للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة
ملخص سيرة الأستاذ الإمام
(٢)
دخوله في الماسونية - من التمهيد
كان السيد جمال الدين قد أخذ على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً
عظيمًا ينهض بدولة إسلامية نهوضًا يعيد للإسلام مجده وكان مضطلعًا بذلك، إلا أنه
كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في
حياته؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة وتوسل إليه بالعلم فاتخذ له في مصر
تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة
بالعلم وخاف استبداد إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، فانتظم مع
مريديه في سمط الجمعية الماسونية وكان باتحادهم رئيس محفل مرّن فيه تلامذته
على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها، ونهوض الدول وسقوطها، وقد دخل
في هذا المحفل شريف باشا وبطرس باشا غالي وكثيرون من الكبراء والأذكياء.
وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعًا للسيد ومحفله، ومكان صاحب الترجمة
من السيد مكانه المعلوم فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه، وصلة بينه
وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر وسببًا لبحثه في أحوال الحكومة
المصرية، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة وبعدها على ما نقصده هنا بالإيجاز،
وفي التاريخ الذي سنؤلفه للفقيد بالتفصيل. وقبل أن ننتقل من هذا التمهيد نقول:
إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- ترك الماسونية من زمن طويل، وقد
أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب،
وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله. وقد سألته عن حقيقتها مرة فقال بأن عملها في البلاد
التي وجدت فيها للعمل قد انتهى وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا
يحاربون العلم والحرية وهو عمل عظيم كان ركنًا من أركان ارتقاء أوربا، وإنما
يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة، ويرونها جمعية أدبية تفيد
التعارف بين الناس.
وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسي اجتماعي، وأنه قد
تركها من سنين ولن يعود إليها، وأنها ابتذلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل.
وأخبرني أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد
للدولة العلية بإيعاز بعض الدول الأوربية فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته،
ولكن الفقيد -رحمه الله تعالى- هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل، بل كان
مبدأ انسحابه مع السيد جمال الدين من الماسونية عندما جاء إلى مصر رئيس الشرق
الأعظم الإنكليزي، وهو يومئذ ولي العهد للدولة الإنكليزية فاجتمعت المحافل
الماسونية حفاوة به، وذكر أحد رؤسائها ولي العهد بهذا اللقب فاعترض السيد جمال
الدين، وقال: إنه لا يسمح بأن يحتفل بأحد على أنه ولي العهد لدولة من الدول لا
سيما الدولة الإنكليزية التي من وصفها كيت وكيت، وليس لها فضل على
الجمعية ... إلخ ما قاله. ولا أذكر منه إلا مثل هذا الإجمال فرد عليه بعض رؤساء
المحافل، وبعد مناقشة انسحب من الماسونية هو وخواص مريديه ولما رأى بعض
علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك
بمساعدة الجمعية له، فدخل كثيرون منهم فيها ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه
من أهلها، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال
الدين.
إصلاحه في مدارس الحكومة والأزهر
إذا تمهد هذا فنقول: قد عين الفقيد في أواخر سنة ١٢٩٥ مدرسًا للتاريخ في
مدرسة دار العلوم، وللعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية، فكان يدرس فيهما
مع الاستمرار على التدريس في الجامع الأزهر؛ فبدأ في دار العلوم بقراءة مقدمة
ابن خلدون؛ لأنه مقدمة للتاريخ، وإنما غرضه بث أفكاره السياسية والاجتماعية في
أذهان التلاميذ فكان يطبق ما فيها من الكلام عن نهوض الدول وسقوطها وشؤون
العمران وأصوله على أمته ويبين أسباب ضعفها والوسائل التي تذهب به وتعيد إليها
ما فقدت من عزها ومجدها، وكان يكلف التلاميذ كتابة المقالات والفصول في ذلك؛
فكان كل واحد يشعر بروح جديد يدب في هيكله ويرى نفسه مخلوقًا لخدمة بلاده
وإعلاء شأن أمته. وقد كتب رحمه تعالى في ذلك العهد كتابًا حافلاً في علم الاجتماع،
وفلسفة التاريخ انتقد فيه بعض ما قاله ابن خلدون، واستدرك عليه وبين ما
نسخته طبيعة الاجتماع في هذا العصر من أحكام العمران في العصور الغابرة،
وكان في مدرسة الألسن آية البيان في إحياء اللغة العربية، وإشراع الطريق اللاحب
في التعليم، والخروج بالطلاب من مآزق العهد القديم، ثم إن دروسه في الأزهر
كانت بناءً جديدًا للعقائد على أسس البراهين القطعية، وتجديدًا لما بلي من سائر
العلوم العقلية، وكانت حلقة درسه في الأزهر واسعة جدًّا تحيط بأعمدة كثيرة، وكان
يقرأ في بيته درسًا في الأخلاق أو السياسة لطائفة من المجاورين قرأ في ذلك كتاب
تهذيب الأخلاق لابن مسكويه فكان ذلك سبب طبعه المرة الأولى وقرأ كتاب (كيزو)
في السياسة ولا أدري أتمه أم لا.
