يليان معه من أمور الناس شيئًا،
فلما رضي عن موسى جعل يقول: ما ندمت على شيء ندامتي أن لا كنت خلوًا
من اليمين على موسى في أن لا أوليه شيئًا، ما مثل موسى أستغنى عنه. اهـ.
ثم ذكر شيئًا من خبر موسى مع سليمان.
وانظر الفرق العظيم بين عصرنا وعصر بني أمية الذي ما زلنا نشكو منه؛
إذ هم الذين حولوا الحكومة الإسلامية إلى ما يسمى في عرف السياسيين اليوم
بالسلطة المطلقة، فقد بيّن موسى للملك خطأه، ولما ظهر ذلك لسليمان بن عبد الملك
ندم على ما فعل بالرجل وولديه، ولم يكافئ الذين امتثلوا أمره بالظلم إلا بالإعراض
عنهم، فيا ليت حكامنا في هذا العصر يرجعون عن خطئهم إذا ظهر لهم ويعرضون
عمن شايعهم على الظلم ولا يشركونه معهم في رأي ولا حكم. وفي القصة عبرة
بصبر موسى بن نصير عندما فوجئ برأس ولده بين يديه، وولده من يحزن على
مثله الغريب لفضله وشجاعته وحسن إدارته وسياسته، وإننا في هذا المقام نذكر
شيئًا من خبر موسى إتمامًا للعبرة، وليتذكر نابتة عصرنا شيئًا من تاريخ سلفهم الذين
فتحوا البلاد وأحسنوا فيها السياسة وأقاموا العدل على أنهم لم يعرفوا من علوم
السياسة، والقضاء، والإدارة بعض ما يعرف اليوم بعض المحامين المحتالين على
سلب الأموال وإضاعة الحقوق ونصر الأباطيل، أو الموظفين الذين تشكو منهم
السماء والأرض أو بعض الذين يسمونهم (متربين) لأنهم تعلموا في أوربا وهم
الذين أفسدوا أخلاق أمتهم وأغروها بالخمور والفجور والقمار وغير ذلك من أسباب
الدمار حتى فسد بأسها وذهبت سيادتها وإنما الفرق بيننا وبين أولئك السلف الحياة
الملية، والاعتقاد الصحيح، والأخلاق العالية.
خطبة موسى بن نصير في ذات الجماجم:
لما وَلّي عبد العزيز بن مروان موسى بن نصير أفريقية وعزل حسان بن
النعمان الذي ولاه عليها عبد الملك رحل إليها ووافته الجيوش في ذات الجماجم؛ فقام
فيهم خطيبًا؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس، إن أمير المؤمنين أصلحه
الله رأى رأيًا في حسان بن النعمان فولاه ثغركم ووجهه أميرًا عليكم، وإنما الرجل
في الناس بما أظهر، والرأي فيما أقبل وليس فيما أدبر، فلما قدم حسان بن النعمان
على عبد العزيز - أكرمه الله - كفر النعمة، وضيع الشكر ونازع الأمر أهله فغير
الله ما به. وإنما الأمير أصلحه الله صنو أمير المؤمنين وشريكه ومن لا يتهم في
عزمه ورأيه، وقد عزل حسان عنكم وولاني مكانه عليكم ولم يَألُ أن أجهد نفسه في
اختياره لكم، وإنما أنا رجل كأحدكم فمن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحض على
مثلها، ومن رأى مني سيئة فلينكرها؛ فإني أخطئ كما تخطئون وأصيب كما
تصيبون، وقد أمر الأمير - أكرمه الله - لكم بعطاياكم وتضعيفها ثلاثًا فخذوها هنيئًا
مريئًا، ومن كان له حاجة فليرفعها إلينا وله عندنا قضاؤها على ما عز وهان من
المواساة إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
خطبة موسى بأفريقية:
وذكروا أن موسى لما قدم أفريقية ونظر إلى جبالها، وإلى ما حولها جمع
الناس ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنما كان قبلي
على أفريقية أحد رجلين مسالم يحب العافية ويرضى بالدون من العطية، ويكره أن
يكلم ويحب أن يسلم، أو رجل ضعيف العقيدة، قليل المعرفة، راضٍ بالهوينا،
وليس أخو الحرب إلا من اكتحل السهر، وأحسن النظر، وخاض الغمر، وسمت
به همته، ولم يرض بالدون من الغُنم لينجو ويسلم دون أن يُكْلَم أو يَكْلِم، ويبلغ
النفس عذرها في غير خرق يريده، ولا عنف يقاسيه، متوكلاً في حزمه حازمًا في
عزمه، مستزيدًا في علمه، مستسرًا لأهل الرأي في إحكام رأيه مستحكًا بتجاربه،
ليس بالمتجابن إقحامًا، ولا بالمتخاذل إحجامًا، إن ظفر لم يزده الظفر إلا حذرًا،
وإن نكب أظهر جلادة وصبرًا، راجيًا من الله حسن العاقبة، فذكر بها المؤمنين
ورجاهم إياها لقول الله تعالى: {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: ٤٩) أي الحذرين.
