للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ملخص سيرة الأستاذ الإمام
(٤)
(نموذج من كتبه وترسله)
كتب من بيروت سنة ١٣٠٢هـ إلى صديق عالم في بعض البلاد، وفيه من
الحث على إحياء دين الله، والاهتداء بكتاب الله، ما لا تجد مثله في كلام، إلا أن
يكون لمثل علي،عليه السلام. قال رضي الله عنه:
السلام عليكم، تحية أخ يهزه التشوق إليكم، وبعد، فقد تلقيت اليوم كتابك
وتشممت منه الحمية والنعرة الدينية وأرجو أن تصل بك بدايتك إلى ما يختار الله
لك من حسن النهاية، ولم يكن ظني في همتك، دون ما تبينت في عبارتك، فليكن
سرورك بنفسك، على قدر شفقتك على دينك، وحركة ميلك للأخذ بيده، وتقويم
أوده، فإنما هو الدين المتين الذي أطلق العقل من قيده، وأخذ على الوهم في كيده،
وهز النفوس إلى نيل الفضائل، ونكب بها عن مشايعة الرذائل، حتى ساد به
الضعفاء، وذلت لسلطانه الأقوياء، وسبق وعد الله بأن يظهره على الدين كله،
والله منجز وعده لأهله، وإنما خلقنا الله، وكلفنا صرف همومنا إليه، وتعويلنا في
شؤوننا عليه، وليس لنا من الحق في أنفسنا وأموالنا، إلا ما نبذله في تأييد ديننا،
ولا حاجة لله فيمن لم يكن له من نفسه وماله نصيب.
داوم قراءة القرآن، وتفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان يتلى
على المؤمنين والكافرين أيام الوحي وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ
مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك مُتَّصَلُه، ثم
اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يُحمل عليه، وضم إلى
ذلك مطالعة السيرة النبوية واقفًا عند الصحيح المعقول، حاجزًا عينيك عن الضعيف
والمبذول [*] ، واعتبر بما قاسى النبي وأصحابه من الجهد والعناء لنصر دين الله،
وما ركبوا من المتاعب، وما احتملوا من المصاعب، على ما تعلم من درجة قربهم
إلى الله وغفرانه لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، واجعل عيشك للآخرة واستعد لما
وعد؛ فإن سعادة أبدية لا تنال إلا بسيرة محمدية، ولن تنال بنوم موسد، على
فراش ممهد، واعلم أنك محاسب على الدقيقة من أوقاتك، لإعزاز دينك كانت لك
وإلا كانت عليك، وأرجو أن يكون كل سعيك خيرًا يجعله الله نورًا يسعى بين يديك
إن شاء الله.
أما ما ذكرت من مسألة الشيخ ... فبودي لو توجه إلى الله كل مسلم،
واعتصم بحبله كل مؤمن، فما بالك بشيخ من جمال الوصف على ما ذكرت ومن علوّ
المنزلة على ما بينت، فإن تيسر لك السبيل، فتقدم لدعوته (أي إلى الاعتصام)
وادخل إليه ابتداء من طريق لا يعرفه وتلطف له في القول، وإن شئت أطلعته على
شيء من مقالات العروة الوثقى، فإذا انتهيت به إلى ما يعرف وآنست منه الميل
والرضاء فإما أن يكتب إليّ، وإما أن يستعد لتلقي كتاب مني ثم سراع إليّ بالخبر
... إلخ.
وكتب منها إلى عالم كبير في بعض البلاد في ٧ جمادى الأولى في سنة
١٣٠٢هـ:
(أشد ما أجد من فراقك، حرماني من محاضرة آدابك، والاقتباس من نوادر
فضلك، وتعرّف الصواب من صائب رأيك، وإنما يخفف ألم البعد عنك أن أكون
بمكان من فكرك، وأصيب حظًّا من مراسلتك، وجدير بكرمك أن تصل واصلاً،
وتجيب سائلاً، وسلامي عليك وعلى أنجالك الصالحين، والله ينفع المسلمين بسعيك
وخالص نيتك والسلام) اهـ.
فانظر كيف كان إحياء الدين وهمّ المسلمين والسعي في إصلاحهم مما يدخل في
كل أقواله، كما كان مسيرًا له في جميع أحواله، فهل تزن بمثله من ليس لهم حظ
من الدين، إلا الأكل به من السوقة والفلاحين، لا يهمهم إلا التحلق حول الموائد،
والتطواف لجمع النذور (والعوايد) .