كان القصد من هذه الدروس تكوين نابتة جديدة من السكان في مصر تحيي
اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوِّم عِوج الحكومة المصرية، فقد كانت هذه
الحكومة لذلك العهد قد رثت ووهت، ووقعت في النزع أو أوشكت، عظم فيها
سلطان الأجانب، وأحاطت بها سيول الفتن من كل جانب، ومنيت الأمة التي تمدها
بالمتربة والمسغبة، وضربت عليها الذلة والمسكنة، ذلك بما أسرف إسماعيل باشا
في الضرائب والمكوس، وتعذيب الأجساد والنفوس، فأما آثار إسماعيل باشا في
البلاد فلا يزال الكهول والأشياخ يحدثون بها الشبان والغلمان، وأما ما فعله السيد
جمال الدين ومريده الشيخ محمد عبده من السعي في إصلاح الحكومة في الحال،
وتربية الرجال لأجل الاستقبال، فلا يعرفه إلا من كان يعمل معهما، ويتلقى عنهما،
ومن شاء من أهل هذه الديار، أن يروي شيئًا من تلك الأخبار، فليراجع من بقي
من تلامذتهما الأخيار، كالشيخ عبد الكريم سلمان وسعد بك زغلول وإبراهيم بك
اللقاني وحفني بك ناصف ومحمد بك صالح وسلطان أفندي محمد وغيرهم. ولو
طال العهد على عملهما لتم لهما المراد، ولما حدثت الثورة العُرابية، ولكن خانهما
الزمان، وما قدر كان.
كان من عمل السيد جمال الدين ومريديه أن اتصلوا بولي العهد توفيق باشا
الخديو السابق، واتفقوا معه على تغيير شكل الحكومة وإصلاح شئونها؛ فكان يعدّ
السيد والشيخ من أقوى أنصاره وأوليائه، ولما انتهى الحيف والجور والخلل بخلع
إسماعيل باشا، ونصب توفيق باشا أميرًا على مصر في رجب سنة ١٢٩٦ طفق
السيد جمال الدين يطالبه بإنجاز وعوده، وأولها إنشاء مجلس نواب للحكومة وجعل
الوزارة مسئولة، وظهرت طلائع الإصلاح على يده، ولكن وجد من الواشين من
غَيَّرَ قلبه على السيد والشيخ، وأوهمه أنهما يسعيان في تقييد سلطته أو إزالتها،
فأمر بنفي السيد، فأُخِذَ من داره ليلاً في عربة مقفلة وليس عليه غير قميص واحد
وأرسل في قطار خاص إلى السويس، ومن هناك ذهب إلى الهند وأمر بعزل الشيخ
من مدرسة دار العلوم، ومدرسة الألسن، وبأن يقيم في قريته (محلة نصر) لا
يفارقها إلى بلدة أخرى، وخاصة عاصمة البلاد والمدن الكبيرة كالإسكندرية وغيرها.
وكان ذلك في رمضان سنة ١٢٩٦.
