للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقرير مشيخة علماء الإسكندرية
سنة ١٣٢٢ الدراسية

(تمهيد)
جاء في كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) ما نصه:
في ٢٩ المحرم سنة ١٣٢١ و٢٧ أبريل سنة ١٩٠٣ صدرت الإرادة السنية بإلحاق التدريس والامتحان في ثغر الإسكندرية بالجامع الأزهر، ومضمون الإرادة:
(إن الجناب العالي وافق إرادته العلية أن تكون الإسكندرية ملحقة بالأزهر في التدريس
والعلوم والامتحان وأن مجلس إدارته يضع لها القوانين والنظامات، ويرتب درجات
العلماء الموجودين فيها وقت صدور هذه الإرادة ويحصر الأماكن التي تدرس فيها
العلوم هناك وأن يكون ترتيب درجات علمائها بحضور ثلاثة من مشهوريهم الأقدمين) .
ثم ذكر بعد هذا أن شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية - يعني الأستاذ الإمام
رحمه الله - سافرا إلى الإسكندرية للابتداء بتنفيذ هذا الأمر - الذي كان من رغائب
الثاني وأثر سعيه - فرتبا درجات العلماء، وأحصيا عددهم، واختارا الشيخ محمود
باشا شيخًا لعلماء الإسكندرية، وبعد أن عادا اشتغلا مع مجلس إدارة الأزهر بوضع
قانون لسير التدريس والامتحان في الإسكندرية فوُضع، ثم إن الشيخ محمود باشا
أَبَى أن يكون شيخًا لعلماء الإسكندرية تابعًا للأزهر، فوقف العمل، واتفق أن جاء
الشيخ محمد شاكر قاضي قضاة السودان في ذلك العهد إلى مصر بالإجازة فأراده أحد
أعضاء المجلس (يعني الأستاذ الإمام) على أن يكون شيخًا لعلماء الإسكندرية
فصادف منه ارتياحًا فأشار عليه أن يعمل ليصل إلى هذه الغاية فقام بالأمر خير
قيام، ومهد لذلك باسترضاء الجهتين: جهة السودان لتوافق على نقله وجهة مصر
لترضى بتعيينه شيخًا لعلماء الإسكندرية، وكلل سعيه فيهما بالنجاح فقرر مجلس
الإدارة في ١٦ أبريل سنة ١٩٠٤ انتخابه لهذه الوظيفة الجليلة، وأن يكتب إلى
نظارة الداخلية لتستصدر الأمر العالي بذلك فكان ما طلبه المجلس وصدر الأمر
العالي بتعيينه شيخًا لعلماء الإسكندرية في ١٠ صفر سنة ١٣٢٢ و٢٦ أبريل ١٩٠٤
وانحل ذلك المشكل العظيم. اهـ ما أردت نقله من كتاب أعمال الأزهر.
وأقول: إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - كان يتوسم في الشيخ محمد
شاكر الهمة والنشاط في العمل ويعرف فيه حب النظام فلذلك اختاره قاضيًا للسودان
أولاً، ثم شيخًا لعلماء الإسكندرية آخرًا، وهو الذي أقنع الحكومة السودانية بأن
ترضى بنقله وأقنع مجلس إدارة الأزهر بطلب تعيينه وتسهيل السبيل له وانظر ما
جاء عن مبادئ عمله في كتاب (أعمال مجلس الأزهر) قال مؤلفه:
(قام شيخ علماء الإسكندرية الجديد بعمله أحسن قيام لما فيه من الفطنة وشدة
الذكاء ولعلمه بما يجب لهذا الزمان الحاضر وعضده مجلس الإدارة الأزهرية وشيخ
الأزهر أكبر التعضيد وسهل له الطريق في استعمال فكرته ولم يقيده بنظام سوى
نظام الأزهر نفسه ونسخ له صور القوانين والقرارات التي يجري عليها العمل
المستمر وقرر له كل ما طلبه في سير الأعمال وضبط نظامها وتكليف العمال بما
يطلبه منهم فأمضى بقية سنته في ترتيب وتنظيم وفي تعويد العلماء على العمل
وضبط المواعيد والمواظبة على إلقاء الدروس واستصدر أخيرًا من مجلس الإدارة
قرارًا بحصر المساجد التي يكون فيها التدريس في ثمانية مساجد) ... إلخ.
