للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(مسألة مكدونية)
(أوربا وتركيا - أو الدين والسياسة)
اشتد ضغط دول أوربا على دولتنا في هذه الأيام، يعرضن عليها أن يكون لهن
مراقبون لمالية الولايات المكدونية، ويحملنها على إجابتهن إلى ما طلبن بالتهديد
والوعيد. وما هذه المراقبة التي يطلبن إلا جعل إدارة تلك البلاد - وهي سياج
عاصمة الدولة - أوربية محضة. وقد كنا حين نجم ناجم الثورة في مكدونية من
نحو ثلاث سنين لا نخشى إلا من روسيا لأنها كانت تستعد للحرب فإذا هي تستعد
لليابان التي جعلت استعدادها في البر والبحر هباء منثورًا.
كتبنا في الجزء الأول لسنة المنار السادسة (سنة ١٣٢١هـ) الصادر في ٣٠
مارس سنة ١٩٠٣م نبذة في ثورة مكدونية قلنا فيها ما نصه:
(ولقد كان الإنكليز عون الدولة العثمانية على روسيا فحال لون السياسة
الجامعة بينهما، وتغير شكلها، وتبدل السلطان عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك
يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ، شديد الجشع، قوي الطمع، إذا رأى روسيا وقد جَدَّ جَدُّها يكتفي
منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا يطوف في خاطر عاقل أنه
يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان، إذا نزل مع الروس في ميدان
الطعان) اهـ
وإذ ظهر لنا أن اليابان كفتنا الخوف من روسيا بما نكلت بها وبما أعقبت
حربها إياها من الثورة التي كادت تدمر البلاد الروسية وتذهب بسلطانها المطلق
وتقبض ظله عن الأرض فلنذكر ما كتبناه في تلك النبذة عما نخشاه من أوربا على
تلك البلاد إذا أمنَّا روسيا، وعن اضطراب المسلمين لذلك ثم نقفي عليه بما حدث في
هذه الأيام. قلنا هناك:
كانت قلوب المسلمين في العيدين (أي عيدي سنة ١٣٢٠هـ) محوّمة فوق
بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة
الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من هم مراكش - هم الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله
تعالى) ولا خوف عليها إلا من روسيا فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم
بنيران الثورة اضطرامًا ولا تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة
تنتظر حينئذ استقلال مكدونية أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب
الجديد في سير أوروبا بالمسألة الشرقية -مذهب التفكيك وتحليل العناصر- وهذا
المذهب خير لدول أوربا، وأسهل طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتح والتغلب؛ لأن
هذا يعوز الاتفاق على ما يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة وسفك دماء
عزيزة. وهو خير للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر
ينحل من عناصر بلادهم وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم
كيف يحفظ الباقي. فإذا لم يتعلموا بتكرار النذر وأنواع العبر، وكانوا يفتنون كل
عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، فهم أموات غير أحياء وما
يشعرون أيان يبعثون.
(مسألة مكدونية: مسألة عشواء، والحكم فيها غامض لما تقدم، ولأن
النصارى فيها وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوروبا وما يدانيها
كبلاد الأرمن قد توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوروبا نصيرة لهم وأن
الذريعة الوحيدة لإثارة نعرتها عليهم وتصديها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي
تضطر الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم) اهـ. المراد منه.
