للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من دمياط
تتعلق بقصة المولد النبوي

من الشيخ محمد عبد الفتاح المدرس ببعض مدارس دمياط قال بعد الثناء
والتحية:
جاء إلى مدينة دمياط ليلة النصف من شعبان رجل (من الأشراف) المنتسبين
للعلم، وقصد أشهر مسجد ومدرسة دينية بها (جامع البحر) حيث اجتمع خلق
كثير لرؤية ما أعده أرباب الطرق به من الاحتفال بهذه الليلة، وبعد صلاة العشاء
أخذ القوم مجالسهم فقام هذا الرجل وجلس على كرسي مرتفع أعد لتدريس شيخ
العلماء (وقد قرأ علينا هنا درسين فقيد الإسلام والشرق المرحوم الشيخ محمد عبده
حينما كان بمصيف رأس البر في السنة الماضية) وابتدأ يسرد فوائد جمة لسماع
قصة المولد النبوي ثم سرد ما لا أذكر منه على كثرته غير ما يأتي:
(١) أن أول ما خلق الله نور نبينا - صلى الله عليه وسلم - ومنه استمد
جميع مخلوقاته.
(٢) أن الله تعالى حينما زوج آدم بحواء قام في الملائكة خطيبًا معلنًا بذلك
ثم فرض عليه صداقًا صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة مرة وقد
صدع بالأمر غير أنه لم يستطع إكمال العدد بل انقطع نفَسه عند إتمام السبعين فأقاله
الله من الباقي وجعل ذلك سببًا في جعل الصداق قسمين مقدم ومؤخر.
(٣) أن جميع الوحوش البرية والبحرية بشَّر بعضها بعضًا ليلة الحمل
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ونطقت بذلك بلسان عربي مبين.
(٤) أن مريم حضرت ليلة ولادة النبي مع سارة وآسية لأنهم زوجاته في
الجنة.
(٥) أن العلماء اختلفوا في أمر آسية فقيل: إنها لم تكن ماتت إلى هذا الحين
لأنها رفعت إلى الجنة حيث استغاثت بالله من فرعون وعمله وقيل: إن الله أحياها لهذا
الغرض والأول أصح.
(٦) أن من يعتقد أن أحد الأنبياء ولد من الفرج يكون كافرًا لأنهم جميعًا
ولدوا من ثقب في الجنب الأيسر.
(٧) أن النبي وجميع الأنبياء أحياء في قبورهم حياة كحياتنا هذه لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (أنا في قبري حي طري) وقوله: (نحن معاشر الأنبياء
أحياء في قبورنا) .
ومن الأدلة المحسوسة (تأمل) على ذلك أن عليًّا - رضي الله عنه - حمل
زوجته فاطمة بعد موتها على يديه وأتى بها إلى القبر الشريف، وقال: يا رسول الله
هذه فاطمة الزهراء بضعتك الطاهرة قد جادت بروحها إلى الله في هذا اليوم، وقد
جئت بها إليك لتزورك فانفتح القبر (سبحانك هذا بهتان عظيم) ومد النبي يديه فتلقاها
من علي وأضجعها بجانبه، وقيل: إنه ردها إليه فدفنها بالبقيع، ولذلك ترى الناس
يزورونها بالمكانين عملاً بالروايتين.
وأن سيدي أحمد الرفاعي حين زار القبر الشريف أنشد هذين البيتين. ... ...
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فمدّ النبي يده الشريفة إليه أمام الحاضرين فقبَّلها.
(٨) أن عدد الأنبياء ونجوم السماء كعدد شعر لحية النبي - صلى الله عليه
وسلم - ١٢٤٠٠٠.
هذا يا مولاي قليل من كثيرة مما قصه هذا الرجل في تلك الليلة أمام المئات
من المسلمين عامتهم وخاصتهم، وفضيلة شيخ العلماء ساكت لا يبدي أقل اعتراض
على هذا الكلام مع ما عرف عنه من الغيرة على الدين ومحاربته لمثل هذه العقائد
التي حشرها القاصون في الدين فشوهوا بها وجهه الجميل.
لو كان هذا الرجل من العامة لسكتنا ولكنه معدود ضمن العلماء في قرية
المنزلة، وقد خطب أمام أمير البلاد هناك وصلى خلفه فريضة الجمعة سمعت ذلك
من بعض أهل المنزلة.