قوة عقله وسعة علمه
يصف الناس كل نابغ بالذكاء الفطري ويعنون به سرعة الفهم وسهولة الحفظ
ولذلك كنت تجد الناس مجمعين على وصف الأستاذ الإمام بالذكاء النادر، لا يختلف
في هذا منصف ولا مكابر، أما هو فكان يقول عن نفسه إنه متوسط في الذكاء وإنه
يوجد في كل مئة رجل ٧٥ رجلاً مثله في ذهنه، وعلى هذا كان يجب أن يكون
ثلاثة أرباع الناس أو طلاب العلم منهم خاصة مثله ولكن الناس لم يروا في الملايين
الكثيرة مثله وإنك لتسمع كثيرًا من أهل الفضل يقولون: (إن الدنيا إنما تلد مثل هذا
الرجل في كل عدة قرون مرة) وقالوا بعد موته: (إن الفراغ الذي حدث بفقده لا
يملأه أحد في هذا العصر) وقد راجعناه في قوله إن ثلاثة أرباع الناس يساوونه في
ذهنه، وقلنا له: كيف تحصل في الزمن القصير من العلم ما لا يحصلونه في الزمن
الطويل، فقال: (إن الفرق بين الناس في هذا لا يأتي من الاختلاف في الذهن فقط،
وإنما يأتي معظمه من الاختلاف في توجيه الإرادة إلى الشيء ومعرفة طريقه
وغايته قبل طلبه) وهذه حقيقة لا مرية فيها ولكنها لم تذهب بامترائنا في أن قوله
ذلك من المبالغة بمكان وإن كان قاله اعتقادًا لا تواضعًا وهضمًا لنفسه، على أننا
نعرف من أصحاب الذكاء المدهش من كان ذكاؤهم وبالاً عليهم خاصة، أو عليهم
وعلى كثير من الناس الذين يعرفون. فالعبرة بما قال وهو أن إدراك المقاصد إنما
يكون بصحة توجيه الإرادة إليها وطلبها من طرقها الطبيعية.
بلغ هذا الرجل من قوة العقل أن عجزت الأمراض الشديدة عن منعه المطالعة
فكان يقرأ في أيام مرضه أكثر مما يقرأ في صحته التي تشغله فيها الأعمال، أتظن
أنه كان يقرأ كتب القصص والفكاهات؟ كلا، إنما كان يقرأ العلوم العقلية والفلسفة
وكتب التربية والتاريخ، وقد رابه من مرضه الأخير ملله فيه من المطالعة، وقال:
إنه لم يعهد ذلك في مرض قط، فقلت له هكذا شأن أمراض المعدة على أن كثرة
الأعمال العقلية هي السبب الفعال في مرضك هذا - كما يقول الأطباء - ولم يكن
المرض يومئذ قد اشتدت وطأته.
وقد أصيب بحُمى التيفوس مرة في بيروت فبلغت نهاية شدتها وأعلى حرارتها
ولم يغب عقله ولم يهذ لسانه، حتى قال الطبيب الذي كان يعالجه: إنني لم أر مثل
دماغ هذا الرجل، ولو حدثت عن مثل ما رأيت منه لما صدقت. وكذلك قال بعض
الأطباء الذين زاروه قبل موته بأيام قليلة، فقد دب التسمم في جسمه وعقله حاضر
وذاكرته تملي على لسانه الأجوبة السديدة في وصف مرضه لمن يسأل عنه، وقد
اتفقنا نحن الذين كنا نلازمه على أن لا نحدثه في الجد ولا مسائل العلم والاجتماع
وأن نمنع عائديه من الحديث في ذلك لا سيما بعد اشتداد المرض عليه ولكنه كان
ينتقل بنا من الفكاهة إلى الجد فإذا ساقت شجون الحديث مسألة عويصة أو عبارة
احتجب معناها، أسرع ذهنه إلى كشف الحجاب عن الخفايا فجلاها، ونفث في عقدة
العويص من عراها، أذن لنا بذكر الشعر والأدب في يوم تواترت فيه نوبات الألم
فكان مما أنشده حافظ إبراهيم من مختار محفوظه قول بشار:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
وقال: إنني أنشد هذا البيت منذ سنين وأنا لم أفهمه وسألت عنه غير واحد
من الأدباء، فلم يأت أحد بتفسير ترتاح إليه النفس فلم يلبث الإمام أن قال - والألم
ينال من كبده ما ينال -: إن معناه ظاهر فإنه يريد أنهم إذا غضبوا سلُّوا سيوفهم
وأشرعوا رماحهم فكان بريقها ولمعانها هتكًا لحجاب الشمس إلى أن يمكنوها من
طلي أعدائهم وصدروهم فتخرج وهي تقطر دماء وتسيل مهجًا، هنالك يخفى ذلك
البريق واللمعان بستر الدم له ورينه عليه، فالضمير في قوله (قطرت دمًا) عائد إلى
السيوف أو الرماح، وإن لم تذكر بالقول، فهي معلومة بالقرينة، أي على حد قوله
تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: ٢) على التفسير المشهور.
