للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آثار علمية أدبية
(تاريخ الأستاذ الإمام)
إن التربية بناء يوضع على أساس القدوة، ويرفع على قواعد الأسوة، فسِير
عظماء الرجال، أنفع ما يذخر للأجيال، وإن العبرة بسِير المعاصرين أقوى من
العبرة بسِير الغابرين؛ لأن عامة الناس عندنا تعتقد أن الأولين من عنصر أزكى،
واستعداد أقوى، فلا يضرب معهم المتأخر بسهم، ولا يدانيهم في فضل أو علم
لذلك رأينا أن من أنفع ما نخدم به الأمة وضع تاريخ مطول للأستاذ الإمام -
رحمه الله تعالى- وقد نوهنا بذلك فيما نشرناه من سيرته. ونريد أن نقول هنا: إن
ورثة الفقيد وأصدقاءه ومريديه الذين نعرفهم هنا عون لنا على هذه الخدمة، ونرجو
من إخوانهم في الصداقة والوفاء من سائر الأقطار أن يتفضلوا علينا بما يرون من
النصائح، وما يعرفون عن الفقيد من الأعمال والمآثر مما يخفى مثله علينا، ويُظن أن
لا يكون وصل إلينا، كبعض الكتب والرسائل، وما رأوا من الأعمال أو سمعوا من
المسائل. ومن أرسل إلينا شيئًا من خط الفقيد فإننا نعيده إليه على عهد الله ورسوله.
ثم إن ما يرسل إلينا منه إن كان أثارة من علم أو أدب؛ فإننا ننشرها حتمًا
ونكافئ مرسلها بنسخة من التاريخ نهديها إليه، وإن كان كتابًا خاصًّا بمن كان أرسل
إليه فإننا لا ننشره إلا إذا كان فيه فائدة عامة من حكمة تُؤثَر، أو بلاغة تؤثِّر، على
أنه قلما يخلو كلام له من كلتا المزيتين مهما كان الموضوع الذي كتب فيه. ولا شك
أن الذين توجد عندهم هذه الآثار والأخبار، يحرصون مثلنا على تدوينها واستفادة
الناس منها في الأغلب فلا يبخلون علينا بما ينفع الأمة ويحفظ أثر الإمام، فهذا
الاستجداء سيصادف بذلاً وسماحًا إن شاء الله تعالى.
وإننا نقدر أن التاريخ لا يقل عن ألف صفحة وقد يزيد عليها، وأن تجزئته
إلى جزئين أو ثلاثة أولى، وربما نجعل له اشتراكًا.
وليعلم الشعراء الذين نظموا المراثي ونشروها في بعض الجرائد أننا لا ننشر
منها إلا ما نختار مما أرسلوه إلينا أو إلى الشيخ عبد الكريم سلمان أو حمودة بك
عبده؛ لأننا لم نتتبع الجرائد ونحفظ ما فيها من القصائد، وليس المانع من إثبات
المرثية في التاريخ هو سبق نشرها في بعض الجرائد وإنما هو ما ذكرنا من عدم
التتبع والحفظ، فمن شاء أن يرسل إلينا شيئًا مما نشر فليفعل.
وكنا نود لو بين لنا كل من أرسل أو يرسل إلينا شيئًا من كاتب وشاعر لقبه
الذي يخاطب به ووظيفته التي يذكر بها؛ لنذكره بما هو معروف به؛ إن لم يكن
متنكرًا؛ فذلك خير من نشر القصيدة أو المقالة بالتوقيع الذي يذكر فيه الاسم غفلاً لا
يعرف مسماه إلا المتصلون به، وقد يشتبه بغيره لكثرة المشاركة في الأسماء والألقاب
هنا (أي في البلاد المصرية) .
***
(كتاب الهدية العصرية إلى الجامعة الوطنية)
كتب سليمان أفندي مصوبع المحامي السوري مقالات في الاجتماع البشري
والعمران، ونشرها في جريدة ثمرات الفنون وغيرها من جرائد بيروت، ثم اقترح
عليه أن يجمع شملها في كتب، فجاء الكتاب يناهز مائتي صفحة في عشرة أبواب:
(١) في العمران أساسه وتحديده وسره.
(٢) في الحاجة تأثيرها والوقاية منها.
(٣) في المحاماة.
(٤) في الانتقاد.
(٥) في مسئولية الإنسان.
(٦) في أدوار الحياة ونحو ذلك.