وقد رفع حضرة الفاضل مكاتب المقطم أمر الرجل إلى فضيلة شيخ الأزهر
وطلب منه إعلان رأيه في جميع ذلك وما نظنه إلا مبرئًا للدين من هذه الأضاليل
وسيكتب جواب فضيلته بجريدة المقطم. وكتب حضرة الفاضل مكاتب البصير
بجميع ذلك إلى جريدته أما مكاتبي الجرائد الإسلامية فلم يكتبوا شيئًا من ذلك.
لهذا نرجوكم توضيح رأيكم في ذلك خدمة للدين وأهله، والسلام.
***
جواب المنار
لو أن مدرسًا عالمًا مفسرًا محدثًا على صراط السلف الصالح قعد مقعد ذلك
الرجل المختلق على الله، ورسوله، ودينه، ونهى الناس عن بعض البدع الفاشية
والظلمات الغاشية، وفسر لهم النصوص التي تنهى عن جعل الصالحين لله أندادًا،
وجعل قبورهم أعيادًا، والأحاديث التي تلعن الذين اتخذوا القبور مساجدًا، وشرَّفوها
وأوقدوا عليها السرج، وهداهم إلى رفض البدع، والوقوف عند حدود السنن -
لزلزلت به الأرض زلزالها، ووجهت إليه العامة أنكالها، ولوجد ممن يُعرفون
بالخاصة من ينصر الجهلة عليه، ومن أصحاب الجرائد التي تُدعى إسلامية من
يفوق السهام إليه، ولكادت له السياسة وناصبته منصات الرياسة، أما أمثال هذا
المدرس فكثيرون لا سيما من المسجد الحسيني في العاصمة حيث يكثر تردد العلماء،
والمحافظين على الرسوم الدينية من الكبراء، لا سيما في شهر رمضان، ومن هؤلاء
المدرسين من يبيع البطائق للنجاة من النار، ويعلم الناس مكفرات الأوزار، ومنهم
من يبيع النشرة والحجاب لقضاء الحاجات وشفاء الأوصاب، ومنهم من يدلي
الناس بغرور، ويحوّلهم عن النور إلى الديجور، ولا منع ولا استنكار، ولا تعجب
ولا استكبار، وقد صاح من سنين صائح بهذه البدع ففرقها بتفريق الناس عنها،
ودعا إلى السنة الصحيحة فجذب إليها وأدنى منها، فاضطرب لصيحته سدنة القبور،
وأكلة ما يقدم إليها من الهدايا والنذور، ووسوسوا في شأنه لبعض المتحمسين من
العوام، وقالوا: إنه ينكر نفع عمود الرخام، هو عموم من أعمدة المسجد الحسيني
ينسب إلى السيد البدوي ويستشفي الناس بالتمسح به، وينكر صحة حديث (لو
اعتقد أحدكم بحجر لنفعه) ويقول بجهالة من اختلقه بزعمه ووضعه، فتألب الناس
على داعي السنة، كاد يبتلى بما ابتلي به الأئمة من المحنة، فلا تعجبوا لما سمعتم
فمثله كثير، والأمر لله العلي الكبير.
أما المسائل التي لخصتم بها قول ذلك المدرس فبعضها باطل بإجماع المسلمين
لم يقل به أحد منهم يعتد بقوله ومنها ما جاءت فيه روايات كاذبة أو واهية أو لا يحتج
بها في أمر اعتقاد يشترط الإذعان له في صحة الإيمان أو يعد إنكاره كفرًا ولا في
الأحكام التي يكتفي فيها بالظن، وإنما تساهل الجماهير بمثله في باب الفضائل
والمناقب. وما اختيار الناس أمثال هذه الروايات في قصة المولد إلا لجهلهم بما
أعطى الله خاتم الرسل والنبيين من المزايا التي فضل بها الأولين والآخرين،
جهلوا الفضائل الواضحة اليقينية، فاستبدلوا بها تلك الأقاويل الواهية والوضعية،
وقلما تجد في هؤلاء الغالين في الإطراء عالمًا بالحديث يعرف ما صح منه وما لم
يصح أو عالمًا بأصول العقائد يقيم البرهان عليها ويقدر على الدفاع عنها، أو عاملاً
متبعًا لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتصمًا بالإخلاص والتقوى. إن هم إلا
أصحاب أوهام، وشقاشق يتقربون بها من العوام، وإننا نشير إلى أجوبة تلك الأسئلة
بالتفصيل الذي يتسع له الباب.