ناهيك بمن كان يقتل عامة نهاره وزلفًا من ليله يحل المشكلات وإمضاء
الأعمال في معاهد كثيرة ولا يشكو تعبًا، ولا يخاف مللاً، كان يصبح فيغدو إلى
مجلس الشورى مثلاً فيجلي المسائل الموضوعة للبحث سواء كانت قضائية، أو
إدارية أو مالية، ويؤلف بينها وبين مصلحة البلاد ويؤيدها بالحجج القانونية والعقلية
التي تقنع الحكومة بعد اقتناع الأعضاء، ثم يخرج من هذا المجلس فيأكل طعام
الغداء ويذهب إلى الأزهر فإن كان اليوم يوم جلسة الإدارة جلسها وعمل فيها عمله،
ثم ينتقل إلى مكتب الإفتاء حيث كان ينتظره أصحاب الحاجات المختلفة في جميع
مصالح الحكومة وغيرها والمستفتون والزائرون وكتاب الجمعية الخيرية
والأزهريون من علماء ومجاورين فينظر في هذه الأمور إلى ما بعد العصر ثم
يخرج إلى ديوان الأوقاف إن كان اليوم يوم جلسة المجلس الأعلى أو مجلس إدارة
الجمعية الخيرية إن كان اليوم يوم جلسته، ثم يعود عند الغروب إلى الأزهر فيقرأ
الدرس فيخرج بعد العشاء قاصدًا داره فيجد العفاة وأصحاب الحاجات ينتظرونه في
المحطة وفي البيت يعرضون عليه حاجاتهم، وبعد هذا كله لم تكن تخلو داره ليلة
من السامرين، يتكلمون في العلم والأدب والمصالح العامة والخاصة، ولا تنس أن
الأيام التي لم تكن موعدًا لجلسة في تلك المجالس الرسمية هي التي تقرأ فيه أوراق
تلك المجالس، ولكنه كان على ذلك العقل الكبير والعرفان الغزير كثير النسيان
للأمور الجزئية لا سيما أسماء الأعلام حتى إنه نسي اسم نفسه، مرة ذهب لزيارة
صديق له فلم يجده فسأله البواب عن اسمه ليخبر مخدومه به فتوقف الأستاذ في
الجواب ذهولاً عن اسمه فقال الخادم أقول الشيخ (محمد عبده) ؟ قال: نعم، فأنت
أعرف باسمي مني.
أتقن جميع العلوم الإسلامية وضرب بسهم في العلوم والفنون العصرية قبل تعلم
اللغة الفرنسية وقد أتقن هذه اللغة في سن الكهولة وتوسع بها في العلوم على
طريقة الإفرنج، وكان يُعنى بالعلم على قدر الحاجة إليه في العلم والإصلاح، فأما
علوم اللغة العربية فقد بلغ منها أن كان أدق الناس فهمًا للقرآن ولغيره من فصيح
الكلام، وأبلغ الكتاب بلا منازع، وأخطب الخطباء بلا مدافع، وأما العلوم العقلية
فقد ارتقى فيها إلى أن كان فيلسوفًا حكيمًا، اعترف له بذلك من يعتد بمعرفتهم،
ونذكر هنا تفسيره لكلمة فيلسوف: حدثنا في طرابلس الشام قال: كنا في مجلس
بعض الوجهاء بمصر، وكان في المجلس بعض أهل العلم وحملة الأقلام من
السوريين، فقال ما معناه: إن الناس قد ابتذلوا لقب فيلسوف فصاروا يطلقونه على
غير أهله، وكان أطلق هذا اللقب في جريدة على بعض الحاضرين فجرى ههنا كلام
في معنى كلمة فيلسوف، قيل: الفيلسوف هو الذي يتقن جميع العلوم، قال الأستاذ:
إذًا لم يوجد فيلسوف في الأرض، قيل: هو الذي أتقن بعض الفنون وله إلمام
بسائرها قال: إن جميع الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون على إلمام بجميع العلوم العصرية ويتقنون بعضها، فما أكثر الفلاسفة المهندسين
والأطباء وفي التلامذة أيضًا، ثم قال بعد كل ما قال: الفيلسوف: هو الذي له رأي
ومذهب في العقليات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه.
وأما العلوم الشرعية فقد كان فيها إمامًا مجتهدًا، وإن كبرت هذه الكلمة عند
الذين سجلوا على أنفسهم الحرمان من فضل الله على المتأخرين وإيتائهم من العلم
والفهم ما آتاه المتقدمين، وناهيك بفهمه في القرآن ووقوفه على أصول الشريعة
وحكمها وأسرارها وقوة حجته في إثبات عقائدها ودفع الشبهات عنها وتطبيق
أحكامها على مصالح البشر، ولست أعني بكونه إمامًا مجتهدًا في الشريعة أنه
صاحب مذهب دوَّنه أو كان يريد أن يدونه، وإنما أعني ما ذكرت آنفًا من فهمه الدين
أصوله وفروعه بالدلائل والبراهين والفقه فيه والوقوف على حكمه والقدرة على
بيانه بدون تقليد عالم معين من العلماء السابقين والأئمة المهديين الذين اتبع آثارهم
واهتدى بهديهم، وكان يرى أن من يضع للناس مذهبًا جديدًا فإنما يزيدهم عمى
وجهلاً وتفرقًا واختلافًا.