ثم ذكر أنه في آخر السنة الدراسية قدم تقريرًا إلى مشيخة الجامع الأزهر
فصَّل فيه أعماله في تلك المدة وما يريده في السنة الجديدة. ونقول: قد تمت هذه
السنة ووضع لها تقريرًا رفعه (للأعتاب الخديوية) لا لمشيخة الأزهر وهو موضع
ما نكتب هنا بعد هذا التمهيد فنبدي رأينا في مسائله التي فيها مجال للرأي ثم في
عبارته.
مبحث التعليم الديني
رأيه ورأينا
في مقدمة التقرير كلام في فائدة عرض الأعمال على أصحاب الأفكار والآراء
قال بعده: (وهذه خلاصة الأعمال في مشيخة العلماء بمدينة الإسكندرية وإن
المشيخة ليسرها أن ترى ذلك اليوم الذي يتناول فيه كبار الكتاب أقلامهم لإفاضة
البحث في ترقية التعليم الديني وإعلاء شأن معاهد العلوم الدينية استنهاضًا للهمم
وترغيبًا في تربية الشبيبة المصرية من كل الطبقات التي تتكون منها الأمة تربية
إسلامية مؤسسة على اتباع شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى العمل
بما جاء به من عند ربه بحيث تكون دعائم التعليم لكل أبناء المسلمين هي تلك الدعائم
التي بني عليها الإسلام، وهي الإقرار لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم
بالرسالة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأداء فريضة الحج إلى بيت
الله الحرام حتى لا نرى في الشبيبة المصرية (وهم رجال الغد) من يجترئ على
ترك فريضة أو سُنة أو يستطيع الصبر على مسلم يتركها وهو على فعلها قدير، والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) .
***
(المنار)
قد أحسن الأستاذ في عرض تقريره على محك النقد بما كتبه في هذه المقدمة
وبما كتب به إلينا وإلى غيرنا من أصحاب الصحف. وإننا نبدأ بإبداء رأينا في هذه
الجملة فنقول: إنه يعني بالشبيبة -وهي مصدر- الشبان، بل من دونهم من
المميزين المرشحين، وما ذكره بشأن تربيتهم تربية إسلامية غير كافٍ على ما في
العبارة من الإطناب الذي أفضى إلى التكرار إيضاحًا للواضح في قوله (على اتباع
شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى العمل بما جاء به) وقوله بعد هذا
(بحيث تكون دعائم التعليم) ... إلخ، لا يصلح تصويرًا وبيانًا للاتباع والعمل فإن
التعليم غير التربية العملية، ثم إن الذي يجب أن يتعلمه كل مسلم من الإسلام ليس
هو الإقرار لله بالوحدانية ... إلخ ما ذكره؛ لأن كل مسلم يقر هذا الإقرار ويسهل
عليه أن يتعلم كيفية إقامة الصلاة في مجلس واحد وكذلك أحكام الصوم ولا يجب
على مسلم تعلم أحكام الزكاة والحج إلا إذا كانا مفروضين عليه لغناه، ثم إن تعليم
هذا الإقرار وهذه الأعمال لا يترتب عليه ما ذكره غاية له بقوله (حتى لا نرى في
الشبيبة المصرية من يجترئ على ترك سنة أو فريضة) ... إلخ، فإن الأستاذ
الكاتب يعلم كما نعلم أن عدد المسلمين الذين تعلموا هذه الأمور وعملوا بها لا يتناوله
الإحصاء ولا يكاد يوجد فيهم من لا يجترئ ولا يصبر على ما ذكر.
