للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة الحاسد والمحسود
(للجاحظ)
منقولة عن نسخة بخط علي بن هلال الكاتب الشهير
(تابع ما قبله)
وكيف يصبر من استقر الحسد في قلبه على أمانيه، وقد كان إخوة يوسف
علماء حلماء ولدهم الأنبياء، فلم يغفلوا عما قدح في قلوبهم من الحسد بيوسف صلى
الله عليه وسلم، حتى أعطوا أباهم المواثيق المؤكدة، والعهود المقلدة، والأيمان
المغلظة، أنهم له حافظون، وهو شقيقهم وبضعة منهم، فخانوا العهود، ووثبوا
عليه بالظلم فألقوه في غيابة الجب، وجاءوا على قميصه بدم كذب، فبظلمهم يوسف
ظلموا أباهم طمعًا أن يخلو لهم وجه أبيهم ويتفردوا بحبه، وظنوا أن الأيام تسليه،
وحبه لهم عن بعده عنه يلهيه، فأسالوا عبرته وأحرقوا قلبه. وكيف لا تقر عيون
المحسودين بعد يوسف، وقد ملكه الله خزائن الأرض بصبره على أذى حساده،
ومقاصته إياهم بالعفو والمكافأة وحسن العشرة والمؤاخاة، بعد إمكانه منهم لما أتوه
ممتارين، ووفدوا عليه خائفين، وهم له منكرون، فأحسن وفدهم وأكرم قراهم،
فأقروا له لما عرفوا بالإذعان، وسألوه بعد ذلك الغفران، وخروا له سجدًا لما قدموا
عليه وفدًا.
فاذا أحسست - رحمك الله - من صديقك بالحسد، فأقلل ما استطعت من
مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته، وحصن سرك منه تسلم من شذاة
شره وعوائق ضره، وإياك والرغبة في مشاورته، فتمكن نفسك من سهام مساورته،
ولا يغرنك خدع ملقه وبيان زلقه، فإن ذلك من حبائل ثقافه، فإن أحببت أن تعرف
آية مصداقه، فدس له من يهجنك عنده ويذمك بحضرته، فإنه سيظهر لك من
تشبيبه لك ما أنت به جاهل، ومن خلال المودة ما أنت عنه غافل، لهو ألجٌّ في
حسده لك من الذباب، وأسرع في تمزيقك من السيل إلى الحدور.
وما أحب أن تكون عن حاسدك غبيًّا، ولا عن فهمك بما في ضميره نسيًّا،
إلا أن تكون للذل محتملاً وعلى الدناءة مشتملاً ولأخلاق الكرام مجانبًا وعن محمود
شيمهم ذاهبًا، أو تكون بك إليه حاجة قد صيرتك لسهام الرماة هدفًا وعرضك لمن
أرادك غرضًا، ولو نلت بذلك كنوز قارون لم يكن ذلك مما بذلت عوضًا، وقد قيل
على وجه الدهر: (الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها) .
وربما كان الحاسد المصطنع إليه بالمعروف أكفر له وأشد اجتهادًا وأكثر
تصغيراً لذاك من أعدائه.
وكان الحسن بن هانئ يرتع على مائدة إسماعيل الهاشمي، وكان من المطعمين
للطعام المسرفين، فعارض الحسن بن هانئ يومًا بعض أصحابه فقال له: من أين؟
فقال له: من عند إسماعيل، فقال له: ما أطعمكم؟ فقال: أطعمنا دماغ كلب في قحف
خنزير! فلم يكن منه هذا القول إلا على وجه الحسد، ولم يسلم منه مع كثرة أنسه به
وكثرة سيبه إليه حتى احتشد واحتفل في الذم له والتهجين لطعامه.
ولولا شدة ورع ابن سيرين وصدق لهجته لم يكن قوله فيما قال وأخبر عن نفسه
من اطراح الحسد عن قلبه مرويًّا عنه، وعند ذوي العقول معجبًا حيث قال: (ما
حسدت أحدًا على شيء، إن كان من أهل الجنة فما حسدي لرجل من أهل الجنة؟!
وإن كان من أهل النار فما حسدي لمَن يصير إلى النار؟ !) .
ومتى رأيت حاسدًا يصوب لك رأيًا وإن كنت مصيبًا؟ أو يرشدك إلى صواب
وإن كنت مخطئًا؟ أو نصح لك في غيبة عنك أو قصر في عيبة لك؟ هو الكلب
الكلِب والنمر الحرِب والسم القشب والفحل القطم والسيل العرم، إن ملك قتل وسبى،
وإن ملك عصى وبغى، حياتك موته وثبوره، وموتك عرسه وسروره، يصدق
عليك كل شاهد زور، ويكذب فيك كل عدل مرضي، لا يحب من الناس إلا من
يبغضك، ولا يبغض إلا من يحبك. عدوك بطانته وصديقك علاوته، وإنك ربما
غلطت في أمره لما يظهر لك من بره، ولو كنت تعرف الجليل من الرأي والدقيق
من المعنى، وكنت في مذاهبك فطنًا نقابًا، ولم تكن في عيب من أوضح لك عيبه
مرتابًا - لاستغنيت بالرمز عن الإشارة، وبالإشارة عن الكلام، وبالسر عن الجهر
والخفض عن الرفع، وبالاختصار عن التطويل، وبالجمل عن التفصيل، وأرحتنا
من طلب التحصيل، ولكن أخاف أن قلبك لصديقك غير مستقيم، كما أن ضمير قلبك
غير سليم.