وفي هذه المباحث آراء صحيحة وفيها مسائل غامضة ولعل أكثر الغموض من
ضعف التأليف، وإعواز البيان؛ حتى كان الكلام كترجمة باصطلاحات جديدة،
وأسلوب لم يخلص دائمًا إلى الأسلوب العربي الصحيح من حيث: تعدية الأفعال،
وربط الكلام بعضه ببعض، ووضع الكلم موضعه، على أن فيه جملاً رائعة
وتجوزًا حسنًا في بعض المواضع. وقد كان أعجب الكتاب إليّ، وأحسنه عندي
كلامه في الدين، وبذلك تبين أن دين الأنبياء واحد، وأن الأخير مكمل لما قبله،
وعليه المعول في الخلاف، ولولا التطويل لنقلت كلامه هذا، على أنه قد سبق لنا
اقتباس ما كتبه الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- في ذلك من رسالة التوحيد وهو
الكلام الذي ليس فوقه مطلع ولا وراءه غاية. وإننا نثني على سليمان أفندي لعنايته
بما تقلّ العناية به في تلك البلاد، ونرجو له زيادة التحرير والاجتهاد.
***
(كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة)
لهذا الكتاب ذِكر في دواوين المتقدمين لشهرة مؤلفه أبي نصر الفارابي فيلسوف
المسلمين في القرن الرابع، وقد كان من كنوز الكتب المخفية فظهر في هذه الأيام
وطبعه الشيخ فرج الكردي والشيخ مصطفى القافي الدمشقي يطلب من المكتبة
الملوكية بمصر.
مسائل الكتاب تدور على أقطاب الفلسفة اليونانية في الوجود الأول، وما يجب
له من الصفات وفي أقسام الموجودات الأخرى ومنها النفس ومن هنا ينتقل إلى
الكلام في الوحي والنبوة، ثم إلى حاجة الإنسان إلى الاجتماع والتعاون، وإنما
يكملان بالمدينة لذلك بَيَّن معنى المدينة، وقسمها إلى أقسام المدينة الفاضلة وما
يضادها من المدينة الجاهلية، والمدنية الفاسقة، والمدينة المتبدلة، والمدينة الضالة
ثم ذكر في التفصيل أقسامًا أخرى منها مدينة الخسة والشقوة، قال: (وهي التي
قصد أهلها التمتع بالملذة من المأكول، والمشروب، والمنكوح وبالجملة اللذة من
المحسوس، والتخيل وإيثار الهزل واللعب بكل وجه، ومن كل نحو) وهذه المدينة
قسم من أقسام المدينة الجاهلية. أما المدينة الفاسقة فهي أرقى من المدينة الجاهلية،
وقد عرفها بقوله: (وهي التي آراؤها الآراء الفاضلة، وهي التي تعلم السعادة،
والله -عز وجل - والثواني، والعقل الفعال، وكل شيء سبيله أن يعرفه أهل
المدينة الفاضلة، ويعتقدونه، ولكن تكون أفعال أهل المدن الجاهلية، وجميع مباحث
الكتاب تجري على طريق الفلسفة اليونانية.
ولعل من اطلع أو يطلع على هذا الكتاب يتذكر أننا كنا عبرنا عن هذه
المدينة بالفاسقة، فقام بعض الذين لم يرتقوا عن أهل المدينة الجاهلية يسلقوننا بألسنة
حداد؛ زاعمين أن ذلك يتضمن الطعن بعِرض كل من يقيم في هذه المدينة (يقولون
بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) على أنهم هم الطاعنون ولكن لا يخجلون.
***
(مرور في أرض الهناء، ونبأ من عالم البقاء)
كتاب جديد الوضع والأسلوب والتخيل ألفه شكري أفندي الخوري اللبناني
المقيم في البرازيل. فأما أرض الهناء فهي المدينة الفاضلة أو الكاملة في رأي
فلاسفة هذا العصر وعلمائه، وهي سعادة الحياة التي يتمنون أن يصل إليها البشر
بالعلم والعمل والاتفاق والتواد بين جميع الناس، وبلوغهم العمر الطبيعي - مائة سنة
أو أكثر- مع التمتع بالصحة والعافية لما يتربون عليه من الرياضة البدنية والعقلية،
وتجنب الإفراط والتفريط في الأمور كلها، لا سيما السرف في الطعام والشراب.
مرَّ بهذه الأرض روح بشري فارق جسده، وذهب إلى الدار الآخرة؛ فكانت في
طريقه إليها وقد كتب إلى صديق له في الدنيا ينبئه بوصفها على ما خيله
مؤلف الكتاب.