عمله في المطبوعات والحكومة
وفي أواسط سنة ١٢٩٧ توجهت عناية رياض باشا إلى تحسين كتابة الجريدة
الرسمية وجعلها مفيدة مرغوبًا فيها من الناس، فاستشار الشيخ حسين المرصفي
ومحمود باشا سامي البارودي كُلاًّ علي حدته فأشارا برأي واحد كأنهما تواصيا به
وهو جعل الشيخ محمد عبده محرِّرًا فيها ففعل بعد أن استرضى توفيق باشا؛ فصدر
الأمر العالي بتعيينه محررًا ثالثًا، وانتظر رياض باشا مدة من الزمن فلم يرَ تغييرًا
يُحمد. ثم إنه كتب من الإسكندرية يأمر قلم المطبوعات في مصر بأن تكتب مقالة
في مالية مصر تلم بشيء من تاريخها الماضي، وحالها الحاضر الذي وضع له
قانون التصفية، وأن تنشر هذه المقالة في أول عدد يصدر من الجريدة الرسمية
وكان قد بقي له يوم واحد، فحاص كُتَّاب الجريدة وحاروا وأرسلوا إلى صاحب
الترجمة من أحضره من الأزهر وكلفوه كتابة المقالة فكتبها في مجلسه ونشرت فلما
قرأها رياض باشا أعجب بها أشد الإعجاب وسأل عن كاتبها فقيل له هو فلان فزاد
عجبه أن وجد في الأزهر شاب واقف على تاريخ المالية في مصر، عارف بجميع
شئونها، قادر على بيان ذلك والإفصاح عنه. وفي أواخر هذه السنة طلبه رياض
باشا وسأله عن رأيه في إصلاح الجريدة؛ فبين له رأيه في تقرير ضاف، فأمر بأن
تؤلف لجنة للنظر في التقرير من وكيل الداخلية، ومدير المطبوعات، وكاتب
التقرير، وأن تضع لائحة لقلم المطبوعات، وتحرير الجريدة فكان ذلك، وعُين
الفقيد رئيسًا لقلم تحرير الجريدة الرسمية العربية، فاختار لها من المحررين المهرة
الشيخ عبد الكريم سلمان والشيخ سعد زغلول (هو سعد بك زغلول المستشار
بمحكمة الاستئناف لهذا العهد) والشيخ سيد وفا (رحمه الله) وهم ممن كانوا
يحضرون دروسه ودروس السيد جمال الدين وبرعوا في الكتابة معه على يد السيد
ثم ماذا كان من شأنه؟ كان ما لم يكن يخطر على قلب بشر وهو أن رئيس التحرير
للجريدة الرسمية صار مهيمنا على الحكومة والأمة ينتقد الأعمال والأقوال، وينتقل
بالناس من حال إلى حال.
وضع لائحة أو قانونًا لقلم المطبوعات أجازه، وأنفذه رياض باشا؛ فكان من
أحكامه أن جميع إدارات الحكومة ومصالحها ومجالسها في العاصمة وغيرها ملزمة
بأن تكتب إلى إدارة المطبوعات مخبرة بما عملت فأتمت، وما شرعت فيه، وكذلك
المحاكم ترسل إليها نتائج أحكامها، وأن لإدارة المطبوعات الحق في انتقاد كل ما
تراه منتقدًا من الأعمال، وأن لها حق المراقبة على الجرائد الوطنية والأجنبية التي
تصدر في القطر المصري، وأن تبحث عن حقيقة ما تقوله في رجال الحكومة
وأعمالها، وعلى الحكومة مساعدتها على ذلك بمعنى أنه إذا نشر في بعض الجرائد
ما ترتاب إدارة المطبوعات فيه؛ فإن لها أن تسأل المصلحة أو الإدارة التي يسند
إليها ذلك عن الحقيقة بواسطة نظارة الداخلية إن لم يكن ما نشر مسندًا إلى النظارة،
وإلا سألتها هي مباشرة؛ فإن كان حقًّا ما نشر في الجريدة، وجب على الحكومة
