للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
المكتوب الثالث من أميل إلى أمه [*]
إفضاؤه إليها بحبه لقينة من الممثلات - كيف تعلق قلبه بها - ستعلامه
سيرتها- تمنيه إنقاذها مما هي فيه- طلبه المغفرة من أمه بعد اعترافه لها بالحب.
تحريرًا في ١٢ مايو سنة ١٨٦.
إني منذ عرفت نفسي ابنك أبثك جميع ما يسوءني وما يسرني، وما أكره وما
أحب، وأكاشفك بالخير والشر، ولا أكتم عنك شيئًا حتى إني لما كنت بحضرتك ما
كنت في حاجة إلى البيان؛ لأنك كنت تطالعين أفكاري في عيني وتبصرينها تجول
على جبيني، وهذه أول مرة لي في حياتي أسررت فيها سرًّا ... وليت شعري أأبوح
به إلى قصب نهر الرين؟ إذًا لتضاحك مني كما تضاحك من أذني الملك ميداس [١]
أم أبثه إلى القمر؟ كلا فقد سمع كثيرًا من أمثاله أم أكنه في قلبي؟ إذن لأنَّبتني عليه
سريرتي. ما أنا بفاعل شيئًا من ذلك بل أريد أن أودعه صدر أمي.
على أن الإفضاء به ليس من السهولة بالمقدار الذي كنت أتوهمه فإني ما
أنشأت أخط هذه السطور الأولى من مكتوبي حتى ارتعشت يدي، وخفق قلبي ولست
إخالك إلا ساخرة مني، ولكن أقل ما أنا واثق به منك أنك لن تجدي علي أن صدقتك
الخبر؛ وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من إفشائه، وهو أني أحب.
الآن أراك تسألينني من هي التي تحبها، وأين رأيتها، وكيف عرفتها، وفي
هذه الأسئلة ما يزيدني حيرة وارتباكًا. في مدينة (بُن) ملعب من الطبقة الثانية
غير أنه مشهور بحسن اختيار القصص التمثيلية؛ فمما يمثل به قصة مريم
استوارت [٢] ، وقصص شيلار [٣] وقصة غويت عن فوست ومرغريتة [٤] وغيرها
من القصص الشهيرة. وللموسيقى والأغاني الموقعة عليه في هذا الملعب يومان أو
ثلاثة تحل فيها محل الأدبيات والوقائع التمثيلية، وأنا أذهب إليه في بعض الأحيان
لسببين أولهما ترويح نفسي من عناء الدرس، وثانيهما إيلافها أصوات اللغة الألمانية؛
فمن نحو شهر ابتدأت قينة بافييرية [٥] فتية تغني على الموسيقى هناك، وكان أول
ما غنته (قصة النبي) من توقيع مايربير فبلغت من الإجادة في تغنيتها إلى حد أن
جميع طلبة الجامعة كانوا يلهجون بذكرها كأنها آية من الآيات؛ فجريت معهم في
مصاف الإعجاب بها ولما انطلقت إلى الملعب؛ ورأيتها في باحة التمثيل كان كلي
عيونًا تبصر، وآذانًا تسمع، وليس صوتها هو الذي اشتد إعجابي به مع كونه من
أندى الأصوات وأندرها، بل الذي ملأني إعجابًا هو ما في تغنيتها من الروح، بل ما
في خلقها من الحسن والإتقان فبتُّ ليلي كله أحلم بها، ولا يفارقني طيفها، وكنت
أراها بين الأفلاك السماوية، وأسمع أنغام الكواكب الموسيقية؛ فكأن فيثاغورس [٦]
كان يحب قينة عندما كان يحدث تلاميذه عن حسن ألحان النجوم.