أخلاقه وشمائله
الأعمال ثمرات الأخلاق فما ذكرناه من أعمال الرجل تمثل بعض أخلاقه لأنها
بعض آثارها وأن وراء ذلك من أحاسن الخلال، وآيات الكمال، ما تقتصر عن
تمثيله جلائل تلك الأعمال، ولقد كملت للأستاذ الإمام أصول الفضائل الأربع، وما
نشأ عنها وتفرع، وإننا نشرح بعض أخلاقه لتكون قدوة للمقتدين.
طبع الله هذا الرجل على عزة النفس وعلوّ الهمة من أول نشأته وقد أدركه
السيد جمال الدين الذي درج في حجر السيادة وترعرع في بيت الإمارة وهو مجاور
في الأزهر منقطع إلى التصوف يلبس قميصًا يبدو من أعلى جيبه صدره الأشعر وقد
أرسل جمة كجمة الدراويش فراعه من صاحب هذا التقشف ما عنده من العزة والإباء
وحفظ الكرامة، ورقة شعور الشرف وأكبر أن يكون هذا أثر التربية والتخلق في
بلاد ساسها الظلم وتحكم فيها الجور المذل للنفوس، وكأنه سبق إلى نفسه أن هذا
أثر وراثة لأحد آبائه الأولين، وأنهم لا بد أن يكونوا من الملوك والحاكمين، فقال له
مرة: (قلي بالله: أي أبناء الملوك أنت؟) وهذا الخلق هو ركن الفضائل الركين،
وناهيك بقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) ،
وهو الباعث على تلك الأعمال، والحامل على الاستهانة بما بين يديها من الأهوال،
وقد يشتبه على كثير من الناس هذا الخلق الكريم، بخلق الكبر الذميم، ولذلك كان
بعض الحاسدين والجاهلين ينبز الأستاذ الإمام بهذا اللقب لا سيما عندما كانوا يرونه
مترفعًا عن الدهان والتملق للكبراء، معرضًا عمن يعارضه في مقاصده، وإن كان
من العظماء، ولو عاشروه ناظرين بعين الإنصاف لرأوا حقيقة التواضع مع الرفعة،
كيف تكون لرأوا كيف كان ذلك الرجل العظيم يخدم الفقير والمسكين، ويتجافى
جنبه عن مضحعه لأجل العفاة والمستفيدين، ومن دقائق ملاحظته في التواضع أنه
كان يتحامى صيغة الطلب الجازم في مخاطبة أصدقائه ومحبيه، بل وتلامذته
ومريديه، فيستبدل بالأمر الاستفهام والتخيير ويوسع للمخاطب العذر قبل أن يحتاج
إلى الاعتذار، ثم إذا أخلف معه يتناسى فلا يقابله بلوم ولا عتب. أذكر من لطائفه
في هذا الباب قوله لي مرة: (إنني أكون غدًا في مكان كذا بعد الظهر، فإن ذكرت
ذلك ووجدت فراغًا وأحببت أن تجيء فعلت) ذكر كل هذه القيود، وأنا أعلم أنه
يريد أن أوافيه حتمًا، ولولا ذلك لذكر لي أنه يكون في ذلك المكان ولم يزد كعادته معي
إذ كان يخبرني بمواقيته.
وقد عُرف رحمه الله تعالى بسلامة الصدر وصفاء القلب والحلم والصفح، فما
انتقم من مسيء ولا سعى في ضرر أحد قط بل كان يحسن إلى من أساء إليه: إذا
استنجده أنجده، وإذا استرفده أرفده، وإن عاد إلى الإساءة سبعين مرة، وكان أهل
الخبث والمنكر من حاسديه يظنون أنهم يخدعونه بدهائهم ودهانهم ولكن فراسته
كانت تخترق صدورهم، وتنفذ إلى سواد قلوبهم، ويقرأ في صحائف وجوههم
الأولى، ما رسم على صحائف وجوههم الأخرى، وإنما يقبل منهم ما أظهروا،
ويتغابى عما أضمروا، عملاً بما ورد في الخبر: (اصنع المعروف مع أهله ومع
غير أهله فإن أصبت أهله فقد أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله)
وكان يعجبه قول أفلاطون: (استصلاح العدو أحزم من استهلاكه) .
نعم كان يغلب عليه حسن الظن وبذلك رفع أناسًا إلى مراتب لم يكونوا أهلاً لها
والناس يعدون ذلك عليه ويغفلون عن عذره فيه، وهو أن من رفعهم ورقاهم كان لا
بد للأعمال التي رقاهم إليها من عاملين فحسن الظن ببعض من يمكن أن يعهد إليه
العمل وناطه بهم، فمنهم من ظهر بالاختبار أنَّ ظنَّ الخير فيه صادق فكان صالحًا
للخدمة شاكرًا للصنيعة ومنهم من ظهر بعد التجربة لؤمه، وتبين فساده وشؤمه، فلم
يصلح عملاً، ولم يشكر محسنًا، ومن هذا الفريق من أساء إلى من أحسن إليه،
وكفر حقوق المنعم عليه، ومنهم من أظهر الوفاء في وقت الرخاء، وأظهر حقده
وضغنه، عند الضراء والمحنة، وليت شعري ما حيلة الرجل الذي جبلت طينته
على الإحسان وتوجهت همته إلى الخدمة العامة، وقد نشأ في قوم فشا فيهم فساد
الأخلاق، وقل فيهم الوفاء والإخلاص، أيمكن أن يقال له لا تُسْدِ إلى أحد معروفًا،
ولا تسع إلى أحد بخير، إلا بعد أن تجربه عدة سنين، فتعلم أنه من المصلحين
والشاكرين؟ كيف وإنما يجرب الرجل بما يعهد إليه من الأعمال، وما يعامل به من
البر والإحسان.