إن الأحاديث التي اكتفت في إجراء أحكام الإسلام على المرء بالشهادتين
والعمل بالأركان الأربعة الأخرى؛ إنما هي في شأن الكافرين الذين يدخلون في
الإسلام، فهذه هي الأمور الظاهرة التي يعدون بها مسلمين وقد كان ممن قام بالأركان
الخمسة في الظاهر المنافقون الذين نزل فيهم من الآيات ما نزل، وقال فيهم النبي -
صلى الله عليه وسلم - ما قال، والمبتدئون من جهلة الأعراب الذين سلموا بظاهر
الدين، ولم يفهموا عقائده بالبرهان المفيد اليقين إلا بعد حين وفيهم نزل {قَالَتِ
الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: ١٤) الآية.
الغاية التي ذكرها إنما ترجى للكملة من الذين تربوا على الأصول الثلاثة في
حديث جبريل المتفق عليه من رواية عمر وأبي هريرة وهي الإسلام المفسر
بالأركان الخمسة التي ذكرها صاحب التقرير، وهي عبارة عن القسم العملي من
عبادات الدين والإيمان وهو عبارة عن القسم الاعتقادي منه والإحسان وهو الأدب
الكامل الذي هو أثر الاعتقاد الصحيح والعبادة القويمة والتهذيب المعتدل. ونعني
بتربيتهم على هذه الأصول الثلاثة تعويدهم العمل بالعملي منها من أول النشأة بحسن
القدوة لا بمجرد الطلب باللسان وتلقينهم العلمي منها بالدلائل التي يخضع لها العقل
ويطمئن بها القلب.
وجملة القول: إن عبارة التقرير في هذا المقام مضطربة وغير مبينة لما يجب
من التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي ولا للضروري منه وهو:
(١) العقائد الدينية على طريقة القرآن مع كشف الشبهات التي فشت في هذا
العصر بين المسلمين من غير خلط بفلسفة اليونان وشبهات المبتدعة الذين انقرضوا
ودرست مذاهبهم.
(٢) والآداب الدينية مع بيان فوائدها للمتأدب بها في نفسه وفيمن يعيش
معهم بحيث يقتنع بتعلمها أن فيها سعادة الدنيا قبل الآخرة، ويتضح له ذلك بالتأدب
بها فعلاً.
(٣) والأحكام العملية مع بيان أسرارها وفوائدها في نفس العامل وفي
صلته بالناس الذين يعيش معهم على ما بينا آنفًا. هذا ما يذكر في دعائم التعليم
الديني بالإجمال ونحث الكتاب على الترغيب في إقامة هذه الدعائم بتعليمها لأولاد
المسلمين وتنشئتهم على العمل بها في البيوت وفي المدارس حتى يصير العلم بها
مؤيدًا بالوجدان. وإنا لنعلم أن كاتب التقرير يقر هذا في نفسه، وإن لم تتناوله عبارته
وله أن يقول: إن سيرته التي سيشرحها تتفق معه في الجملة، وإن كان اللاحق لا
يدفع الإيراد السابق. ونحن لا نرتاب في حسن قصده وما قلناه بيان جاء في
وقته.
التعليم الإسلامي في الأغنياء والأعلياء
ثم قال الأستاذ صاحب التقرير بعد ما تقدم: (ومما يجب أن يتنبه له عقلاء
الإسلام وعظماء الأمة أن التعليم الديني قد كاد يكون منحصرًا في طبقات الفقراء
وبعض الطبقات الوسطى من الأمة الإسلامية دون الطبقات العليا منها وذلك خطر
غير قليل على الجامعة الإسلامية بمرور الدهور والأعوام إذا قدر أن ينتهي الأمر
بانحصار التعليم الديني في تلك الطبقات فتكون الرئاسة الدينية منحصرة فيهم
لا يتولاها سواهم من الطبقات الأخرى وبالتالي تكون كل الوظائف الدينية في أيدي
أولئك الأقوام ومن خصائصهم وبعبارة أصرح تكون الفضائل والمزايا الدينية مجردة
عن القوة المالية، والقوة المالية بعيدة عن المزايا الدينية، وبين أيدينا من نتائج هذا
التفريق في القوى الفعالة وهذا التدلي في التربية الدينية ما يصلح عبرة لكرام القوم
وخاصة المسلمين وعقلاء الأمة.