ثم كتبنا مقالة في الجزء الحادي عشر الصادر في (غُرة جمادى الثانية) من
تلك السنة (١٣٢١هـ) رجحنا فيه أن استعداد روسيا الحربي، إنما كان لأجل
توقع الحرب مع اليابان، وأن الخوف على دولتنا يومئذ إنما هو من الجانب الذي
كانت ترجوه من قبل وهو إنكلترا وأوضحنا بعض الإيضاح ما عليه أوروبا من
التحامل علينا ولا بأس بذكر شيء من ذلك هنا. قلنا بعد الكلام في عدوان البلغار
وأخذها بمحضاة الثورة في مكدونية تعويلاً على مساعدة بعض الدول:
(أيعقل أن تتحرش بلغاريا الضغيفة بالأسد التركي إلا إذا كانت واثقة بأن
وراءها أسدًا أو أسودًا؟ إذا لم يكن الأسد الروسي الذي أعطى هذه البلاد استقلالها
هو الذي يحميها من قرنه التركي فعلى أي الأسود تعتمد؟ الأقرب عندي أن يكون
الخوف اليوم في موضع الرجاء بالأمس، فإننا لما كنا نسيء الظن بروسيا أحسنا الظن
بالإنكليز حتى توقعنا أن يكون الغرض من زيارة ملكهم لفرنسا الاتفاق معها على
عدم الرضى من روسيا بمحاربة تركيا لكيلا تساعدها فرنسا على ذلك، ولما ترجح
عندنا الآن أن روسيا لا تريد حربًا ولا تضمر غدرًا (أي لنا) انعكس الرأي الأول
وظننا السوء بإنكلترا وتوقعنا أنها قد اتفقت مع فرنسا على النفخ في نار الثورة..
إلى أن قلنا:
إن سلوك أوروبا الجديد في حل المسألة التي يسمونها الشرقية ويعنون بها
الإسلامية سلوك عجيب وأعجب صوره وأغرب أشكاله ما كان من نتيجة محاربة
الدولة العلية لليونان فقد جعلت أوربا الدولة البادئة بالعدوان المغلوبة في ميدان
الطعان، هي الفائزة بالنتيجة إذ جعلت ولي عهدها حاكمًا على ولاية عظيمة من
ولايات الدولة المنتصرة (وهي جزيرة كريت) على أن تكون هي الحافظة والحامية
لتلك الولاية، وما يدرينا لعلهم يريدون الآن سلخ ولايات مكدونية من الدولة بمثل
تلك الطريقة، وهكذا يقطعون في كل مرة عضوًا من جسم الدولة يغذون به من
يرونه أولى به حتى لا يبقى إلا الرأس والقلب فيسهل على الرءوس الاتفاق على
الإيقاع به.
إننا نرى دول أوروبا عابثة في كل حين باستقلال الدولة، ففي كل حادثة
لهم أوامر تطاع ومناهي تجتنب، والدولة راضية، وكل ما تجنيه في بعض الأحيان
لا يخرج عن مراوغة في تنفيذ بعض الأوامر أو إرجائها، وكلما تم للدولة ضرب
من ضروب هذا الظفر الوهمي هتف المغرورون مع الغارّين. نحن أصحاب
السياسة المثلى، والكلمة العليا. فإذا انتهى أجل الإرجاء، وحل اليأس محل الرجاء،
سكتوا واجمين، أو خدعوا أنفسهم معتذرين.
يقول الأوروبيون: إن الذي أذل تركيا وذللها لهم هو ظلمها لمن ليس على
دينها من رعيتها لا سيما النصارى. ولنا أن نقول إن وجدنا سامعًا: إذا كانت هذه
الدولة تظلم المخالفين لها في الدين فلماذا يهرب اليهود من مشرق أوروبا (روسيا)
ومغربها (أسبانيا) إلى بلادها؟ أمن المعقول أن يهرب الناس من ظل العدل إلى
هاجرة الظلم؟ وإذا زعمتم أنها تظلم النصارى خاصة فكيف يعقل أن تظلم المخالف
الذي يجد أنصارًا أقوياء ينتقمون له وتدع من لا ولي له ولا نصير؟ وإذا كانت
أوربا تعبث باستقلال الدولة وتفتات عليها في سياستها الداخلية حبًّا في العدل
بالمظلومين فما بال هذه الرحمة لا تحرك لهم عاطفة على اليهود الذين يستحرّ فيهم
القتل بأيدي النصارى لأنهم يهود؟ ؟ ليس موقفنا مع أوروبا موقف جدال وحجاج
ولكنه موقف قوة وضعف فالقوة تفعل والضعف ينفعل. اهـ المراد منه.