على أنني لا أنكر أنه كان لسلامة قلبه يفيض أمام بعض من يعتقد إخلاصهم
بما لا تسع عقولهم، ويفضي إلى بعضهم بما تضيق عنه صدورهم، وأنه كان
لمبالغته في الحلم يعفو عمن لا تعفو المصلحة العامة عنه، ويصفح عمن يقضي
الإصلاح بالانتقام منه، وقد كان يكون هذا العفو والصفح مما يخفى على من عفا
وصفح عنهم، كما كان يُخفي الانتقام لو أنه انتقم منهم، ولعله لولا هذا الخلق لكان
نجاحه أسرع وأتم، وإصلاحه أشمل وأعم.
وكان من الكمال في الوفاء لأصدقائه، والغيرة على أحبائه، بحيث يهتم
بشأنهم في السر والجهر والبعد والقرب والغيب والشهود بمثل ما يهتم آباؤهم
وأبناؤهم أو أشد، وكثيرًا ما نراه يسعى في دفع الشر عنهم وفي سوق الخير إليهم بأشد
مما كانوا يسعون لأنفسهم، وما من صديق ولا محب له إلا وكان آمنًا من انحرافه
عنه، بل من توانيه في الانتصار له، تأثرًا بقول واشٍ محتال، أو رهبته من كيد
قوي ذي مِحال، أو طمعًا في جاه أو مال، وقد كان في وفائه هذا خير قدوة
لمعاشريه والمتصلين به يربي نفوسهم بأخلاقه وسيرته، كما يربي عقولهم بعلمه
وحكمته، فمريدوه ومحبوه أشد الناس وفاء لمن يحبون، وأعظمهم إخلاصًا لمن
يصطفون.
وقد كان على ما علمت من صفحه عن الأعداء، وكمال الوفاء للأحباء،
والإحسان لأولئك وهؤلاء - لا يخاف في طريقه إلى الإصلاح عدوًّا مبينًا، ولا يعتمد
فيه على الصديق وإن كان ناصحًا أمينًا، وإنما كان مستقلاًّ برأيه مع الاستشارة، مستقلاًّ
بإرادته مع الاستعانة، واثقًا بأن الله يؤيده ويسخر له الناس لإخلاصه لله وللناس،
يستخدم في سعيه كل من استطاع استخدامه من موافق ومخالف ووطني وأجنبي
ولكنه لا يعتمد في قلبه على أحد من الناس، ولا يغتر بأحد منهم، كان في الناس
من يظن بأن السبب في شجاعته وقوة عزيمته في عمله ونفوذه عند الحكومة وإدلاله
عليها هو اعتماده على حزبه الكبير الذي يضم جماهير العقلاء والفضلاء والكتاب
والأدباء، وفيهم من يظن أن جراءته ومضاءه وإقدامه من ثقته بتأييد الحكومة له
والقوة المحتلة من وراء الحكومة، أما هو فكان يعتقد أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم، وما وهبه من العزيمة والإخلاص وقد كلمته مرة في هذا فأقسم بالله
أنه يشعر بأنه في هذا الوجود كالعريان الذي ليس له فيه شيء وأنه لا يعتمد على
شيء إلا الله وهو المسخر لمن يشاء.
وكان رضي الله عنه معتصمًا بحبل الصدق، متحريًا ما يعتقد أنه حق، وإذا
تذكرت أن علة العلل لفشو الكذب في الناس هي شدة ظلم الحكام، واستبداد ذوي
السلطان، وأن أكذب الناس أكثرهم قربًا من الظالمين، ومعاملة للحكام المستبدين،
علمت أن ملكة صدق اللسان، لا تتربى إلا في حجر شجاعة القلب وجرأة الجنان،
ولولا شجاعته لما نادى بمقاومة الاستبداد - كما قال - في عنفوانه، والظلم قابض
على صولجانه، ولما حافظ على رأيه واعتقاده وإن خالف العلماء والحكام، وخالف
الجماهير المعبر رأيهم بالرأي العام.