مؤاخذة من نسب إليه الذنب؛ وذكر ذلك في الجريدة الرسمية، وإن كان كذبًا طولب
مدير الجريدة بإثباته، وإلا أنذر، وإذا تكرر إنذار جريدة ثلاث مرات يمنع إصدارها
ألبتة أو إلى الأجل الذي تراه الإدارة. وأن من حق رئيس تحرير الجريدة الرسمية أن
يجعل فيها قسمًا غير رسميّ ينشر فيه لنفسه ولغيره ما يراه نافعًا من المقالات الأدبية
ويدخل في الأدبية الاجتماعية والاقتصادية ما أشبه ذلك- وقد أجاز هذا القانون وأنفذه
رياض باشا لما له من العناية بالإصلاح ولثقته بكفاءة صاحب الترجمة، وغَيْرَتِهِ
وإخلاصه في الخدمة العامة، وإن في هذا لعبرة لأولي الألباب، صاحب عمامة أزهرية يدخل في حكومة مطلقة بعيدة في أعمالها عن رجال العلم والدين فيشرف
من نافذة غرفة تحرير الجريدة على نظارات الحكومة ومجالسها، ومحاكمها،
ومصالحها؛ فيصلح لهم ما يكتبون، ويرشدهم إلى إصلاح العمل فيما يعملون، ثم
يشرف من نافذة أخرى على الأمة؛ فيقوم من أخلاقها. ويصلح ما فسد من عاداتها،
بالوعظ الصحيح، والإرشاد الحقيقي، ويطل من نافذة ثالثة على الجرائد العربية
فيعلمها حسن التحرير، ويربيها على الصدق في القول ويجعل للصادق منها
سلطانًا نصيرًا، وتأثيرًا مأثورًا، يا لها من عمامة شرفت برأس صاحبها حتى
حسدتها الطرابيش، وهابتها التيجان والبرانيط، ونذكر هنا على سبيل الفكاهة أن بعض الكبراء رغبوا إلى الأستاذ الإمام في ذلك العهد أن يستبدل الطربوش
بالعمامة؛ لأن صاحب العمامة لا يرتقي إلى مراتب الرؤساء والنظار
كصاحب الطربوش، فأبى عليهم ذلك فأرادوا الاستعانة عليه برياض باشا فأوهموه
أنه يميل إلى لبس الطربوش ولكنه لا يلبسه إلا بأمره فسأله فظهر له أنه لا يرغب
في ترك زيه، وأنه إذا ألزمه بذلك إلزامًا؛ فإنه يمتثل ما دام في عمل الحكومة؛
فإذا خرج من عمله عاد إلى عمامته؛ فقال رياض باشا: كلا، إنني لا أرضى لك
الطربوش؛ لأنني أحب أن يعلم الناس أنه يوجد تحت العمائم من العقول والأفهام
مثل ما يوجد تحت الطرابيش وغيرها. فلله دَرُّ رياض باشا، وجزاه الله الخير فإنه
هو الذي أحضر السيد جمال الدين ومكن له في أرض مصر، وهو الذي كان السبب
في ظهور مواهب الشيخ محمد عبده في أول نشأته حتى إنه حَكَّمَهُ في انتقاد نظارة
الداخلية وهو أحد العمال المتوسطين فيها.
كان من أثر مراقبة إدارة المطبوعات للجرائد أن اجتهد أصحابها في انتقاء
المحررين، وقد أنذر - عَامَلَه الله تعالى بإحسانه - مدير جريدة شهيرة بمنع جريدته
إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة عينها؛ ففعل ذلك المدير. ولم يكن
يأذن بطبع كتاب من الكتب الضارة. وكان من أثر انتقاد كتاب الحكومة أن نبه شأن
المجيدين منهم، وفتحت مدارس ليلية لتعليم المقصرين، وتبرع - تغمده الله
برحمته - بقراءة درس في بعضها. فهذا هو مبدأ النهضة القلمية الحقيقية في مصر
فالفضل فيها للسيد جمال الدين، وللشيخ محمد عبده، رحمهما الله تعالى.