هذا شيء مما كتبناه في المسألة والعهد قريب بظهورها وقد كرت السنين فما
زادت هذه الآراء إلا بيانًا ورجحانًا. وضعت أوربا ضباطًا من جندها يحفظون
الأمن في الولايات المكدونية مع رجال الضبط العثمانيين؛ ليكونوا مطلعين على كل
ما يقع في البلاد ثم أرادت القبض على أزمَّة المالية والإدارة فاقترحت على الدولة
تعيين مندوبين ماليين من الدول العظام يضعون الميزانية للبلاد وينظرون في أمر
العمال والمستخدمين من تولية وعزل ويتصرفون في الجباية والصرف ويكونون
تابعين في أعمالهم لسفراء دولهم.
فخلاصة هذا الاقتراح: أن تكون مالية تلك الولايات وإدارتها في أيدي دول
أوروبا كما أن أمر الأمن في أيديهم وللدولة اسم السلطة والسيادة لا ينازعها فيه
منازع الآن لما عليه أمراء الشرق وملوكه من التفاني في عشق الألقاب.
رفض السلطان قبول هذا الاقتراح الجائر الذي يقلص ظل سلطته عن تلك
الولايات التي هي حظيرة لعاصمة ملكه، فألحت الدول عليه وهددته باحتلال بعض
الجزائر العثمانية التي تقرب من باب الآستانة (الدردنيل) فأصر على الإباء وله
الحق في ذلك، ولكنهم قوم يطمعون في ضعفه.
ما ودع المسلمون رمضان واستقبلوا عيد الفطر إلا وقلوبهم تكاد تنفطر أسى
وحزنًا، وحقدًا، وضغنًا، الأسف والحزن على ما وصلت إليه الدولة الإسلامية
الكبرى من الضعف بإهمال إصلاح بلادها، والحقد والضغن على أوربا المتعصبة
التي تريد محو سلطة المسلمين من أوروبا ثم من الأرض كلها. وقد رأيت من
مسلمي هذا القطر المبارك فوق ما كنت أعتقد فيهم من الغيرة والتألم على الدولة
العلية أعزها الله بالعدل والعلم والإصلاح، ومن البغض لأعدائها خذلهم الله بالتفرق
والتعادي والانقسام.
والرأي عندي وعند كل من تكلمت معهم في هذا الأمر من ذوي الرأي والفكر،
أن إصرار الدولة العلية على رفض ما يطلب الدول منها هو الصواب وأن شر
عاقبة تتوقع له لهي خير منه أو أضعف شرًّا وأقل ضرًّا. إن استيلاء الدول على
تلك الولايات بالقوة بعد مقاومة الدولة لهن لهو خير من تسليمهن إدارة ماليتها بالتهديد
والإنذار والوعيد فإن كلا الأمرين خسران مبين للبلاد وفي الخنوع والاستسلام
للوعيد خسران معنوي أعظم وهو خسران الشرف والاستقلال يقابله في المقاومة مع
حفظ هذا الشرف فوز معنوي عظيم وهو إيقاظ المسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها وإشعارهم بالخطر الذي يتهدد سلطتهم من حيث هم مسلمون ولا شيء أنفع
لهم في هذا العصر من هذه اليقظة والشعور وقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله
تعالى - يقول: إن الحرب العثمانية الروسية الأخيرة قد كانت هي المبدأ لهذه
الحركة الفكرية العامة في المسلمين، وإن كان البلاء لينزل من قبل هذه الحرب في
القطر الإسلامي فلا يهتز له القطر الذي يجاوره دع البعيد عنه الذي انقطعت دونه
أخباره، وقد صرنا نرى المسلمين في كل قطر يتألمون لما يصيب إخوانهم في سائر
الأقطار لا سيما إذا كان المصاب من اعتداء الأجانب عليهم.