هذان الخلقان - الصدق والشجاعة - هما شرطان للقدرة على الإصلاح
فالكذوب والجبان عدوان لله لا يصلحان لشيء من الخير ولا يصلح بهما شيء، وإنَّ
التزام الصدق في أمة فشا فيها الكذب، واعتادت على الدهان والملق من أشق الأمور
على النفوس، وأبعدها عن طاعة التهذيب، لما له من الأثر في إحفاظ القلوب،
والتأثير في إثارة البغضاء، وتكثير سواد الأعداء، وتنفير المحبين والأصدقاء،
فكيف يتكلفه المتكلف مع هذه المنفرات عنه، والمرغبات في ضده، ثم كيف يكون
ملكة نفسية، لا تكلف فيه ولا روية، ولا تحسبن الأمر سهلاً فإن الظهور بمخالفة
أهواء العامة مما يجبن أمامه الملوك القاهرون، وينكمش دونه العلماء العاملون،
ولهذا يدهن الرؤساء للمرءوسين، ويدهن المرءوسون للأمراء والسلاطين، فالصدق
فيما لا يرضي العامة أشد من الصدق فيما لا يرضي الخاصة، فما بالك بالصادق
فيما قد يُغضب الفريقين، والصابر على الطعن من الجانبين، أليس هو في مرتبة
الصديقين التي تلي مرتبة النبيين والمرسلين.
رأيت الأستاذ الإمام في النوم بعد موته بأيام فقال لي: إن الله تعالى أعطاني
مقام الصدق أو قال: إنني في مقام الصدق - فتذكرت كلام الشيخ محيي الدين ابن عربي
في مقام الصدق وحال الصدق، ومنه أن صاحب حال الصدق يكون كثير الظهور
بالولاية والكرامة كثير الدعوى بحق وصاحب مقام الصدق أعلى وأكمل، ويكون في
الولاية مجهولاً لا يعرف، ونكرة لا تتعرف، وتذكرت جهل الناس بمقام الأستاذ
الإمام في الولاية والعرفان، احتجابًا بمظهره الدنيوي ومعارفه الكونية، عن مرتبته
الروحية ومعارفه اللدنية، واستيقظت وعلى لساني قوله تعالى: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي
جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: ٥٤-٥٥) .
إن ما ذكرناه من الشجاعة في التزام الصدق، والمجاهرة بنصرة الحق، هو
ما يعبر عنه كتاب العصر بالشجاعة الأدبية وأنت لا تجهل أن من لا يهاب في الحق
وثبات الحكام، ولا يخاف طعن الخواص والعوام، فهو جدير بأن لا يخيفه الحسام،
ولا ترهبه السهام. كاشفني - رحمه الله - مرة بكتاب جاءه بغير توقيع يهدده مرسله
فيه بالقتل إذا هو ظل مسترسلاً في عمل نسب إليه ورأيته غير مبالٍ به ولا مكترث،
فقلت له: إن لك أعداء لا يخافون الله وإنك تجيء دارك في الليل وهي في الخلاء
بعيدة عن العمران فهل نظرت في ذلك؟ فقال: أوتخاف علي من مثل هذا الكاتب
المهدد؟ إنني لم أهنئ نفسي إلى الآن بأنه وجد في وطني من تجرأ علي بكلمة
(أخطأت) وسألته مرة: ماذا تصنع إذا هجم عليك لص في الليل، أتطلق عليه
الرصاص من هذا المسدّس؟ وأشرت إلى مسدس معلق بسرير نومه، فقال: لا يجوز إطلاق الرصاص في البيت فإنه يزعج النساء والعيال، وليس عندي للص إلا
القبض عليه والأخذ بقوف رقبته، وكذلك يفعل.
ومن خلائقه الإنصاف في الرأي والعلم كالإنصاف في الحكم، والبعد عن
المكابرة في المذاكرة والمناظرة، فلم يكن يزدهيه الغرور والإعجاب بسعة العلم
وكثرة الصواب، ولا كان يصده الارتقاء عن مرتبة للحق إذا ظهر له، يحترم فهم
غيره ورأيه، وهذا الخلق عزيز في العلماء، لا سيما ذوي الشهرة والجاه، ومن
طلب آية على هذا فليرجع إلى ما كتبه الإمام الغزالي عنهم في بيان آفات المناظرة
من كتاب العلم في الإحياء، فإذا علم بما كان يجري والعلم حي والأمة عزيزة -
ومن لوازم ذلك الإنصاف - فما ظنه بهذا الخلق في خلف لم يبق لهم من عزة سلفهم
إلا الفخر بها، ولا من علمهم إلا الحكاية عمن قلدهم فيه.