وبعد، فإن كل من كان قبلي كان يعمد إلى العدو الأقصى، ويترك عدوًّا منه أدنى
ينتهز منه الفرصة، ويدل منه على العورة، ويكون عونًا عليه عند النكبة، وايم
الله لا أريم هذه القلاع والجبال الممتنعة، حتى يضع الله أرفعها، ويذل أمنعها،
ويفتحها على المسلمين بعضها أو أجمعها أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
(المنار)
لا يظنن ظان أن هذا الكلام صادر عن تصورات وخيالات لا أثر لها في النفس،
ولا يشهد لها من قائلها العمل، كما يعلمون عن بعض خطباء هذا العصر، وكتابه
الذين يقتبسون أقوال الناس ويتخيلون عبارات، ثم يؤلفون ذلك على الصورة التي
يظنون أنها تسر الناس، وتطلق ألسنتهم بالثناء عليهم ويسمون ذلك خطبة أو مقالة.
كلا إن موسى هو فاتح بلاد المغرب وبلاد الأندلس، ومؤسس الحكومة الإسلامية
فيهما فعمله خير من قوله، وأخلاقه وآدابه مصدر أعماله، ولا مُرشد له في ذلك إلا
الدين المبين، وقد سأله سليمان بن عبد الملك أسئلة عن سيرته في حربه، فأجابه بما
يدل على فراسته وبعد نظره وسعة اختباره وقوة دينه.
قال له سليمان: ما الذي كنت تفزع إليه في مكان حربك من أمور عدوك؟
قال: التوكل والدعاء إلى الله يا أمير المؤمنين. قال سليمان: هل كنت تمتنع في
الحصون والخنادق أو كنت تخندق حولك؟ قال: كل هذا لم أفعله، قال: فما كنت
تفعل؟ قال: كنت أنزل السهل، وأستشعر الخوف والصبر، وأتحصن بالسيف
والمغفر، وأستعين بالله وأرغب إليه في النصر. قال سليمان: فمن كان من العرب
فرسانك؟ قال: حمير. قال: فأي الخيل رأيت في تلك البلاد أصبر؟ قال أشقرها،
قال: فأي الأمم كانوا أشد قتالاً؟ قال: إنهم يا أمير المؤمنين أكثر مما أصفهم.
قال له: أخبرني عن الروم. قال: أسود في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء
في مواكبهم، إن رأوا فرصة افترصوها، وإن خافوا غلبة فأرعال ترقل في أجبال،
لا يزالون عارًا في هزيمة تكون لهم منجاة، قال: فأخبرني عن البربر، قال: هم
يا أمير المؤمنين أشبه العجم بالعرب لقاء، ونجدة، وصبرًا وفروسية، وسماحة،
وبادية غير أنهم يا أمير المؤمنين غُدْر. قال فأخبرني عن الأسبان (أهل أسبانيا)
قال: ملوك مترفون، وفرسان لا يجبنون. قال: فأخبرني عن الإفرنج، قال:
هناك يا أمير المؤمنين العدد والعدة، والجلد والشدة، وبين ذلك أمم كثيرة، منهم
العزيز ومنهم الذليل، وكلاًّ قد لقيت بشكلِهِ؛ فمنهم المصالح ومنهم المحارب المقهور،
والعزيز البذوخ. قال: أخبرني كيف كانت الحرب بينك وبينهم أكانت عَقبًا؟ قال:
لا أمير المؤمنين، ما هزمت لي راية قط، ولا نض لي جمع، ولا نكب
المسلمون معي نكبة منذ اقتحمت الأربعين إلى أن شارفت الثمانين، قال: فضحك
سليمان وقال: فأين الراية التي حملتها يوم مرج راهط مع الضحاك؟ قال: تلك يا
أمير المؤمنين زبيرية وإنما عنيت المروانية. قال: صدقت، وأعجبه كلامه.
فليتأمل قومنا اليوم بسيرة سلفهم، ولينظر المتفرنجون في أثرهم، وليقيدوا
أنفسهم بهم ليعلموا، هل صاروا بعدهم إلى تدلٍّ وسقوط، أم إلى رفعة وصعود؟
اللهم إنهم قد ارتقوا في فنون الزينة والتفنن في اللذات الجسدية، غير أنهم تدلوا في
الأخلاق والمزايا الإنسانية، فليحاسبوا أنفسهم إن كانوا يعقلون.