(فلينظر العقلاء وسادات الإسلام إلى موقفهم هذا فلعلهم إذا فكروا فيه كثيرًا
يترجح عندهم أن يتربى أبناؤهم تربية دينية إسلامية محضة تحت كفالة خيرة العلماء
العاملين المرشدين حتى إذا تخرجوا على هذا المبدأ القويم كانوا أقدر على خدمة
دينهم وأمتهم الخدمة التي ترجى من أمثالهم مع الترفع عن الدناءة وعن السقوط في
مهاوي الخسران، وإذا شاء عظماء الأمة أن يتربى أبناؤهم هذه التربية فإنهم
يساعدون على ترقية التعليم الديني ويجعلون له المكانة العليا في أفئدة الناس
أجمع، وما ذلك على الله بعزيز، نسأله الهداية والتوفيق لأقوم طريق) . اهـ
***
(المنار)
هذه تتمة مقدمة التقرير، وجملة ما يقال فيها أنها من الخواطر الحميدة التي
تسنح للأذكياء، وغرض الكاتب منها فيما يظهر دعوة أغنياء المسلمين في هذه البلاد
إلى نظم أولادهم في سلك طلبة العلم الديني في الإسكندرية، والعناية بالإسعاد على
هذا التعليم. وما من مسلم متفكر إلا وهو يتمنى أن يقبل الأغنياء مع الفقراء على
تلقي العلوم الدينية والتأدب بأدب الإسلام، وإنها لأمنية لا تنال بالتعبير عنها في
تقرير ولا بالدعوة إليها والترغيب فيها بالكلام المبهم. بل بترقية المدارس الدينية
ترقية تجذب الغني إليها باعتقاد أن فيها سعادته في الدنيا قبل الآخرة بجمعها بين
علومها مع الاقتصاد في الوقت على ما سنبينه بالإيجاز الذي تقتضيه الحال.
لا يقدم الناس على شيء إلا إذا علموا علم إذعان بأنه خير لهم وأكفل
لمصالحهم ودعوة الأغنياء إلى التعليم الديني لم تبن على بيان يودع نفوسهم من العلم
بذلك ما يحملهم على إجابة الدعوة؛ فإن عبارة التقرير لم تذكر من المرغبات في
الدعوة إلا توقي الخطر على الجامعة الإسلامية الذي جعله مشروطًا بانحصار التعليم
في غير الأغنياء وفرع من هذا الأصل انحصار الرياسة الدينية في غيرهم وجعل
الوظائف الدينية تالية للرياسة في هذا ثم فسر ذلك بعبارة أصرح في مقصده وهي
جعل الفضائل والمزايا الدينية مجردة عن القوة المالية، والقوة المالية بعيدة عن
المزايا الدينية. فكأن هذا التجرد هو الخطر فاتقاؤه هو المرغب الوحيد للأغنياء في
إجابة الدعوة وهو يتوقف على الاقتناع بصحته وصحة كونه محل الخطر على
الجامعة الإسلامية، وصحة كون معاهد العلم الديني في الإسكندرية تجمع للمتعلمين
بين القدرة على النهوض بالأعمال المالية مع الفضائل والمزايا الدينية ليجمعوا بين
القوتين وكون ذلك يمنع الخطر. على أن هذا كله غير واضح في كلامه ولنا أن
نجعل كل كلمة من تلك الكلمات التي يفسر بعضها بعضًا في كلامه مرغبًا مستقلاًّ
ونوسع الدائرة بالاستنباط، ثم نرى أيكفي ذلك لإجابة الدعوة؟
أيحسب الذين اعتادوا الارتياح إلى أمثال هذا الاقتراح في الجرائد أن من
الجواذب إليه والمرغبات فيه ما ذكره الأستاذ من الخطر على الجامعة الإسلامية،
والترغيب في الرئاسة الدينية، والوظائف الدينية، وتجريد المزايا الدينية من القوة
المالية، وكفالة خيرة العلماء العاملين المرشدين، لطلاب هذه التربية مع التعليم،
أين توجد التربية الإسلامية والتعليم الديني الجامعان لكلمة المسلمين الموثقان
لروابطهم؟ ما هي الرياسة الدينية التي لا ينالها إلا من تعلم العلوم الدينية وتربي في
حجرها، ثم ما هي الوظائف الدينية التي يرفع الأغنياء أبصارهم إليها، أليست هذه
الكلمات من قبيل ما يطفو فوق أنهار الجرائد كل يوم كفقاقيع الماء، ثم يتلاشى في
الهواء؟ بلى إنها من هذا القبيل ولا تنس أننا حمدنا السانحة في نفسها وجزمنا بأن كل
مسلم عاقل يتمناها، وكيف السبيل إلى نيل الأماني!