من آيات إنصاف أستاذنا ورجوعه إلى الحق مما هو مدون في المنار. لم ينسَ
القراء ما نشرناه له في تفسير: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} (الضحى: ١٠) إذ
اختار قول بعض المفسرين أن المراد بالسائل من يسأل عن العلم ويطلب التفقه في
الدين وذكر فيما كتبه في تفسير (جزء عم) أن لفظ (السائل) لم يرد في كتاب الله
عنوانًا للفقير أو المسكين - فظن بعض من قرأ ذلك أن قوله يفيد أن لفظ السائل لم يرد
في القرآن بمعنى طالب المال، فذكَّره رجل من عُمَد البلاد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: ٢٤-٢٥) فحسب أنه
أخطأ فيما كتب فأرسل إلي ورقة صغيرة يصرح فيها بتخطئة نفسه وكلفني طبع
عشرة آلاف نسخة منها بعدد ما طبع من كتاب تفسير جزء عم لتلصق بنسخ التفسير
وأمر الجمعية الخيرية بأن تمسك عن بيع الكتاب حتى تطبع الأوراق وتلصق
فرجعت إلى الجزء فرأيت عبارته صحيحة إلا أنها مبهمة ليس كالمعهود في بيانه
فراجعته في ذلك، ولم أطبع الورقة فعاد إلى التأمل في العبارة ورجع إلى مسودات
تفسير الجزء فتذكر أنه ما كتب تلك العبارة في السائل إلا وهو ذاكر لما توهموا أنه
ينافيها من قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات:١٩) ،
وقوله تعالى {وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة: ١٧٧) ثم كتب ما كتب في
إيضاح العبارة واعترف بما فيها من الإبهام واستغفر الله من العود إلى مثله وقد نشرنا
ذلك في ص ٨١٥ من المجلد السابع من المنار فليرجع إليه من شاء.
وكان هذا الأوَّاب الرجاع إلى الحق جبلاً راسخًا في الثبات والاستقامة لا يرجع
عما شرع فيه، فكيف يطمع في رجوعه عما طبع عليه؛ لأنه كان لا يقدم على العمل
إلا بعد الرّوية والتدبر والبصيرة والتثبت، وقد كان السيد جمال الدين يقول فيه: هو
كالفلك لا يتغير، قال هذا بعد ما غاب غيبته في بلاد المشرق ثم عاد إلى أوربا
ورأى فيه جماعة ممن كان يعرف قد تغيروا عما كان يعهد إلا الشيخ محمد عبده فإنه
لقيه كما تركه.
ولا حاجة إلى الكلام في جوده وسخائه فإنه صار فيه على اكتتامه الصدقة
وإخفائه البذل أشهر من علم، وعرف الناس كثيرًا من البائسين والعجزة الذين كان
يعولهم ويوصيهم بالكتمان، ولم يكن في أيام السراء أبسط يدًا منه في أيام الضراء،
لقيه صاحب في بيروت فقال له: إن والدي قد توفي، وليس لدي ما أنفقه في
تشييعه فأعطاه كل ما كان يملكه من النقد وهو راتبه الشهري من المدرسة السلطانية
كان قد قبضه ولم ينفق منه شيئًا ولكن الله أخلف عليه بما لم يكن يحتسب فقد كان له
دَين عند رجل في مصر يلويه ويمطله به أيام كان يتقاضاه، وهو يراه فيستحي منه
ويخشاه، فما مر يوم على بذل جميع ما في يده وإيثار صديقه على عياله حتى آذنه
مصرف (بنك) بيروت بأن حوالة برقية جاءت باسمه من مصر وإذا هي دَينه على
ذلك الرجل {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} (الطلاق: ٢-٣) وكان إذا وفر شيئًا من النفقة صرفه في سبل البر، كان يدخن
اللفائف المعروفة بالزنوبية والنارجيلة (الشيشة) ثم ترك التدخين بالمرة وجعل ما
كان ينفقه فيه صدقة ولولا بعض أصدقائه لما امتلك من طين هذه الأرض شيئًا ولا
حاجة إلى بيان ذلك هنا. ... ... ...
لعلي لا أحتاج إلى التنويه بغيرته على ملته وأمته، فإن بذل حياته كلها في
السعي بتربية الأمة على آداب الملة لم يكن إلا أثر من آثار هذه الغيرة، فالدليل
وجودي عملي عرفه القريب والبعيد واعترف به العدوّ والصديق ولكني أذكر في هذا
الباب شيئًا لا يعرف نظيره إلا بعض أصفيائه الذين لم يغب عنهم شيء من أحواله:
جئته مرة في رمضان سنة ١٣١٥هـ، بعد الظهر على موعد فقيل إنه نائم،
ولم يكن ينام في مثل هذا الوقت، بل كان ينام طائفة من الليل ثم يقوم في السحر
ويلبث بعد السحور إلى أن يصلي الصبح ثم ينام حتى ترتفع الشمس فمكثت ريثما
استيقظ، فسألته ما أنامه، قال ما معناه: أرّقني الليلة الفكر في حال المسلمين،
وما ينزل بهم من البلاء ببعدهم عن دينهم واتباع أهوائهم وشهواتهم، وقوي سلطان
الفكر فهاج المجموع العصبي ونبهه تنبيهًا شديدًا حتى حدثتني نفسي بأن أنزل إلى
حيث يكثر اجتماع الناس كالموسكي والأزبكية فأقف في الطريق وأنادي: أيها الناس
ماذا رأيتم في دينكم من القبيح حتى تركتموه، وماذا رأيتم فيما اخترتم بديلاً منه حتى
تقلدتموه، ثم أخطبهم في حقيقة ما هم فيه، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه، وأبيّن لهم
طريق النجاة منه، وقد عالجت النوم فلم أملك منه شيئًا فلجأت إلى الكتابة وما كنت
لأكتب في الليل فجرى القلب بفصل جعلته آخر فصول رسالة التوحيد فثابَت إلى ذلك
نفسي وران النوم على عيني، ولكن الليل قد آذن بالرحيل فلم أنل منه نيلاً فكانت هذه
النومة في النهار عوضًا عما فاتني في الليل.
