للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

المكتوب الخامس في المدرسة الجامعة
كتب في ١٠ يوليه سنة -١٨٦ من (أميل) إلى أبيه:
كلفتني بأن أجعلك على علم بدروسي فموافاة لرغبتك أقول: الجامعة التي
أختلف إليها بناء في غاية الجدة، وتفتح قاعاتها للتدريس في فصل الصيف من
الساعة السابعة صباحًا إلى الساعة الأولى بعد الظهر، ومن الساعة الثالثة بعده إلى
الساعة السادسة، وتنقسم دروس الأساتذة فيها إلى عامة وخاصة فالأولى تلقى
بالضرورة مجانًا ويدفع الطلبة في مقابل تلقي الثانية (فريدريكين) ذهبًا (٥٠ فرنكًا)
كل ستة أشهر وتنقسم جامعة (بُن) مثل كل الجامعات في ألمانيا إلى أربع مدارس
اختيارية إحداها للقوانين، والثانية للحكمة، والثالثة للطب، والرابعة للإلهيات
ويتعلق بكل من هذه المدارس الأربع فروع مختلفة يدرسها فيها رجال مخصصون
بها.
الجامعة تخلي بيننا وبين حرية التصرف في وقتنا، إما بإضاعته أو بالانتفاع
به؛ لأني لا أرى لأحد منها أدنى تفتيش، ولا أقل هيمنة علينا في سيرتنا على أني
أعتقد ما قلته لي كثيرًا من أن النظام التأديبي الناجع هو ما يفرضه الإنسان على
نفسه ويلتزم اتباعه.
لا مراء في أن أساتذة جامعتنا متضلعون من العلوم غير أني كثيرًا ما يشق علي
أن أتتبع سلسلة أفكارهم في الدروس لسببين: أولهما أن هذه الأفكار ليست في ذاتها
واضحة، وثانيهما: أني لقلة تعودي على تصوير فكري بالألمانية حتى الآن أجد من
الصعوبة في فهم تلك الأفكار أكثر مما يجده غيري من المتعودين، ويدهشني من
أمر هؤلاء العلماء أنهم على سمو مكانتهم في العلم وبُعد صيتهم مغبونون في أجر
عملهم؛ إذ استدللت على هذا بما يبدو عليهم من رقة الحال وبقناعتهم باليسير من
العيش ورثاثة ملبسهم الذي يكاد يكون وسخًا وفقرهم هذا يؤلمني ويزيدهم في نفسي
إجلالاً على إجلالهم الذي تدعوني إليه معارفهم، فأولئك رجال يحبون العلم لا لكسب
المال ولا للتمتع بالحطام وإنما يحبونه لما يحصله للعقل من لذاته وضروب اغتباطه.
ثم إن بعض المدرسين يرتجلون الدروس مطنبين فيها، وبعضهم وهم
الأكثرون يأتون بها مكتوبة فيلقونها على الطلبة، وهؤلاء يصغون لما يلقى عليهم
ويكتبون ما يعلقونه منه، وقد وضعت لنفسي نمطًا في اختزال الكتابة؛ وهو وإن
كنت لا أشك في قصوره لأوليَّته يمكنني من إثبات الحدود الأساسية لما أسمعه من
الجمل.
ينقسم الطلبة باعتبار مذاهبهم إلى كاثوليكيين وبروتستانتيين متشددين يعد
بعضهم نفسه للأعمال الخطابية، وحكماء يجتهدون في تأويل المذاهب تأويلاً مطابقًا
للعقل، وماديين وهم قليل يصرحون بأن زمن الديانات قد انقضى، وأنه لا ينبغي
إضاعة الوقت في العكوف على ما لا حقيقة له من هواجس القرون الوسطى
وأحلامها.
رأيتك دائمًا تجتنب الخوض معي في المذاهب والأسرار الدينية واستنتجت من
سكوتك عنها أنك قصدت مني الاستقلال بنفسي في الاعتقاد، ولقد حملتني عظيمًا؛
فإني حتى هذا اليوم في غاية البعد عن معرفة ما يستقر عليه فكري في كثير من
المسائل التي ترجفني محاولة سبر غورها على أنه لا بد من الإقرار لك بأني لست
مطرحًا هذه الطائفة من الأفكار ولا مغفلاً لها، فكم مرة نظرت إلى السماء في سكون
الليل، وحاولت على حداثة سني وجهلي أن أقرأ في نجومها حلاً للغز هذا العالم،
وأني منذ اليوم الذي شهدت فيه إلقاء جثة الملاح في البحر -وإخالك تذكره- لا ينفك
عني التفكير في سر الموت حتى في أحلامي، وقد سألت القبور أن تكشفه لي فلم
تحر جوابًا! فعمدت من عهد دخولي الجامعة إلى مطالعة ترجمة الفيدا [١] الألمانية
والزنداويستا [٢] ، والتوراة فأثرت قراءتها في نفسي تأثيرًا بليغًا، وكان يتراءى لي
منها عالم جديد، ولكن من خلال ظلمات لا يسعني إلا الإقرار بأنها لم تنقشع ولست
أدري، أأعكف على دراسة هذه الكتب؟ أم أعدل عن إماطة الظلمات عما لا يتناهى؟
فلا أشتغل إلا بما هو ثابت محقق من نتائج العلم.
أنا الآن أحوج مني فيما مضى إلى إرشادك والاستضاءة بنور علمك، ومن ذا
الذي استرشده وأستهديه سواك؟
جميع الطلبة يتعلمون المجالدة والمناضلة، وأنا مقتدٍ بهم في ذلك فلي كل يوم
ساعة أو ساعتان أقضيهما في ممارستها؛ لأن في هذه الممارسة تمرينًا مفيدًا في
تقوية الأعضاء وتنميتها، ويؤكد لي العارفون من الطلبة أن أمهر المجالدين من يندر
التحرش به. ومع أني لا أرجو مطلقًا أن أبلغ في المجالدة والمناضلة مبلغ الفارس
سان جورج [٣] أود لو أثبت في قاعة الممارسة ثبوتًا كافيًا أني على علم باستعمال
السلاح حتى يحسب الطلبة حسابي فلا يستخفون بإغضابي فإن المبارزة كثيرة
الوقوع بينهم وهم يجرحون فيها أحيانًا، ولكن يندر والحمد لله أن يقتلوا ومن يجرح
منهم لا يبالي بخدش وجهه، بل يعتبر ندب الجروح على ما فيها من التشويه لخلقه
من موجبات إجلال النساء له.
ثم إني أختم مكتوبي راجيًا أن تثق مني بدوام محبتي لك وتعلق قلبي بك.
((يتبع بمقال تالٍ))