وأما عالم البقاء فهو معروف، والمؤلف يصور فيه موقف الحساب والجزاء
يحضره ملك شرقي ظالم وأحد المتصرفين في جبل لبنان وراهب، وشيخ مسلم،
وبخيل، ولص، وكاهن (قسيس) ، وصحافي، وطبيب، وسكير، ومحام، يحاسب
كل منهم ويعاقب على ما أفسد في الأرض، تذكر ذنوبه وتشرح عيوبه، ويعتذر
ويتنصل، فلا يعذر ولا يقبل، وأما أسلوب الكتاب فهو فكه سلس يقرب من أسلوب
العوام ويتخلله كثير من عباراتهم وأمثالهم وتشبيهاتهم، ومن قرأ طائفة منه يندفع إلى
إتمامه بسائق الرغبة وحادي اللذة، وقلما ترى بين الكتب التي تؤلف وتنشر بيننا ما
جمع بين اللذة والفائدة لا سيما في شؤون المعيشة والاجتماع والسياسة. نعم، إن
الفكاهة لا تليق في مقام الرهبة والجبروت، وفي مواقف الحساب والجزاء، ولكن
غرض المؤلف من ذلك تمثيل سيئات هذه الأصناف من الناس التي تشتغل بالمصالح
العامة؛ فتفسدها وهم الملوك المستبدون وأعوانهم والأطباء، والصحافيون،
والمحامون، والقسوس، وغيرهم من رجال الدين وقرنهم باللصوص، والبخلاء.
وليس الغرض الأول تمثيل أهوال الحساب والجزاء، وإرهاب الناس منه بل هذا
وسيلة، وذاك هو المقصد.
ومما ينتقد عليه أن ما ذكره من حال الملائكة التي تذهب بالأرواح، والتي
تتولى الحساب والجزاء، لا يتفق مع عقائد الناس، أو تخيلاتهم فيهم ولا هو في
نفسه مؤثر يصادف من النفس موقعًا يليق به وأكثره لا فكاهة فيه إلا ما ذكره من
فتنة المحامي وتهييجه الشعب في ذلك العالم؛ لأجل أن ينجو من العقاب فلا يستطيع
أحد أن يملك ضحكه عند قراءة هذا.
وقد انتقد عليه زميلنا نعوم أفندي لبكي صاحب جريدة المناظر الحرة في مقدمة
وضعها له اكتفاءه بذكر الراهبات من الأجواق التي رآها صاعدة إلى السماء، حيث
تلقى أحسن الجزاء، ففي الناس من يستحق ذلك غيرهن وأنتقد عليه أنا بقوة زعمه
أن النصارى تتقرب من المسلمين في جرائدهم ومدارسهم، والمسلمون لا يزدادون إلا
تباعدًا، والصواب أن في عقلاء الفريقين من يسعى للتساهل والتقرب سعيهما، وإن
جرائد المسلمين أبعد عن إثارة التعادي من جرائد النصارى؛ فإننا لا نرى فيها
جريدة منتشرة تتعرض للنصارى فيما يختص بدينهم ورؤسائه، كما نرى في جرائد
النصارى بمصر من ذلك حتى إن بعض الجرائد اليومية كانت من عهد قريب تطعن
وتحامي عن العقائد الإسلامية في الأزهر وتُعرض ببعض كبار العلماء والأئمة،
وتحاول إشراب الأفهام أنهم يبثون في الأزهر الإلحاد ويفسدون الدين، ومثل هذا
كثير، فما كل الجرائد كالمناظر، وأما المدارس النصرانية فأكثرها أو جميعها تلزم
التلاميذ المسلمين بالعبادات النصرانية، ولا نعرف مدرسة إسلامية في الدنيا تعامل
التلاميذ النصارى بمثل هذه المعاملة.
ثم إنه ليس لمشايخ المسلمين من العناية بعامتهم وتلقينهم التعاليم والتقاليد
الدينية مثل ما للقسوس، وأكثر حديث المشايخ مع غيرهم في الأمور العادية ويا
ليتهم كانوا يعنون بنشر مسائل الدين؛ إذًا لقلّ التنافر، فإن رأي الإسلام في
النصرانية ليس كرأي النصرانية في الإسلام؛ الإسلام يثبت أن كتاب
النصرانية حق ويوجب الإيمان بمن جاء به، وإنما يثبت أن أهلها حرفوا وانحرفوا
عن صراطها وأن إيذاءهم حرام والبر إليهم مشروع.