وأما انتقاد أعمال الحكومة فكان من أسباب تحريها الحق، والعدل، والاجتهاد
في إصلاح كل نظارة، وقد عني الفقيد يومئذ بنفسه في انتقاد نظارة المعارف ومثل
مساوي التعليم والتربية في مدارسها شر تمثيل؛ فضاق ذرع ناظر المعارف لذلك
العهد فلاذ برياض باشا شاكيًا من الجريدة الرسمية، فقال له رياض باشا: إن كان ما
كتب حقًّا فلا وجه للشكوى منه، وإن كان باطلاً فعليك أن تبين ذلك بالدليل والبرهان،
وفلان ينشره في الجريدة الرسمية نفسها؛ فإنه لا يقصد بما يكتب فيها إلا المصلحة
فسكت الناظر واجمًا.
عمله في مجلس المعارف الأعلى
اقتنع رياض باشا بما في نظارة المعارف من الخلل، وعلم أن ما يكتب في
الجريدة الرسمية حق فذاكر الفقيد في ذلك، وفي وسائل تلافيه، فعرض عليه أن
يكون للمعارف مجلس أعلى يكون له الحكم الفصل في إدارة المعارف العمومية
ويكون الناظر منفذًا لما يقرره، فأنفذ ذلك رياض باشا، وجعل صاحب الترجمة
عضوًا في هذا المجلس؛ فكان له فيه الاقتراحات النافعة للبلاد، ولولا كثرة ما جعل
فيه من الأعضاء الأجانب الذين يعارضون المشروعات النافعة ثم حدوث الثورة
لارتقت معارف البلاد في ذلك العهد ارتقاء عظيمًا. صدر الأمر العالي بتشكيل هذا
المجلس في ٢٨ ربيع الآخر سنة ١٢٩٨ وقد تألفت منه لجنة للنظر في إصلاح
طرق التعليم والتربية في جميع المدارس، وكان الفقيد الكاتب العربي لجلساتها، وكان
له فيها الآراء الصحيحة، والحجج القيمة على ما يطلب من الإصلاح.
أذكر من اقتراحه شيئًا سمعته، ولا أدعي أنني أحيط به كل الإحاطة وهو أنه
اقترح مرة على المجلس أن يطلب من الحكومة مبلغًا عظيمًا من المال يوزع على
المدارس الأجنبية مكافأة لها على خدمة العلم ونشره في البلاد فهش الأعضاء
الأوربيون لهذا الاقتراح، وعارض فيه بعض الأعضاء الوطنيين ووافق الآخرون
الذين عرفوا ما يرمي إليه المتقرح فتقرر بأكثر الآراء. ثم إنه اقترح في جلسة
أخرى أن يقرر المجلس وجوب جعل المدارس الأجنبية تحت مراقبة نظارة المعارف
لينظر مفتشو النظارة في نظام التعليم فيها، فهش الأعضاء الوطنيون لهذا الاقتراح
وعارض فيه الأجانب، فأقام عليهم الحجة بأن جميع الدول الأوربية تراقب
جميع المدارس التي تأخذ منها إعانة وتفتش مدارسها إذ يجب على الحكومة أن تعلم
أنها لا تضيع دراهمها، بل تنفقها فيما ينفع بلادها. فقال بعضهم: إن هذا قول حق
وإنما نعارض الآن في هذا الاقتراح؛ لأننا نعلم أن المعارف في مصر منحطة وإنما
اجتمعنا لترقيتها وأرباب المدارس الأجنبية مرتقون في العلوم والمعارف، ولا يصلح
السافل للإشراف على من هو أعلى منه، ولا المنحط للحكم على المرتقي. فقال
الفقيد - رحمه الله تعالى -: كان يصح هذا الدفاع لو لم تكن أنت ورفاقك من أعضاء
مجلس المعارف المصري؛ فإذا كان الطلب في نفسه حقًّا وعدلاً فلا يصح أن يرفض؛
لأن المعارف العمومية لم ترتق في البلاد المصرية؛ لأن عدم ارتقاء المعارف
وانتظام المدارس لا ينافي وجود أفراد من الموظفين في النظارة من الأوربيين أو
المصريين المتعلمين في مدارس أوربا العالية يصلحون لتفتيش المدارس الأجنبية،
فنهضت حجته وتقرر اقتراحه.