ولخوفي من انقضاء إعجابي بها فيما يلي من التمثيل عاهدت نفسي على أن لا
أتخلف إلى الملعب ليالي تغنيتها، ولكني ما استطعت أن أوفي بعهدي وقد انتفى
عني كثيرًا خوف إقلالي من التحمس في حبها بما اكتشفته فيها على توالي الأيام من
الخصائص الجمة التي لم أكن لاحظتها من قبل، ولا بد من الاعتراف لَكِي بأني كنت
أجلس من الصف المواجه لباحة التمثيل بحيث أكون مرئيًّا لها، وقد حسب لحظي
مرة أو مرتين أنه لاقى لحظها ... ولكن ربما كان هذا ضلالاً، ومع أن التمثيل
كان يمكث أكثر من أربع ساعات كنت دائمًا أجده في غاية القصر، وأغادر مقعدي
في ختامه وقلبي مفعم بما لا يوصف من الاضطراب.
خطر في ذهني أن أخاطبها بأبيات من الشعر أنظمها وأرسلها إليها غير ممضاة
مني على يد بواب (الملعب) الهَرِم؛ ففعلت؛ وكنت أقول في نفسي وقت نظمها أن
أقل فائدة لي منها أن تعلم أن واحدًا من الناس يحبها، ولكنها كانت أبياتًا رديئة وأقر
بأنها ما كانت تؤدي نصف ما كنت أضمره لها من عواطف الميل وهذا ما دعاني
إلى عدم الاعتقاد بصحة ما قيل من أن الشعر من لوازم الحب كما قرأته ذات مرة
في بعض الكتب، وليس في قدرة أحد ممن عدا المصطفين من الخلق أن يعبر عن
كل ما يجده في نفسه، ويا ليتني كنت واحدًا من هؤلاء النوابغ الممتازين.
كنت من مساعي في القرب من هذه الفتاة واقفًا عند الحد الذي بينته لك فبينما
أنا في يوم من أيام الآحاد أجوب المنتزه الذي تجتمع فيه نساء المدينة في نحو
الساعة الثانية بعد الظهر؛ إذا بها أقبلت آخذة نحوي في مخرف؛ فخطر ببالي أولاً
أن أتنكب هذا المخرف لسلوك إحدى السبل المقاطعة له؛ لأنه كان يخيل لي أن
سأصفق مما قام بنفسي من ضروب الانفعال والاضطراب غير أني تثبت ومشيت
مشيت الجندي الباسل الذاهب إلى حومة الوغى فرأيتها في بزة بالغة من الرونق
غايته على بساطتها. وارباه! كم وددت لو كنت في تلك الساعة قفازها أو زهرة
قلنسوتها أو مظلتها التي تقيها حر الشمس؟ أقول ذلك وإني لأعلم أنه كان مني
قبيحًا ولكن لا ينبغي أن أكتم عنك شيئًا من مواضع ضعفي.
إن في اللحظ خاصة الجذب فإني كنت آنس من لحظي إذا رنوت إليها أن كله
إقرار، وتصريح بالحب، ولما مر كل منا حذاء صاحبه جرى على وجهي لألاء
حسنها كما يجري لمعان البرق، ولم أجسر على الالتفات خلفي إلا بعد أن جاوزتها
بثلاثين خطوة فرأيتها قد بعدت عني مهرولة غير أني بصرت في المسافة التي بيني
وبينها بشيء أبيض يخفق خفوق جناح الحمامة من صفق الريح إياه فما تريثت في
التقاطه فإذا هو منديلها قد سقط منها ... أو تعمدت إسقاطه فعدوت خلفها ودفعته
إليها فأظهرت الدهش من ضياعه، وتلطفت في إسدائي الشكر على رده وراقني أن
سمعتها تحسن التكلم بالفرنسية فلاح في ذهني أن أعرفها أني صاحب الشعر الذي
أرسل إليها، ولكني كنت من شدة الاضطراب الذي استولى على نفسي بحيث لم
أستطع تحريك شفتي بكلمة ما، ولا بد أن تكون حسبتني أبله.
