للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المناقشة السادسة
من الشعب الأول من المقصد الثاني من كتابنا
الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية
قد علم من الشاهد الثامن والعشرين والتاسع والعشرين أن صاحب لباب
المعاني جهل الشيخ القادري بأنه لا يفرق بين السحر والكرامة ولا بين أهلهما،
وذلك لأنه قال: إن أكل الحيات ودخول النار من السحر - كما تقدم - وقال: إن قلب
الخارقة بدعة منكرة من الضلال أو الكفر.
أقول: قد نقل جماهير المؤرخين أن الطائفة الرفاعية فشا فيها بعد الشيخ أحمد
الكبير الرفاعي - رحمه الله تعالى - اللعب بالحيات وأكلها في الحياة، أي من غير
تذكية ولا طبخ، وتسلق النخل ونحوه من الأشجار، وإلقاء أنفسهم منها إلى الأرض،
وركوب الوحوش البرية، ومن الناقلين لذلك من أثبت القول على غره، ولم يتبعه
باستقباح ولا استحسان ولا تخطئة ولا تصويب، ومنهم من صرح بتخطئتهم وكون
أعمالهم هذه من البدع المنكرة في الدين كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية والحافظ ابن
كثير والحافظ الذهبي والفقيه المحدث العيني، نقل هذا الشيخ أبو الهدى أفندي أحد
مشاهير أرباب الطريقة الرفاعية في عصرنا في الصفحة الثانية عشرة بعد المائتين من
كتابه (قلادة الجواهر) وأطال المباحث فيه في عدة صفحات تلي الصفحة المذكورة،
صرح في بعضها بنصوصهم، ومن ذلك ما كتبه في صفحة ٢١٦ ونصه:
(وانظر قول الذهبي في تاريخه عند ذكر سيدي أحمد الكبير الرفاعي رضي الله تعالى
عنه: وكان المنتهى إليه في التواضع والقناعة ولين الكلام والذل والانكسار والإزراء
على نفسه وسلامة الباطن، ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم
وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق، من دخول النيران وركوب
السباع واللعب بالحيات، وهذا لا عرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه) اهـ بحروفه،
قلت: ثم آخذ الحافظ الذهبي بعد نقل عبارته هذه بأنه قصر في ترجمة الرفاعي حيث
لم يذكر كراماته التي منها دخول النار، إلى آخر ما ذكره الذهبي عن طالحي أتباعه
ونفاه عنه، وكذلك فعل غيره في صفحة ٢١٧: (إنهم تصدروا لقلب الكرامة إلى
البدعة وجعلوها من الأمور المنكرة لأجل الحسد - قال -: وقالوا عند ذكر كراماتهم:
ما عرفها الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فكيف لا يعرفها وهي كراماته الباهرة) .
قلت: وعلى هذا جرى في كتاب (لباب المعاني) على ادعاء أن تلك الأمور
كرامات، وأن المنكر عليها حوّل الكرامة إلى البدعة، ورتب على ذلك القول بجهل
الشيخ القادري مؤلف (الفتح المبين) والحكم بأن ذلك من الضلال والكفر،
فللشيخ القادري أسوة حسنة في أئمة دين الله عز وجل، وحفاظ أحاديث رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم، حيث طعن فيه هؤلاء الرفاعية بمثل ما طعنوا فيهم.
والحكم الصحيح في المسألة: أن بعض ما ينقل عنهم معصية قطعًا باتفاق أئمة
الإسلام، كأكل الحيات حية، وبعضها يحصل بالتعوّد والتمرّن لكل من حاوله
وزاوله، كإلقاء الرجل بنفسه من شاهق إلى الأرض وهو من الصناعات المستفادة
بالتجربة، وقد برع به الأوروبيون منذ نما عمرانهم واتسعت حضارتهم، ومبناه
على تحصيل ملكة حفظ الموازنة في كل حال من الأحوال التي يتقلبون بها في
ألعابهم، بحيث يتغلبون على سلطان الوهم المعارض لمن يحاول مثل تلك الأعمال
من غير تحصيل ملكتها، هذا ما يفهمه الفقير من التعليل على ذلك. والقائمون بهذه
الصناعة مشاهدون في كل قطر، وانما يكثرون حيث تكثر مواد الرفاهة باتساع
العمران، وكذلك اللعب بالحيات وأكلها يناط بالتعود كما هو ظاهر.
وأما دخول النار والدنو من السباع الضارية، فقد يكون كرامة وقد يكون حيلة
وشعوذة وغير ذلك. ومعلوم أن علماء الدين يشترطون لكون الخارقة كرامة أن
تصدر من ظاهر الصلاح، سالك سبيل التقوى، والرفاعية المشهور عنهم ذلك
ليسوا كذلك، كما هو مسطور في زبر الأولين والآخرين من العلماء، بل وفي كتب
هؤلاء الرفاعية المدعين لذلك، قال العلامة المدقق شهاب الدين السيد محمود
الآلوسي البغدادي في تفسيره (روح المعاني) ما نصه: (وما يشاهد من وقوع
دخول النار لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره من
الجهلة الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارًا، فقيل: إنه من باب السحر المختلَف
في كفر فاعله وقتله، فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار
والضرب بالسلاح، ولا يبعد أن تكون كفرًا، وإن كان معها ما لا كفر فيه) ثم نقل
من العبر مثل ما تقدم عن الذهبي، وذكر أنه شاهد منهم من دخل النار وجعل يشرب
الخمر فيها، وقد أطال العلامة ابن أمير حاج في بيان أن هذه الأمور الشيطانية لا
تكون كرامة، وليس فاعلوها بأهل للكرامة، ولا أرى الشيخ القادري إلا ناقلاً عن
هؤلاء الأجلة والبحريني نسب له ذلك توسلاً وتوصلاً للنيل من دينه وعرضه، وإن
نقل عند أجوبته عن هذه الأمور صورة استفتاء يقول فيه السائل ما ملخصه: (ما
القول في جماعة يدخلون النار ويأكلون الحيات ويشربون السم ويفعلون أمثال ذلك من
الأشياء المبتدعة الخارقة للعادة التي لم يتفق وقوعها في الصدر الأول، والكثير منهم
على غير الطريق المستقيم؟ اهـ) ومضمون هذا مسلم عندهم، وقد أجابوا عن ذلك
بما لا يخلو عن نظر، بل هو فاسد على الغالب، وسيأتي بسط هذا المقام بتحرير
الإيرادات والأجوبة، وتمييز الحق من الباطل، ونقول العلماء في ذلك في المقصد
الخامس إن شاء الله تعالى، وقد اشترط الشيخ أبو الهدى أفندي في صفحة ٣٩ من
كتابه (هداية الساعي) المرخصة في عمل هذه الأشياء (اللعب بالنار والدبوس
والحيات وأكلها) : (أن يكون لإزالة إنكار كافر على الدين بشرط أن يؤمن بعد ذلك،
قال: وإلا فلا رخصة في عمل شيء منها قطعًا، وإن من اشتغل بها آثم، واقع في
الحرام، عاصٍ للشرع) اهـ. وسيأتي البحث في هذه الجملة وفيما ينافيها من كتب
قائلها الأخيرة.