وإنها لأمنية يتلحز على ذكرها السلطان والأمير، ويسيل لتوهمها لعاب الناظر
والوزير، ولكن تقف دونها الآمال حسرى، وتنحني أمامها العقول حيرى، وتكبو
في غاياتها جياد السياسة، ويصغر عن الطمع فيها أهل الرياسة، ثم تسمو إليها تلك
الهمة، وتستنزلها من أعلى القمة، ولولا الفتنة العُرابية لجعل لنا ذلك العضو أو
الكاتب سيطرة على مدارس الأجانب على ما كان لهم في ذلك الزمان من النفوذ
والسلطان، فكيف لو كان ذا منصب أعلى، ونفوذ أقوى؟
دعوته نظارة الأوقاف إلى الإصلاح
كان لنظارة الأوقاف من حظ إرشاده، نفعنا الله بعلومه وآثاره نحو ما كان
لسائر النظارات ومصالح الحكومة، وكان من تأثير إخلاصه أن عزمت هذه النظارة
يومئذ على عمل جليل وهو أن تصل دار الكتب المصرية (الكتبخانة) ومدرسة دار
العلوم بالأزهر، وتوسع دائرة المدرسة بحيث تدرس فيها جميع العلوم ويبلغ عدد
طلابها ٥٠٠ طالب، ويكون المتخرجون فيها هم المقدمين في أعمال الحكومة، ولو
تم هذا لكانت الأوقاف ينبوع الحياة لهذه البلاد. ولكن حال دون هذا ودون ما كانت
الحكومة شرعت فيه من الإصلاح الإداري والقضائي والعسكري تلك الفتنة
المشؤومة.
الثورة العرابية
علم مما تقدم أن البلاد المصرية كانت في أواخر إمارة إسماعيل باشا في
ظلمات بحر من الظلم لُجيّ، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات
بعضها فوق بعض، ظلمة الجوروالظلم، وظلمة الفقر والفاقة، وظلمة الشرور
وفساد الأخلاق، والآداب، وظلمة تحكم الأجانب، وسيطرتهم على الحكومة بحجج
المراقبة المالية لما لها من الديوان على إسماعيل باشا وسلطتهم على الرعية التي
أغرقها في الاستدانة منهم كثرة الضرائب والجزى، وكثرة الضرب وسوء الجزاء،
وكان يظهر من غمرات هذه الظلمات بصيص من النور في مواضع مختلفة لمعت
جَذْوة منه في الأزهر فنفخ الشيخ عليش نفخة أخمدتها ولكنها ما أطفأتها، ثم كان هذا
النور يظهر في معاهد خاصة فتعشو إليه الأبصار، ويسير في ضوءه من سار، حتى
أشرق وتلألأ في إدارة المطبوعات، وانتشر نوره في سائر الجهات، وكان ما كان
من أخذ الحكومة والناس بوسائل الإصلاح ومقاصده فرحين مستبشرين بأميرهم
الجديد (توفيق باشا) لعفته عن أموالهم، ورغبته في إصلاح حالهم، وبوزيرهم
العامل المخلص (رياض باشا) وإذا بناجم الفتنة قد نجم، وطائر الشر قد وقع، إذ
هب ضباط الجيش من المصريين يطالبون بحقوقهم، وأيديهم على مقابض
سيوفهم، وتلك هي ما يسمونه بالثورة العرابية.
لا يعنينا في هذا المقام خبر هذه الثورة ولا تاريخها، وإنما يعنينا أن نبين في
تاريخ أستاذنا أنه كان كارهًا لها، منددًا بزعمائها وهو بينهم؛ لأنه كان يعلم أنها
تحبط عمله الذي مضى فيه، وكل إصلاح تعمله الحكومة أو تنويه، وأنها تمهد
للأجانب سبيل الاستيلاء على البلاد، بل كان هو وأستاذه يتوقعان ذلك من سيرة
إسماعيل باشا، وقد صرح السيد بذلك في خطبه وفي بعض ما كتب وطبع لذلك
العهد، وحاول أن يحول دون ما يخشى ويتوقع بالسعي في الإصلاح، فليس ما
نقوله عن أستاذنا من أنه كان لا يجهل خطر الثورة بالدث والرجم بالغيب، بل هو
قول مؤيد بالدلائل وثابت بالرواية الصحيحة عنه، وعن الصادقين من العارفين بما
كان.