يزعم العارفون بتركيب الحيوان، ومنافع أعضائه، أن الذاكرة لا تحفظ
الروائح وعذرهم في ذلك أنهم لم يحبوا في حياتهم؛ فإن منديلها وهو قطعة من
النسيج الباتستي [٧] الرقيق كان يتضوع عن عطر لطيف لن أنساه ما دمت حيًّا. وفي
اليوم التالي لهذا اللقاء انطلقت إلى ما حول المدينة من الربى الزاهرة فجنيت باقة من
ألطف ما وجدته من الزهور البرية وأدلها على العفاف، ولما حان وقت التمثيل
خبأتها في قلنسوتي المدرسية وأخذت مجلسي في الملعب فغنت كعادتها بصوت يسمو
بسامعيه إلى السحاب؛ ولكن كان يخيل إلي أن هذه المرأة التي لاقيتها في الطريق
أمس ذلك اليوم أكمل من قينة، وإن كان استعدادها للتغنية مثارًا للإعجاب وبعد أن
انتهت من غنائها وانصرفت استعادها جميع السامعين فهطلت حولها باقات الزهر من
غرف الملعب والكراسي المقابلة لباحته، وآن لي أن ألقي إليها باقتي فاهتمت غاية
الاهتمام بأن تبصرني عند إلقائها مع تظاهري بالاختفاء خلف جيراني وما أدراك ما
فعلته حينئذ؟ لقد أهملت كل ما ألقاه غيري من الأزهار النادرة مثل زهرة الكامللية [٨]
وزهر التين الهندي، والورد ذي الأسنة، وعمدت إلى باقتي الحقيرة المؤلفة
من أزهار برية فتناولتها وضمتها إلى قلبها، أفلا ترين في ذلك برهانًا على حبها لي؟
ستقولين لي أنت لا تعرفها، وقد تكون مخالفة تمام المخالفة لما تخيلته منها
وأنه كان ينبغي لك قبل أن تعلل نفسك بالأماني والأوهام أن تكون على بينة من
أخلاقها وكيفية معيشتها فأجيبك إن هذا أيضًا لم يفتني، وأقر بأني لم أقف من تحري سيرتها إلا على أخبار لا يزال فيها شيء من الغموض، ولم يجتمع لدي في هذا
الصدد إلا أقوال في غاية التعارض والتناقض، فأنت تعلمين مقدار ما للشبان فيما
بينهم من القسوة على النساء، ولا سيما الممثلات فقد بلغ الحسد من إفساد خلق الإنسان
إلى حد أن جعل من لذَّاته تمزيق أعراضهن مع ما لهن من الملكات التي هي مناط
الاستحسان العام ولست بمخفٍ عنك شيئًا مما يقولون؛ فبعضهم ينسب لها من هنات
الشباب ما يغير دمي، ويثير غضبي، وبعضهم يقول: إنها تعيش مع أمها في حي
منعزل عن المدينة، وقد أراني الطلبة هذه الأم تصحبها ليلاً عند خروجها من الملعب
من عامة النساء قد ذر شاربها، وإني لمتألم من تصور أن مثل تلك الزهرة قد نبتت
من هذه المدرة، ومهما يكن من وضاعة أصل تلك الجارية فمن الأفضل أن تعامل
بجميع ما يجب لفتاة مخلصة مثلها من صنوف الرعاية والتكريم.
على أننا إذا سلمنا حصول أسوأ ما يتأتى حصوله منها، وفرضنا أن سيرتها لم
تكن دائمًا، أفلا يكون الذنب في ذلك على مهنتها، وعلى من يعاشرونها من الناس؟
إني أراها بالغة من الظرف والكياسة مبلغًا أستبعد معه أن لا تكون لها نفس زكية،
وربما لم يتفق لها في حياتها أن تمثل لها الحب الصحيح المطهر للنفس بشرًا فاضلاً
كريمًا. وارباه أي فخر أناله لو أبيح لي أن أمد يدي إلى تلك الروح الملكية فأنتشلها
من درك الانحطاط الذي هبطت فيه لتعود إلى نور الهدى والفضيلة.
ها أنا ذا قد كشفت لك مكنون سري ونجوت بهذا الاعتراف من شديد زجر
سريرتي والآن أقع بين يديك راجيًا منك غفران خطيئتي. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))