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
ليس في الإسلام رياسة دينية حقيقية كالرياسة في الأديان الأخر، فإن كل مسلم
مكلف فهم دينه من كتابه وسنة نبيه إن استطاع؛ فإن لم يستطع ذلك بنفسه استعان
بأي مسلم يرى أنه يعرف حكم الله الذي يطلبه لا تنحصر إفادة الدين في رؤساء
معينين. وقد مضى الاصطلاح بأن يدعى سلطان المسلمين رئيسًا دينيًّا، وإن قال
الصحابة في أبي بكر عليه الرضوان: رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لديننا -أي في إمامة الصلاة- أفلا ترضاه لدنيانا؟ فجعلوها دنيوية وهل يطمع غني
أو فقير بهذه الرياسة الشرعية أو الدينية، مهما بلغ في التربية والعلوم الإسلامية؟
وأما الوظائف الدينية الحقيقية المحضة كإمامة الصلاة والآذان فلا يرغب فيها
الأغنياء، بل لا يرضونها لأنفسهم على أنها لا تزال مبذولة للجاهلين. وهناك
وظائف شرعية كالقضاء والإفتاء وليست مما يرغب فيه الأغنياء هنا لما هو
معروف للكاتب والقارئين.
لا خطر على الجامعة الإسلامية في انحصار الوظائف الدينية في أهل الفضائل
والمزايا الدينية من الفقراء والأوساط ومن يتحلون بهذه الفضائل والمزايا لا يعجزهم
أن يطلبوا الغنى فينالوه وأن يقنعوا الأغنياء ببذل شيء من فضول أموالهم في سبيل
الله لإقامة المصالح العامة. ثم إن تحلي الأغنياء بالفضائل والمزايا الدينية ليس مما
يتوقف على هذا التعليم الذي يدعوهم إليه الأستاذ في تقريره.
فجملة القول: إن عبارة التقرير في هذه المسألة مبهمة مضطربة كعبارته التي
قبلها.
إذا قلنا: إن المسلمين أو الجامعة الإسلامية على خطر؛ فإنما نعيد قولاً تكرر
منا في المنار كثيرًا. ونعيده الآن لنقول: إن التعليم الديني في مصر ليس له أثر ما
في حفظ ما يسمونه الجامعة الإسلامية، بل ربما كان له الأثر في إضاعتها؛ لأنه
لا يدفع الشبهات الطارئة في هذا العصر على الدين ولا يبين انطباق أحكامه على
مصالح البشر ومنافعهم الشخصية والاجتماعية، ولا يخرج رجالاً يصلحون حجة
على أهل التعليم الدنيوي باستقامتهم وفضائلهم وقدرتهم على النهوض بالأعمال
العظيمة عامة كانت أو خاصة، حتى إذا أردنا أن نقول: إن أثر التعليم الديني في
أهله هو أفضل من أثر التعليم الدنيوي بأهله أو مساوٍ له في شؤون الدنيا ويفضله في
الآخرة قلنا ذلك بقوة تخترق الآذان، وتصيب من النفوس مواقع الوجدان، بل كثيرًا
ما يأتي هذا التعليم بضد ذلك، حتى صارت جميع الطبقات التي يصفونها بالعليا
تتفكه بانتقاد أهله والخوض فيهم.
زار القاهرة في هذه الأيام أستاذ من أساتذة المدارس الإسلامية في روسيا وكان
جل همه البحث عن طرق التعليم الديني وغير الديني فساءه ما رأى في الأزهر من
الفوضى، وفساد طريقة التعليم وزرت معه بعض العظماء فكانوا إذا ذكر الأزهر
وأهله يقولون: إنه لا خير في هذا المكان يرجوه الإسلام وإن أهله (كالخشب
المسندة) وألقاب أشنع لا أحب ذكرها.