كان ينتقد على زعماء الثورة بالقول خطابة وجدالاً في أنديتهم وسمارهم
وبالكتابة في الجريدة الرسمية حتى أرسل إليه عرابي مرة من يتهدده، ويقول: إنك
أهنت الشرف العسكري بما كتبت عن الجيش ورؤسائه. أرسل إليه ضابطين إلى
قلم المطبوعات من الداخلية فطردهما وهددهما بالضرب إذا هما لم يخرجا. وكان
عرابي وأعوانه ينفضون من المجلس يدخل فيه.
زار مرة طُلبة باشا في أيام عيد الفطر، فإذا بعرابي وأعوانه جلوس يتكلمون في
الاستبداد والحرية، والحكومة المطلقة، والحكومة النيابية الدستورية، واتفقوا على
أن الأمن على الأرواح والأموال، وصعود الأمة في مراقي الكمال، من آثار
الحكومة المقيدة بلا جدال، وأن هذا التحويل قد آن في مصر أوانه، وأدركها إبَّانه،
فعارض الأستاذ في ذلك، وقال: إن أول ما يجب أن يُبدأ به التربية والتعليم لتكوين
رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيدة بالعزيمة، وحمل الحكومة
على العدل والإصلاح، ومنه تعويدها الأهالي على البحث في المصالح العامة
واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات، وليس
من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف
بماله قبل بلوغ سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد. فطفق
عرابي يجادله هو وأحد أساتذة المدرسة الحربية، وكان مما احتج به الفقيد عليهما
أن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارة شئونها لما كان لطلب ذلك
بالقوة العسكرية معنى؛ فما يطالب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه
ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالاً
أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة. عند ذلك أبدى المجادل نواجذه لغير
تبسم، وقال أرجو أن لا أستحق هذه اللعنة، وليس الجند هو يطلب مجلس النواب،
ولكنه مؤيد لطلب أعيان البلاد ووجهائها، ثم أسر إلى الأستاذ أن سلطان باشا جمع
الأعيان لهذا الطلب. وقد كتبنا في ص٥١٢ من مجلد المنار الرابع ردًّا على
صحافي عرَّض بأن الأستاذ الإمام كان من أركان الثورة العرابية نذكره هنا وهو
عرض هذا الانفجاني المتذقح بذكر الفتنة العرابية، ويا ليته كان يعرف حقيقة الفتنة
العُرابية ويعرف المتهورين فيها، والناصحين لهم بالاعتدال، فهو لا يعرف ولا
يحب أن يعرف، وإذا أحب فليسأل العارفين، وليراجع كتابة الكتابين، وعند ذلك
تظهر له مزية من عرَّض به إن كان من المنصفين، يظهر له أن هذا الرجل الكبير
العقل البعيد الرأي كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة الوقائع الرسمية في
القسم الأدبي منها على حين ترتعد فرائص قصر الخديوية من عرابي، وحين
يرى هذا المنتقد الشجاع أن رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا،
ويسمع من أتباعه ما يكره. وتظهر له تلك الخطبة التي خطبها هذا الرجل العظيم
في زعماء الثورة العرابية عندما ألزموه بحضور مجتمعهم وأن يقوم فيهم خطيبًا.
ماذا كان موضوع خطبته؟
كان موضوعها بيان تاريخي بأن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن
القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطتها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين
الرعية، إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح
والتربية النافعة، وصار لهم رأي عامّ، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن
الخواص، والأغنياء، ورجال الحكومة يطلبون مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة
امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف، ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك فكيف
حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ (قال) فهل تغيرت سنة الله في الخلق
وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ إليه أحد من
العالمين، حتى رضيتم واخترتم عن روية وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في
جاهكم ومجدكم، وتساووا الصعاليك حبًّا بالعدالة الإنسانية؟ أم تسيرون على حيث
لا تدرون، وتعملون ما لا تعلمون؟ وأمثال هذا الكلام الذي فهمه بعضهم فطفقوا
ينغضون رءوسهم وعلا على أفهام الآخرين.