***
١- مسألة خلق كل شيء من نور النبي صلى الله عليه وسلم
وأول من خلق الله
(ج٢٤) قولهم: إن أول ما خلق الله نور نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا
تكاد تجده في غير هذه القصص التي يسمونها الموالد إلا قليلاً يروونه عن عبد
الرزاق وليس في الأيدي نسخة من جامعه أو مصنفه ولا هو مما يتلقاه أهل العصر
بالرواية فيعتد بنسبته إليه، فالعمدة في قبول ما خرجه رواية الحفاظ بعده عنه وأجمعهم
للأحاديث الحافظ السيوطي ولم يذكر هذه الرواية في الخصائص الكبرى التي جمع
فيها كل ما ورد في خصائصه عليه الصلاة والسلام من صحيح وغير صحيح ولا
في الجامع الكبير أو جمع الجوامع وهو الذي قال أنه لم يترك حديثًا مرويًّا إلا أودعه
فيه وإنما أورد الرواية في كونه صلى الله عليه وسلم كان نبيًّا بين خلق آدم ونفخ
الروح فيه، ولا شيء منها في الصحيحين ولا في السنن الأربع وأقواها حديث ميسرة
الفجر عند أحمد والبخاري في تاريخه (لا في صحيحه) والطبراني والحاكم
والبيهقي وأبي نعيم قال متى كنت نبيًّا؟ قال صلى الله عليه وسلم (وآدم بين الروح
والجسد) . وحديث العرباض بن سارية عند أحمد والحاكم والبيهقي قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم
النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته) .
قال في المواهب: وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيًّا وآدم بين الماء
والطين: فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه (المقاصد الحسنة)
لم نقف عليه بهذا اللفظ , انتهى. قال الزرقاني في شرحه: أي انتهى ما نقله من
كلام شيخه وبقيته (فضلاً عن زيادة: وكنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين) قال
شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر في بعض الأجوبة عن الزيادة: إنها ضعيفة، والذي
قبلها قوي، ولعله أراد بالمعنى وإلا فقد صرح السيوطي في الدرر بأنه لا أصل لهما،
والثاني من زيادة العوام وسبقه لذلك الحافظ ابن تيمية فأفتى ببطلان اللفظين وأنهما
كذب وأقره في النور والسخاوي نفسه في فتاويه أجاب باعتماد كلام ابن تيمية في
وضع اللفظين قائلاً وناهيك به اطلاعًا وحفظًا أقر له بذلك المخالف والموافق. قال:
وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا، وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد
استحضارًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه ولسانه بعبارة رشيقة وعين
مفتوحة، انتهى.
وقد فسر بعض العلماء المتقدمين أمثال هذه الأحاديث بأنها أخبار عما في علم
الله تعالى ولم يرضه التقي السبكي. قال السيوطي في الخصائص:
فإن قلت: أريد أن أفهم هذا القدر الزائد فإن النبوة وصف لا بد أن يكون
الموصوف به موجودًا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة فكيف يوصف به قبل
وجوده وقبل إرساله؟ وإن صلح ذلك فغيره كذلك؟ (قلت) قد جاء أن الله تعالى
خلق الأرواح قبل الأجساد فقد تكون الإِشارة بقوله: (كنت نبيًّا) إلى روحه الشريفة
أو إلى حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها وإنما يعلمها خالقها ومن أمده بنور
إلهي ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء
فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم آتاه الله ذلك الوصف بأن
يكون خلقها متهيئة لذلك وأفاضه عليها من ذلك الوقت فصار نبيًّا. اهـ المراد منه
ثم أورد بعد هذا التأويل بأنه كان نبيًّا في العلم الإلهي وهو ظاهر في حديث
العرباض الذي يؤيده حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم: (إن الله
عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة
ومن جملة ما كتبه في الذكر وهو أم الكتاب أن محمدًا خاتم النبيين) والشاهد قوله
أن حقيقة نبينا قد تكون مخلوقة قبل خلق آدم ولو كان هناك حديث يثبت أن نور
النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - خلق قبل كل شيء لاحتج به ولم يدع أن حقيقة
الإنسان هي شيء غير روحه وجسده ويبني جوابه الثاني على احتمال أن تكون حقيقة
النبي صلى الله عليه وسلم خلقت قبل حقيقة آدم. وهذا الحافظ أبو نعيم وهو
قبل السيوطي لم يذكر ذلك الحديث في كتابه (دلائل النبوة) الذي جمع فيه كل ما
رووه في هذا الشأن.