إن ساسة أوربا يقدرون هذه الحركة التي أشار إليها حكيمنا قدرها،
ويحيطون بما لم نحط به من خبرها، لذلك أجمعوا كيدهم على ذبح العفريت بسيفه
الخشبي [*] إذ يتعذر قتله بسواه أعني أن يزيلوا السلطة الإسلامية من الأرض بنفوذ
رؤسائها من السلاطين والأمراء، يدخلون في أمر الواحد منهم ويدعونه إلى ما
يريدون، فينالون به نيلهم والمسلمون وادعون ساكنون، يحسبون أن أولي أمرهم
منهم وأنهم لأمرهم يخضعون، فمثل أوربا في سياستها هذه وفي انتقاصها الممالك
الإسلامية من أطرافها كمثل الطبيب يخدر العضو ويقطعه حتى لا يشعر صاحبه
بشدة الألم، ولكن الطبيب يعمل هذا لمصلحة الجسم وهم يعملونه لمصلحة أنفسهم
بإعدامه بل التهامه.
يقول قوم: إن الدافع لأوربا على هذا هو التعصب على الإسلام ولذلك لا
نرى الدول النصرانية تتفق على العبث باستقلال دولة نصرانية فيجب أن يقابل
المسلمون ذلك بالتعصب على النصارى كافة. ويقول آخرون: إن أوربا بريئة من
التعصب الديني الذي لا يعرف في غير الشرق وإنما هي المصالح السياسية لا
مذهب لها ولا دين ولذلك ينتصر الإمبراطور غليوم النصراني للخليفة المسلم
العثماني وتطارد حكومة فرنسا الرهبان وتتبرأ من الكنيسة. والصواب في المسألة
أن أوربا لا تتعصب على المسلمين من حيث هم مسلمون يقرون لله بالوحدانية ولمحمد
- صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ويصلون إلى الكعبة ويعبدون الله تعالى
على غير الطريقة التي يعبده بها سواهم، وإنما تتعصب عليهم؛ لأن لهم سلطة
ودولاً فالذين سموا تعصبها سياسيًّا قد صدقوا، والذين سموه دينيًّا لم يكذبوا، فإذا
كان لا يهمها أمر الدين الإسلامي من حيث هو اعتقاد وعبادة، فأكبر همها أن لا
يكون له سلطان ولا سيادة، ألا يجدر بالمسلمين إذًا أن يحرقوا عليها الأرم،
ويعتقدوا أن شرف سلطتهم لا يسلم (حتى يراق على جوانبه الدم) بلى وإنما
موضع الخطأ أن يحاولوا الانتقام من الذميين والمسالمين، والله تعالى يقول:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) فإيذاؤنا النصارى في بلادنا عصيان لديننا وخراب لدنيانا.
إذا كان المسلمون قد شعروا شعورًا صحيحًا بالخطر الذي ينذر سلطتهم،
والبلاء الذي يتهدد ملتهم، فعليهم أن يعرفوا كيف يقاومون العدوان بمثله؛ لأن الله
تعالى يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (البقرة: ١٩٤) أي ولا تبغوا، وإنما تعتدي علينا أوروبا بقوة أمتها، وعلمها
وصناعتها، ونظامها وثروتها، ودهائها وحكمتها، ولذلك تستفيد مما بقي لنا ما لا
نستفيد. فما دمنا على هذا الجهل والخلل، والتفرق والفشل، فإننا لا يمكن أن نقف
أمام أوربا. فإذا لم يظفروا بمكدونية تمام الظفر في هذه المرة، فإنهم يظفرون بها
وبغيرها إذا أعادوا الكرة، ولنا فيما مضي عِبرة وأي عبرة، بماذا تقاومهم؟
رؤساؤنا مستبدون، وحكامنا ظالمون، وعلماؤنا جامدون، وأغنياؤنا ممسكون،
وخواصنا مترفون، وعوامنا جاهلون، فإذا رضينا لأنفسنا بهذا فإننا نكون من الذين
يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولا ينطبق علينا قول ربنا {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون} (الأنبياء: ١٠٥)
فعلينا أن نبذل المال ونجمع شمل الرجال، لنرقي الأمة فتُلزم الحكام بإصلاح
الحال، فإن العصر عصر الأمم لا عصر الأفراد وعصر النظام والاجتماع لا عصر
الاستبداد.