أقول: قد عرف من سبق له قراءة رسالة التوحيد أن الفصل الذي كتبه في تلك
الحالة هو الفصل الذي عنوانه (انتشار الإسلام بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ)
ولعمري إن ذلك الفصل لقول فصل، وما هو بالهزل، أملاه على كاتبه الإلهام،
حتى كاد يكون معجزة من معجزات الإسلام، وقد قال في أوائله:
(ابتدأ هذا الدين بالدعوة كغيره من الأديان ولقي من أعداء أنفسهم أشد ما يلقى
حق من باطل، أوذي الداعي - صلى الله عليه وسلم - بضروب الإيذاء وأقيم في
وجهه ما كان يصعب تذليله من العقاب لولا عناية الله، وعذب المستجيبون له
وحرموا الرزق، وطردوا من الدار، وسفكت منهم دماء غزيرة، غير أن تلك
الدماء كانت عيون العزائم تتفجر من صخور الصبر يثبت الله بمنظرها المستيقنين،
ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب
وهي ذوب ما فسد من طباعهم فتجري من حناجرهم جري الدم الفاسد من المقصود
على أيدي الأطباء الحاذقين، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ
عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (الأنفال: ٣٧)
تألبت الممل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على الإسلام
ليحصدوا نبتته، يخنقوا دعوته، فما زال يدافع عن نفسه دفاع الضعيف للأقوياء،
والفقير للأغنياء، ولا ناصر له إلا أنه الحق بين الأباطيل، والرشد في ظلمات
الأضاليل، حتى ظفر بالعزة وتعزز بالمنعة، وقد وطئ أرض الجزيرة أقوام من
أديان أخر كانت تدعو إليها وكان لهم ملوك وعزة وسلطان وحملوا الناس على عقائدهم
بأنواع المكاره، ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي فلاحًا، ولا أنالهم القصد نجاحًا) إلخ.
وجئته مرة في داره بعين شمس سنة ١٣٢١هـ، وكان قد وعك غداة يومه
فرأيته ينظر في ثلاثة كتب عربية يقرأ المسألة في كل منها فسألته ما بك وما هذا
الذي تنظر فيه فقال هو التهيج العصبي، الذي يلمّ بي أحيانًا في الفكر في الأمور
العامة، وهذا كتب في أصول الفقه ألهو بمباحثها عن القرآن فإنني إذا فكرت فيه
رأيت بُعد المسلمين عنه فيقوى التهيج العصبي.
وأما عاداته فقد كان يخالف فيها علماء هذه الديار، يخالفهم فيما يُكره شرعًا أو
عقلاً كتطويل الأردان وتوسعيها وجر الأذيال؛ فكان زيه أقرب إلى زي علماء
سوريا منه إلى زي علماء مصر. وكان يكره أن تقبل يده بل يصافح الناس مصافحة،
وقد منع الأزهريين عن تقبيلها بعد الدرس كعادتهم. وكان يكره أن ينشد أمامه
شعر أو يقرأ شيء في مدحه يكره ذلك رأيًا وشعورًا؛ فيتألم لسماعه وينفر منه.
ولما كتب ما كتب في الرد على مقالات هانوتو في الإسلام، ونشر ذلك في المؤيد
معزوًّا إلى أحد أئمة الإسلام، ولم يَخْفَ على الناس أنه هو الكاتب لاعتقادهم أنه لا
يوجد في مصر من يقدر على مثل ذلك غيره، وقد ذكر هذا أمامه؛ فظهر التغير
على وجهه، وقال: إنه لا يؤلمه شيء مثل هذا؛ لأنه إقرار بأن أمته بلغت من
الجهل أن انفرد فيها واحد بالقدرة على أداء بعض الواجبات التي كان من الضروري
أن يضطلع بها كثير من أفرادها في كل بلد، وأي ألم أشد من ألم من يحب ارتقاء
أمته، ورفعة شأنها، وهو يراها بهذه الحال من العجز، قال: ومن البلاء أن يعجز
الإنسان في هذه البلاد عن التنكر في بعض الخدم التي تقضي المصلحة بتنكر من
يخدم الأمة بها. وقد ذكرني قوله هذا قولاً آخر له قريبًا منه، وهو أنني أحب لو
يكون في قومي كثير من الناس الذين يفضلونني في كل علم؛ لأن ذلك يعينني على
تكميل نفسي بالرجوع إليهم فيما أجهل والاستعانة بهم على ما أعجز، ومن أكبر
المصائب على محب العلم من يستمد منه فيقف علمه عند حد بحثه لا سبيل إلى ضم
بحث غيره إليه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))