هذا ما قاله الشيخ محمد عبده في أعظم مجتمع لرؤساء العرابيين ولو كانوا
يعقلون لرجعوا به إلى رشدهم، ولكن الأمة لم تكن استعدت لفهم إرشاد هذا الحكيم
ولما تستعد الآن، ولهذا الأستاذ أن يتمثل بقول ابن الفارض، رحمه الله تعالى:
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى ... ولكنها الأهواء عمت فأعمت
هذ ما كتبناه منذ أربع سنوات كاملة، ولا حاجة إلى كثرة الشواهد والوقائع في هذه
السيرة المختصرة.
ولا يلتبسنَّ على القارئ معارضة الإمام للعرابيين في مشروع مجلس النواب
وتقييد السلطة مع أنه كان الداعي الثاني إلى ذلك بعد أستاذه، وأول من تلقى ذلك
عنه، فإنه كان يحاول أن يكون ذلك برضى الأمير وحكومته، لا بالخروج عليه
وأن يكون في البداية من قبيل التمرين والتعويد مقرونًا بالتربية والتعليم إلى أن تبلغ
النابتة الجديدة أشدها، وتصل من طريق الحكمة إلى رشدها، وقد رأيت كيف كان
التوسل منه فيما رويناه لك عنه، وهو لم يفارق القوم المطالبين بالصلاح عند مهب
الفتنة، ويلجأ إلى قصر الإمارة أو يتفيأ ظلال العزلة، لأنه في فكره وسط بين
الطرفين، وفي عمله بين المصلحتين، وقد قال لعرابي مرارًا كثيرة: عليك بالهدوء
والسكينة، وأنا أضمن لك أكثر مما تطلب في بضع سنين، ونهاه بعد ذلك عن محاربة
الإنكليز.
انتهت الثورة بالاحتلال الإنكليزي، وقبض على زعمائها وألقوا في غيابة
السجن ليحاكموا فيقتلوا تقتيلاً. وجعل الفقيد منهم لأمر ما، وصدر الأمر بأن تكون
محاكمتهم بالقانون الإنكليزي، وعين لهم محام إنكليزي جاءهم فسمع منهم وكلفهم أن
يكتبوا دفاعهم بأيديهم كل يكتب عن نفسه، ولا يطعن في غيره، فلم يرَ في كتابة أحد
ما تقوم به الحجة، وتقعد به التهمة، ويدل على الغوص في أعماق الحوادث،
والإحاطة بما لها من الأسباب والنتائج إلا ما كتبه وما قاله فقيدنا بالأمس، وقد زاد
المحامي على بيان ذلك أن أشعره بالخفايا، وأطلعه على ما في زوايا القصر من
الخبايا، كقوله: إن الحاشية خاطبت محافظ الإسكندرية بلسان البرق بكذا في يوم كذا
وعدد كذا بأن يفعل كيت وكيت. وأعطاه من المستندات ما يقلب وجه المسألة، ولا
ترضى إظهاره السياسة، وسنشرح ذلك في تاريخ الفقيد بالتفصيل. حكم على
عرابي ورفاقه المعروفين بالنفي الأبدي، وعلى صاحب الترجمة بالنفي ثلاث سنين
وثلاثة أشهر. وقد كان النفي بلاء وشقاء على كل المنفيين حاشا الإمام؛ فإنه كان
رحمة له ونعمة عليه ومزيدًا في كمال علمه وتربيته وسببًا لنشر علمه في بلاد كثيرة؛
ذلك أنه كان من أهل الإخلاص والتقوى فجعل الله تعالى له من كل ضيق فرجًا
ومخرجًا بل بدل له النقمة نعمة والسيئة حسنة، فكان مبدأ حياة جديدة له نبينها فيما
يلي هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))