والنصرانية تعد الإسلام كفرًا في أصوله وفروعه، وقد ألف القسوس في ذمه
كتبًا حشوها بأكاذيب لم تخطر على قلب مسلم في الأرض، ثم إنه لم يعقد أحد من
المشايخ مجالس وسمَّارًا لأجل الطعن في النصرانية، ولم يعينوا أحدًا منهم لدعوة
النصارى إلى الإسلام كما يفعل القسوس بالمسلمين، (فأي الفريقين هو المفرق بين
العالمين) .
لهذا أرى أن أقرب طريق إلى التأليف بين الفريقين نشر تعاليم الإسلام
الصحيحة في المسلمين، وإقلاع قسوس النصارى الذين لهم السلطان الأعلى على
قلوب عامتهم عن تنفيرها من المسلمين، وكفهم عن الطعن في الإسلام، ولا أبرئ
بعض المشايخ من كلام ضار يقولونه في المجالس عندما يذكر تعصب النصارى،
ولكن مثل هذا الكلام لا يكاد يجيء في درس ديني، ولا كتاب تعليمي. وقد أقنعت
من لا أحصي من المسلمين بأن التساهل والاتفاق على المصالح الدنيوية خير يأمر
به الدين فلم أجد مقاومة تذكر، ولا ردًّا يُؤثَر، وقد كتبت من قبل بأن الصواب في
التأليف أن يحمل الأحرار من كل طائفة على المتحمسين المفرقين منها وأما حمل كل
طائفة على الأخرى فهو الداء الذي لا يرجى معه شفاء.
***
(تهذيب الأخلاق)
يولد في كل أمة ألوف من الأولاد على استعداد عظيم للعلوم والفضائل، فيضيع
استعدادهم بإغفال تربيتهم وتعليمهم وفيهم من لو علم وربي لنهض بالأمة أو لكان
ركنًا من أركان ارتقائها. على أن إغفال تربية الأولاد وتعليمهم لا يكون من والديهم
بالعمد والاختيار، وإنما هو الجهل والعجز. وقد تهمل التربية الصحيحة والتعليم
النافع في الأمة حتى لا يوجد أحد يقوم بهما ويقيمهما على قواعدهما، وأمة مثل هذه
يلوح للناظر أنها قد تودّع منها حتى لا رجاء فيها. ولكن هذا النظر غير صحيح فقد
يقيِّض الله لبلد عَمّ فيه الجهل والفساد من يربي فيه بعض الأفراد. فيكون منهم
النور المستطير، والخير الكثير كما علمت من سيرة الأستاذ الإمام -رحمه الله
تعالى- وقد ينهض الاستعداد ببعض الناس إلى أن يربي واحدهم نفسه بعد
الرشد واستقلال الفكر ثم ينبري لتربية غيره ولا بد لمثل هذا من الاسترشاد بالكتب
النافعة. ومن هذا الصنف العالم الفيلسوف أحمد بن محمد بن مسكويه صاحب
كتاب (تهذيب الأخلاق) الذي هو أحسن المختصرات في هذا العالم
الجليل.
ولعت بهذا الكتاب منذ رأيته؛ فطالعته ثم قرأته درسًا. ثم علمت بعد الهجرة
إلى مصر أن الأستاذ الإمام قرأه درسًا كما ذكرت ذلك في ترجمته، وكان الكتاب
يومئذ مجهولاً عند المشتغلين بالعلم فعُرف، وميتًا فَاستَحيى، ويسرنا أن الناس أقبلوا
عليه في هذه السنين، فقد كان طبع طبعًا قبيحًا، ونفدت نسخه فأعاد طبعه عبد
العليم أفندي صالح منذ سنين بالحرف الإسلامبولي الجميل على ورق جيد، فأقبل
الناس بسعيه عليه حتى نفدت نسخه، ورأى من الإعانة على التربية أن يطبعه ثانية
ففعل، وله من الفضل في اتخاذ الوسائل لنشره ما يضاهي قيامه بإجادة طبعه،
فعسى أن يكون في هذه الكرة أسرع انتشارًا لنبشر بأن أمتنا تزداد حبًّا في العلم
النافع، وميلاً إلى التربية الصحيحة عامًا بعد عام. وثمن النسخة من الكتاب خمسة
عشر قرشًا، وأجرة البريد قرش صحيح ويطلب من طابعه ومن إدارة المنار بمصر.