وإذا رجعت إلى استقصاء ما رووه في خلق العالم تراهم أهملوا ذلك الحديث
ورووا ما يخالفه كحديث عبادة بن الصامت عند أبي داود والترمذي (إن أول ما
خلق الله القلم) الحديث وهو عند ابن أبي شيبة وأبي نعيم في الحلية والبيهقي عن
ابن عباس (إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء يكون) وعند البيهقي
في الصفات عن ابن عمر، وحديث أبي هريرة عن أحمد والحاكم (كل شيء خلق
من الماء) لعل المراد كل شيء حي كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍّ} (الأنبياء: ٣٠) . ولهذه الأحاديث أحاديث تعارضها وليس فيها شيء قطعي
الثبوت والدلالة، والقرآن صريح في أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففصلهما
وخلقهن من مادة تشبه الدخان.
ثم إن لحديث عبد الرزاق تتمة فيها أن ذلك النور تجزأ مرات إلى أجزاء خلق
منها القلم واللوح والعرش والكرسي والملائكة والسماوات والأرضين والجنة والنار
ونور أبصار المؤمنين ونور قلوبهم فمعناه الظاهر أن الله خلق من نوره شيئًا وخلق
من هذا الشيء سائر الأشياء حتى نار جهنم والأرض وما فيها من الجماد والنبات
والحيوان فما معنى كون ذلك الشيء الأول نور محمد - صلى الله عليه وسلم -
الذي هو فرد من الأحياء الذين خلقهم الله في هذه الأرض التي هي من أصغر
الكواكب التي لا يعلم عددها إلا خالقها؟ وما نسبة هذا الفرد الكريم إلى ذلك الخلق
العظيم الذي منه العرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة والسموات
والأرض والجنة والنار؟ ظاهر الحديث أن المخلوقات كلها هي نور محمد صلى
الله عليه وسلم كله وهو من المخلوقات بالضرورة فما هي نسبته إلى سائرها أي ما
هي نسبة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي القرشي الذي بعثه الله تعالى نبيًّا
منذ نحو ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن إلى جميع المخلوقات؟ هل هو جزء منها
أو كل لها وهي أجزاء له فيقال إن حقيقة محمد هي مجموعة الكائنات ومجموعة
الكائنات هي محمد بن عبد الله الذي ولد من نحو أربعة عشر قرنًا صلى الله عليه
وسلم؟ ثم ما معنى كون هذا من نور الله، وإذا سلمنا بظاهر هذا الحديث فبماذا نُحاجّ
من نسميهم كفارًا إذا قالوا: إن واجب الوجود قد انقسم فكان هذه الأنواع من
الكائنات؟ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠) {وَلاَ
يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: ٨٠) .
هذا الحديث حديث جابر المروي عن عبد الله لا أصل له وليس فيه تعظيم
لخاتم النبيين، ورحمة الله تعالى للعالمين، بل هو مثار شبهات وشكوك في الدين
يعسر تأويلها بما يقبله عقلاء الباحثين.
] وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ (آل عمران: ١٤٤)
وما الرسل إلا بشر مثلكم، يوحى إليهم ما فيه هداية لكم وما البشر إلا جند قليل
من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو قال فيهم: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: ٧٠) ورفع بعضهم فوق بعض درجات وجعل أفضلهم
أنفعهم لعباده ففضيلة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على الناس أنه اختاره
من خلقه لهداية جميع الناس في طور ارتقائهم واستعدادهم لاتصال بعضهم ببعض
فهو- صلى الله عليه وسلم - أنفع الناس للناس ولو كان هو الأصل لجميع
المخلوقات وفرضنا أن هذا معقول وأنه تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا أن نعقله
لصرح بذلك في كتابه المبين، الذي ما فرط فيه في شيء من مهمات الدين، أو
لروي برواية صححها جماهير المحدثين، وكل ذلك لم يكن فانفراد عبد الرزاق بهذا
لا يكفي في القول بهذه المسألة التي لا يتصورها عقل، ولا يشهد لها نقل، فإن
عبد الرزاق وإن احتج كثيرون بحديثه وروى عنه الأئمة وبجلوه قد جرحه مسلم
وغيره وإليك بعض ما قالوا فيه.