والتعليم في الإسكندرية قد أوشك يفضل التعليم في الأزهر بالنظام والمراقبة
والامتحان والمكافأة التي طالب المصلح بها أهل الأزهر وحتمها عليهم بالقانون منذ
عشر سنين أو أكثر فنفروا منها نفارًا، وأصرّ كبراؤهم على رفضها إصرارًا،
ووجدوا لهم من السياسة أنصارًا.
إنه ليسرنا أن ينفذ في الإسكندرية شيء من الإصلاح الصوري مع توجيه
الهمة إلى شيء من الإصلاح المعنوي، وأن يصدق ظن شيخنا الأستاذ الإمام في
الشيخ محمد شاكر ونراه موفقًا إلى السداد في تنظيم معاهد العلم في تلك المدينة،
ولكننا نقول: إن هذا كله لا يكفي في الإصلاح المطلوب الذي يرجى لوقاية الإسلام
ولا مسلمي مصر من الخطر ولا لجذب أولاد الأغنياء إلى هذا التعليم؛ إذ الأغنياء
أحرص الناس على الزمن أن يضيع منه خمس عشرة سنة، أو عشر سنين في معالجة
كتب محدودة في الفنون العربية والفقه الذي صار أكثره غير معمول به، والكلام
الذي معظمه نظريات في مذاهب انقرضت، وهم يرون أنه يقل في معالجي هذه
الكتب من ينجح في فهمها، وأن الذين يفهمونها قلما يوجد فيهم من يفيد الأمة فائدة
لها شأن في ترقيتها، أو الدفاع عن دينها وحقيقتها، بل قلما يوجد فيهم من تصح
عبارته العربية، وكيف يفهم الدين من لا يتقن لغته إتقانًا.
إن توحيد التعليم والتربية في الأمة باشتراك جميع الطبقات فيهما مما يتوقف
عليه تحقق وحدة الأمة وقوتها، وهو أمر يتوقف على وجود زعمام من المسلمين
يعرفون أسبابه فيأتونه من أبوابه وما أبوابه إلا المدارس التي تجمع بين علوم الدين
وعلوم الدنيا مع النظام الذي انتهى إليه رقي البشر الاجتماعي والصناعي. وأعني
بعلوم الدين علوم القرآن والسنة وما فيهما من الحكم والأسرار الموافقة لرقي الأمم في
كل زمان ومكان، ثم ما استفاده سلف الأمة منهما في تفصيل ليس هذا المقال بالذي
يتسع له فأكتفي بهذه الكلمة، كما أكتفي من بيان فوائد النظام بأن مدة تحصيل العلوم
الدينية والدنيوية لا ينبغي أن تزيد فيه عن مدة التحصيل في الأزهر لتلك الكتب التي لا غناء فيها، وهي خمس عشرة سنة، أما العلوم الأزهرية فيكفي لتحصيلها
في غير كتبهم هذه وعلى غير طريقتهم في التعليم خمس سنين.
إذا حسنت حال التعليم في الإسكندرية فإن حسنها يكون تمهيدًا لما يريد
المصلحون من ارتقاء علوم الإسلام فيها، وإن للشيخ محمد شاكر من الفطنة ما
نرجو أن يرتقي به في السلم الذي وضع للأزهر من قبل مع الاستعانة بالأذكياء
العارفين بنظام التعليم كمريدي الأستاذ الإمام الذين عرف لهم حقهم وشكر لهم
صنيعهم بمساعدته في تقريره الأخير. وما وضع للأزهر إنما كان مؤقتًا روعي فيه
ضعف الاستعداد. وكان في عزم المصلح الأول - رحمه الله تعالى - أن يُعد به
القوم إلى نظام أكمل منه تزاد به العلوم ويجعل فيه فرق تختص بإتقان بعضها بعد
الإلمام بجميعها. وسنبين بعض ذلك عند الكلام على التدريس والعلوم.
((يتبع بمقال تالٍ))