للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

المكتوب الرابع من هيلانة إلى ولدها [*]
الحب الحقيقي ومعاملة الوالدين للشاب العاشق
لقد راقني منك يا بني العزيز صراحتك، وموافقة سرك لعلانيتك وإني مجتنبة
كل الاجتناب ممازحتك في غانيتك التي نطت بها أمانيك، ومع اعترافي بأن ما
قصصته عليَّ في شأنها لا يخلو من أمور تدعوني إلى التفكير، وتبيح لي أن أنبهك
في أمرها إلى تفاصيل أخالها مريبة، أتحامي أن أجرد تلك الأماني من زهوها،
وأُعريها من روائها، فليس عليك إلا أن تذكر أنك شاب غر، لما تختبر شيئًا من
أمور الدنيا، وإنك - وآسفي - لسرعان ما تتعلم أن لا تغتر بالظواهر، وعسى الله
أن لا يجعل في ذلك خسارًا عليك.
قد تعاهدت أنا وأبوك على عدم التداخل في محباتك بحال من الأحوال؛ فأنت
حينئذ آمن من ضروب عذلي وتأنيبي، ولكنك بما صرت ولي نفسك مسئول عن
جميع ما يقترفه قلبك في سبيل الحب من الآثام، واعلم أن من هو في مثل سنك
يكون شديد الارتياح إلى الاغترار والانخداع، فكم شاب يحسب من الحب ما ليس
هو إلا اضطرابًا في مشاعره، وسرابًا يبدو لحواسه؛ لأن الحب الصحيح هو
الاستيلاء على نفس المحبوب، ولا يبلغه إلا من كان حقيقًا به وأهلاً له.
لم يعلق بنفسي أدنى أثر مما للناس في الممثلات من الأوهام، وإنهم لظالمون
في حكمهم على كثير منهن، وحاشا أن أحكم على تلك القينة التي فتنتك بمحاسنها
وأنا لا أعرفها، وإنما أنبهك إلى أنك ليس لك حتى الآن أدنى وجه صحيح في أن
تستنتج من بعض أحوالها معك أنها تفضلك على غيرك من عُبَّادِها؛ فمن غرور
الشبان أن يعتقدوا أنهم محبوبون؛ لأنهم محبون، على أني أسلم لك أن قلبها ملبٍ
لعواطفك، فالذي تعرفه منها، والذي تتلمسه من وراء حبها ليس من الخصائص
المقومة للمرأة في شيء؛ لأنك إنما تعشق منها تغنيها وحسنها ودعابتها وهي مزايا
تستفيد العامة منها أكثر مما يستفيده الرجل الذي قد تصير صاحبة له، فهل تدري ما
يبقي لتمثال حبك الذي تعبده من المحاسن إذا زال عنه زخرف الملعب ورونقه
وغرور العشق وخدعه؟
أنت بنفسك فيما يظهر لي مرتاب من ماضي سيرتها؛ لأنك تتمنى لو أتيح لك
إنقاذها من الدرك الذي هي فيه، وهي فكرة كريمة جعلها أدباء العصر بدعة من
البدع، ومعاذ الله - صيانة لشرف المرأة نفسه - أن أعتقد أن ذنوبها لا تكفر، بل
إني أسلم ما قلته من أن الحب قد يمحو بعض الأدناس، ولكنا لا نعلم كثيرًا من أمثال
النساء اللاتي أُبْنَ إلى الرشد بعد الغَيّ، ثم إني لا أظنك فكرت فيما يعترض مقصدك
الدال على البسالة من الصعوبات والعوائق، فإن إنقاذ الخاطئات الذي يحسِّن الطيش
لبعض الشبان الأغرار أن يدَّعوه لأنفسهم يلابسه في معظم الأحيان من الكبر
والعجب أكثر مما يصاحبه من الإخلاص الحقيقي فكأنهم بهذا يعتقدون أن ملائكة
العشق اللاتي أهبطن إلى حضيض الرذيلة ليس لهن من الصَّلف والإباء مثل ما لهم.
إن من يحاول ذلك العمل يجب أن يكون بالغًا من قوة النفس ولطف الذوق مبلغًا
عظيمًا يسمو به عن الغض من المرأة الخاطئة وإذلالها، ثم هل أنت في سنك هذا
تأنس من نفسك قوة وإقدامًا على كتمان الغيرة؟! فإنها تبكيت ومؤاخذة للمرأة التي لم
تكن طول حياتها عفيفة، وهل لك من السلطان على نفسك ما يكفي لإخفاء ما يكون
في معظم الأحيان مثارًا للريبة منك؟ وهو ندمك على إجلالك لمثل تلك المرأة مع أنه
لا يُسمح به عادة إلا للزكية الطاهرة؛ فإذا كنت لم تستكمل هذه الصفات فخل الجهاد
عنك؛ لأنه لا يكون من ورائه إلا زيادة من تزعم إنقاذها خسرًا.
من الأمهات من يكتبن لأبنائهن في مثل هذا الموضوع على أسلوب مغاير لهذا
تمام المغايرة فقد يؤنبنهم ويجتهدن في تخويفهم من عواقب طيشهم، وغير الأمهات قد
لا يرين في كل هذا إلا مقدمة لواقعة من الوقائع الشائع حصولها بين الشبان، وهفوة
عادية من هفوات الطلبة، وربما قلن فوق ذلك، وهن مبتسمات (تهوينًا تهوينًا فمن
الواجب إقالة عثرات الشباب) وأما أنا فأعلم أنك جاد فيما كتبت، وإلا لما أفضيت
إلى بسِرِّك، ولهذا أجبتك بالجد ولست أخاف عليك إلا أن تكون خدعة لما في خيالك
من التوقد الذي هو من لوازم سنك، ومن العبث القول بالتسامح في أمر الحب فليس
أحد يسلم منه بالاستخفاف به؛ لأنه إذا لم يرفع النفس ويزكيها فإنه يسفلها ويدسيها.
وحسبي ما قلته في هذا الموضوع فلا أزيدك عليه شيئًا.
جاءتنا أخبار من البيرو فقد كتب إلينا قوبيدون وجورجيا بأنهما يذكرانك
و (لولا) ذكرًا كثيرًا.
ومما ينبغي أن تعلمه أيضًا أن (لولا) تفكر في اختيار مهنة لها؛ فقد قالت لي
من أيام مضت (إني أريد أن أتعلم حرفة من أجل أن ... ) وما عتمت أن فرت إلى
حجرتها قبل أن تتم كلامها وقد احمر وجهها خجلاً.
وأراني أدركت مرادها، وهو أن المرأة التي لا مال لها ولا حرفة ليست
حرة؛ فإذا تزوجت فإنما تتزوج في الغالب مقام زوجها ومكانته و (لولا) لعزة
نفسها، وإباءها تتذمر من هذا الاحتياج، ولا ترضى الاستكانة له فهي تريد أن
تقول يومًا ما لمن يروقها من الناس: إن في استطاعتي أن أعيش بعملي، وإني إذا
أخلصت في تحصيل الاغتباط والسعادة لك فذلك لأني أحبك.
أستودعك الله يا بني العزيز، وأوسع صدري على الدوام لتلقي أسرارك
ومشاركتك في آلامك، وأبعث لك في هذا قبلة الحب الذي لا يتغير ألا وهو الحب
الذي لك في قلب أمك. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))