قال الإمام أحمد: أتينا عبد الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر ومن سمع
منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السماع. وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه
بآخره روي عنه أحاديث مناكير. وقال ابن عدي: حدث بأحاديث في الفضائل لم
يوافقه عليها أحد ومثالب لغيرهم مناكير ونسبوه إلى التشيع. وقال الدارقطني: ثقة
لكنه يخطئ على معمر في أحاديث. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن
عبد الرزاق يفرط في التشيع؟ قال: أما أنا فلم أسمع منه شيئًا ولكن كان رجلاً يعجبه
أحاديث الناس. وقال محمد بن عثمان الثقفي البصري: لما قدم العباس بن عبد العظيم
من صنعاء من عند عبد الرزاق أتيناه فقال لنا: ألست قد تجشمت الخروج إلى عبد
الرزاق ورحلت إليه وأقمت عنده؟ والله الذي لا إله إلا هو إن عبد الرزاق كذاب
والواقدي أصدق منه. أورد الحافظ الذهبي هذا ثم قال: قلت: هذا ما وافق العباسَ
عليه مسلم بل سائر الحفاظ، وأئمة العلم يحتجون به إلا في تلك المناكير المعدودة
في سعة ما روي.
وقال الذهبي في أحمد بن عبد الله ابن أخت عبد الرزاق: قال ابن حبان: كان
يدخل على عبد الرزاق الحديث، فكل ما وقع في حديث عبد الرزاق من المناكير
فبليته منه وقد تقدم ذكره كذبه أحمد والناس.
***
٢- مسألة مهر حواء من آدم
(ج ٤٣) ما ذكره في ذلك كذب صريح لا حاجة لإطالة الكلام في رده؛ إذ لا
شبهة فيه على الدين فترد، ولا شبهة عليه فتكشف ولم ينقله محدث فينظر في سنده
وإنما وردت رواية ضعيفة في أمره بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات أو عشرين مرة.
***
٣- بشارة الوحوش بحمله صلى الله عليه وسلم
(ج ٤٤) إن الأثر الذي يذكرونه في نطق الدواب والوحوش ليلة حمله -
صلى الله عليه وسلم - قد أخذه واضعو قصص المولد من رواية أبي نعيم وهو منكر
جدًّا أورده السيوطي في الخصائص الكبرى، وأنكره مع أثرين آخرين وهذه الآثار
الثلاثة قد جمعت أكثر المنكرات في قصص المولد وإننا نوردها بنصها ليعلم القراء
أنه لم يصح منها شيء فلا يغتروا بأصحاب العمائم العجراء إذا قرأوها وأجازوها قال:
(١) أخرج أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبي - وكان من أوعية
العلم - قال: (لما حضرت ولادة آمنة قال الله لملائكته: افتحوا أبواب السماء كلها
وأبواب الجنان كلها وأمر الله الملائكة بالحضور فنزلت تبشر بعضها بعضًا،
وتطاولت جبال الدنيا وارتفعت البحار وتباشر أهلها فلم يبق ملك إلا حضر. وأخذ
الشيطان فغلّ سبعين غلاًّ، وألقي منكوسًا في لجة البحر الخضراء، وغلّت
الشياطين والمردة، وألبست الشمس يومئذ نورًا عظيمًا وأقيم على رأسها سبعون
ألف حوراء في الهواء ينتظرن ولادة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وكان أذن
الله تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورًا كرامة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -
وأن لا تبقى شجرة إلا حملت، ولا خَوْف إلا عاد أمنًا؛ فلما ولد النبي - صلى الله
عليه وسلم - امتلأت الدنيا كلها نورًا وتباشرت الملائكة وضرب في كل سماء عمود
من زبرجد وعمود من ياقوت قد استنار به فهي معروفة في السماء، قد رآها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، قيل: هذا ما ضرب لك استبشارًا
بولادتك.