***
(وفاة الشيخ عبد القادر الرافعي)
الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير أشهر فقهاء الحنفية في الأزهر، بل في البلاد
العربية كلها، أتقن المذاهب تعلمًا وتعليمًا وتأليفًا وعملاً بالمحاكم الشرعية؛ فقد كان
رئيس المجلس العلمي في المحكمة الشرعية بمصر. وقد وقع اختيار الحكومة على
ترشيحه لمنصب الإفتاء، فسمي مفتيًا للديار المصرية في أوائل رمضان الماضي،
فلم يلبث أن توفي فجأة ليلاً، وهو في مركبته يقصد زيارة أحد نظار الحكومة،
والناس يقصدون داره لتهنئته فاستحال السرور بالمنصب عند أهله حزنًا، وتحولت
تهنئتهم به تعزية لهم عنه وشيع جنازته مع العلماء والوجهاء نظار الحكومة، وبعض
كبار حاشية الأمير، وصُلي عليه في الجامع الأزهر ودفن في قرافة المجاورين،
وكان ذلك اليوم موعد نشر خبر تعيينه مفتيًا في الجريدة الرسمية فلم ينشر.
آل الرافعي في غنى عن التعريف فعلماؤهم وأدباؤهم وخدمة الحكومة
منهم كثيرون في وطنهم (سوريا) ومهاجر الكثيرين منهم مصر, وكان الشيخ عبد
القادر رحمه الله تعالى كبيرهم في العلم والوجاهة ومن ذوي الدرجة الأولى
في الأزهر , ومما كان يمتاز به على أكثر الشيوخ البحث في الأمور العامة وكثرة
السؤال عن أحوال الدولة، وكان بعيدًا من الفتن والخوض في الناس وقورًا،
مهيب المجلس، ذا أخلاق شريفة , حافظًا لكرامة العلم , محترمًا عند أهل الدنيا
كاحترامه عند أهل الدين , تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه، وأحسن عزاء
ولده وأهله وأسرته الكريمة عنه.
***
(إحياء سنة أزهرية)
كان من عادة أهل الأزهر إذا مات عالم منهم أن يجتمعوا في الأزهر يوم جمعة
بعد موته لقراءة ختمة يهدى ثوابها إلى روحه ولإنشاد المراثي التي يرثيه بها الشعراء
منهم فأبطل الإصلاح هذه العادة مع عادات أخرى مثلها، ولكن شيخ الأزهر الشيخ
عبد الرحمن الشربيني أمر بالعودة إلى هذه العادة التي سماها المؤيد (سنة حسنة)
فاجتمع الأزهريون لرثاء الشيخ عبد القادر الرافعي - رحمه الله تعالى - في الجامع
الأزهر وحضر الاجتماع خلق كثير فقرءوا وأنشدوا مرثية لبعض الشيوخ، ثم وزعوا
على الحاضرين شيئًا من الحمص والزبيب كان يتناثر منهم في المسجد وهو من تمام
سنتهم التي أحييت بعد أن ماتت، وإنه ليغلب على ظني أن الرافعي - رحمه الله
تعالى - لو كان حيًّا واستشير في إحياء هذه السنة لأشار بعدم إحيائها، ولما سماها
سنة حسنة بل بدعة سيئة، وإذا كانت أمثال هذه السنن صارت تحيا بعد موتها فبشر
المسلمين بحياة العلم والدين.