إنك غير سالم منه وإن رفعت القذى عن لحيته، وسويت عليه ثوبه فوق منكبه،
ولبست ثوب الاستكانة عند رؤيته، واغتفرت له الزلة بعد زلته، واستحسنت كل
ما يقبح من شيمه، وصدقته على كذبه، وأعنته على فجرته. فما هذا العناء؟ وما
هذا الداء العياء؟ كأنك لم تقرأ المعوذة ولم تسمع مخاطبة الله نبيه صلى الله عليه
وسلم في التقدمة إليه بالاستعاذة من شر حاسد إذا حسد؟ أتطلب - ويحك - أثرًا
بعد عين؟ أو عطراً بعد عروس؟ أو تريد أن تجني عنبًا من شوك؟ أو تلتمس حلب
لبن من حائل؟ إنك إذاً لأعيا من باقل، وأحمق من الضبع، إن كنت تجهل بعد ما
علمناك وتعوج بعد ما قومناك، وتبلد بعد ما ثقفناك، وتضل إذ هديناك، وتنسى
لما ذكرناك، وتغبى عما فهمناك، وأنت كمن أضله الله على علم فبطلت عنده
المواعظ، وعمي عن المنافع، فختم على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة،
نعوذ بالله من الخذلان، إنه لا يأتيك ولكنه يناديك، ولا يحاكمك ولكنه يوازنك،
أحسن ما تكون عنده حالاً أقل ما تزيد مالاً وأكثر ما تكون عيالاً، وأعظم ما تكون
ضلالاً، وأفرح ما يكون بك أقرب ما يكون بالمصيبة عهدًا، وأبعد ما تكون من
الناس حمدًا، فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الأموات ومخالطة الزمنى والاجتنان
بالجدران ومص المصران وأكل القردان، أهون من معاشر مثله والاتصال بحبله.
والغل نتيج الحسد ورضيعه، وغصن من أغصانه، وعون من أعوانه، وشعبة
من شعبه، وفعل من أفعاله، وحدث من أحداثه، كما أنه ليس فرع إلا له أصل ولا
مولود إلا من مولد، ولا نبات إلا بأرض، ولا رضيع إلا له مرضع، وإن تغير
اسمه فإنه صفة من صفاته ونبت من نباته ونعت من نعوته، ورأيت الله جل ثناؤه ذكر
الجنة في كتابه فحلاها بأحسن حلية وزينها بأحسن زينة، وجعلها دار أوليائه ومحل
أنبيائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فذكر في
كتابه ما منَّ به عليهم من السرور والكرامة عندما دخلوها وبوأها لهم فقال {إِنَّ المُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً
عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: ٤٥- ٤٨) .
فما أنزلهم دار كرامته إلا بعد ما نزع الغل من صدورهم، فبافتقاد الغل والحسد
تهنوا بالجنة وقابلوا إخوانهم على السرر وتلذذوا بالنظر في مقابلة الوجوه بسلامة
صدورهم ونزع الغل والحسد من قلوبهم، ولو لم ينزع ذلك من صدورهم ويخرجه
من قلوبهم لافتقدوا لذاذة الجنة، ولتدابروا وتقاطعوا وتحاسدوا، وواقعوا الخطيئة،
ولمسهم فيها النصب وأعقبوا فيها الخروج، لأنه عز وجل فصل بينهم في المنازع
ورفع درجات بعضهم فوق بعض في الكرامات وسني العطيات، فلما نزع الغل
والحسد ظن أدناهم منزلة فيها وأقربهم بدخول الجنة عهدًا أنه أفضلهم منزلاً وأكرمهم
درجة وأوسعهم داراً، بسلامة قلبه ونزع الغل من صدره، فقرت عينه وطاب أكله،
ولو كان ذلك لصاروا إلى التنغيص في النظر بالعيون والاهتمام بالقلوب، ولحدثت
فيهم العيوب والذنوب، وما أرى السلامة إلا في قطع الحاسد، ولا السرور إلا في
افتقاد وجهه، ولا الراحة إلا في صرم مداراته، ولا الربح إلا في ترك مصافاته،
فإذا فعلت ذلك فكل هنيئًا واشرب مريئًا ونم رخيًّا وعش في السرور مليًّا، ونحن
نسأل الله الجليل أن يصفي كدر قلوبنا ويجنبنا وإياك دناءة الأخلاق، ويرزقنا وإياك
حسن الألفة والاتفاق. أحسن الله توفيقك، والسلام.