وقد أنبت الله ليلة ولد على شاطئ نهر الكوثر سبعين ألف شجرة من المسك
الأذفر جعلت ثمارها بخور أهل الجنة وكل أهل السماء يدعون بالسلامة ونكست
الأصنام كلها وأما اللات والعزى فإنهما خرجتا من خزانتهما وهما تقولان: ويح قريش
جاءهم الأمين جاءهم الصديق لا تعلم قريش ماذا أصابها. وأما البيت فأيامًا سمعوا
من جوفه صوتًا وهو يقول: الآن يرد عليّ نوري، الآن يجيئني زواري، الآن
أطهر من أدناس الجاهلية، أيتها العزى هلكت. ولم تسكن زلزلة البيت ثلاثة أيام
ولياليهن. وهذه أول علامة رأت قريش من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(٢) وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس قال: (كان من دلالات حمل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل دابة كانت لقريش نطقت في تلك الليلة، وقالت:
حمل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورب الكعبة وهو أمان الدنيا وسراج
أهلها ولم تبق كاهنة في قريش ولا في قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن
صاحبتها وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح
منكوسًا والملك مخرسًا لا ينطق يومه ذلك. ومرت وحش المشرق إلى وحش
المغرب بالبشارات وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضًا، وله في كل شهر من
شهوره نداء في الأرض ونداء في السماء: أن أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج
إلى الأرض ميمونًا مباركًا، قال: وبقي في بطن أمه تسعة أشهر كاملة لا تشكو وجعهًا
ولا ريحًا ولا مغصًا ولا ما يعرض للنساء من ذوات الحمل، وهلك أبوه عبد الله
وهو في بطن أمه، فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا بقى نبيك هذا يتيمًا فقال الله:
أنا له وليّ وحافظ ونصير. وتبركوا بمولده فمولده ميمون مبارك. وفتح الله لمولده
أبواب السماء وجنانه، فكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مر بي
من حمله ستة أشهر فوكزني برجله في المنام وقال لي: يا آمنة إنك قد حملت
بخير العالمين طُرًّا فإذا ولدتيه فسميه محمدًا. فكانت تحدث عن نفاسها وتقول: لقد
أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم فسمعت وجبة شديدة وأمرًا عظيمًا
فهالني ذلك فرأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني كل رعب
وكل وجع كنت أجد، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء لبنًا وكنت عطشى فتناولتها
فشربتها فأضاء مني نور عالٍ ثم رأيت نسوة كالنخل طوالاً كأنهن من بنات عبد مناف
يحدقن بي فبينا أنا أعجب وإذا بديباج أبيض قد مدّ بين السماء والأرض وإذا بقائل
يقول: خذوه عن أعين الناس، قال: ورأيت رجالاً قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق
من فضة، ورأيت قطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي مناقيرها من الزمرد
وأجنحتها من اليواقيت فكشف الله عن بصري وأبصرت تلك الساعة مشارق الأرض
ومغاربها ورأيت ثلاثة أعلام منصوبات علمًا في المشرق وعلمًا في المغرب وعلمًا
على ظهر الكعبة فأخذني المخاض فوضعت محمدًا - صلى الله عليه وسلم، فلما
خرج من بطني نظرت فيه فإذا أنا به ساجدًا قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل
ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيب عن وجهي. وسمعت
مناديًا ينادي: طوفوا بمحمد شرق الأرض وغربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه
ونعته وصورته ويعلموا أنه سُمي فيها الماحي لا يبقى شيء من الشرك إلا مُحي في
زمنه.
ثم تجلت عنه في أسرع وقت فإذا أنا به مدرج في ثوب صوف أبيض وتحته
حريرة خضراء وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب، وإذا قائل يقول: قبض محمد على مفاتيح النصرة ومفاتيح الريح ومفاتيح النبوة. ثم أقبلت سحابة
أخرى يسمع منها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة حتى غشيته فغيب عن عيني
فسمعت مناديًا ينادي: طوفوا بمحمد الشرق والغرب ومواليد النبيين
واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والطير والسباع وأعطوه صفاء آدم
ورقة نوح وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل وبشرى يعقوب وجمال يوسف وصوت داود
وصبر أيوب وزهد يحيى وكرم عيسى واغمروه في أخلاق الأنبياء. ثم تجلت عنه
فإذا أنا به قد قبض على حريرة خضراء مطوية؛ وإذا قائل يقول: بخ بخ قبض محمد
على الدنيا كلها لم يبق خلق من أهلها إلا دخل في قبضته وإذا أنا بثلاثة نفر في يد
أحدهم إبريق من فضة وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء وفي يد الثالث حريرة
بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتمًا تحار أبصار الناظرين دونه فغسله من ذلك الإبريق
سبع مرات ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ولفه في الحريرة ثم حمله فأدخله بين أجنحته
ساعة ثم رده إلي) .
(٣) وأخرج أبو نعيم بسند ضعيف عن العباس قال لما ولد أخي عبد الله
وهو أصغرنا [١] كان في وجهه نور يزهر كنور الشمس، فقال أبوه: إن لهذا الغلام
لشأنًا فرأيت في منامي (أنه خرج من منخره طائر أبيض) فأتيت كاهنة بني مخزوم
فقالت لي: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبه ولد يصير أهل المشرق والمغرب
له تبعًا، فلما ولدت آمنة قلت لها: ما الذي رأيت في ولادتك؟ قالت: لما جاءني
الطلق واشتد بي الأمر سمعت جلبة وكلامًا يشبه كلام الآدميين ورأيت علمًا من سندس
على قضيب من ياقوت قد ضرب ما بين السماء والأرض ورأيت نورًا ساطعًا من
رأسه قد بلغ السماء ورأيت قصور الشام كلها شعلة نار ورأيت قربي سربًا من
القاطا قد سجدت له ونشرت أجنحتها ورأيت تابعة سعيرة الأسدية قد مرت وهي تقول:
ما لقي الأصنام والكهان من ولدك هذا؟ هلكت سعيرة والويل للأصنام ورأيت شابًّا أتم
الناس طولاً وأشدهم بياضًا فأخذ المولود مني فتنفل في فيه ومعه طاس من ذهب
فشق قلبه شقًّا ثم أخرج لبه فشقه شقًّا فأخرج منه نكته سوداء فرمى بها ثم أخرج صرة
من حرير أبيض ففتحها فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة وألبسه قميصًا فهذا
ما رأيت.
أقول: هذه الآثار الثلاثة هي ينبوع خرافات قصة المولد والثاني منها يذكرونه
برمته في أكثرها وقد قال السيوطي بعد إيرادها هنا ما نصه:
(هذا الأخير والأثران قبله فيها نكارة شديدة ولم أورد في كتابي هذا أشد
نكارة منها ولم تكن نفسي لتطيب بإيرادها لكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك) .
هذا كلام السيوطي على تساهله في الجمع وأقول: إن أبا نعيم لم يذكر هذه
الآثار الواهية في كتابه دلائل النبوة على ما فيه من الروايات الضعيفة والمنكرة كما
ترى في النسخة المطبوعة منه فكان ينبغي أن يتبعه في ذلك لأن الخصائص
كالدلائل مؤلفة في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن ذكره لها مع براءته
منها كان خيرًا من السكوت عنها. وعبارته تدل على أنه أورد في الخصائص كثيرًا
من الروايات المنكرة وهو كذلك. وقد ذكر بعد الآثار الثلاث رواية مخزوم ابن هانئ
عن أبيه عند البيهقي وأبي نعيم وفيها أنه ارتجس ليلة المولد إيوان كسري وسقطت
منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس وغاضت بحيرة ساوة وفيها رؤيا الموبذان
وحكاية سطيح الكاهن وقال في آخرها: قال ابن عساكر: حديث غريب لا نعرفه إلا
من حديث مخزوم عن أبيه تفرد به أبو أيوب البجلي: أي وما تفرد به لا يحتج به.
وتذكر هذه الآثار في بعض القصص والكتب بعبارات مختلفة بزيادة ونقص
ولا يلتفت إلى شيء منها فإن العبرة بما يروي المحدثون، لا بما يهذي به
القصاصون، هذا وإذا أردنا أن نبحث في هذه الآثار من جهة موضوعها وحفظ
المشركين في الجاهلية وسائر الأمم لها إلى أن ظهر الإسلام، فإننا نجد فيها ما لا تقبل
معه فإن أمثال هذه الغرائب من شأنها أن تستفيض وينقلها الجماهير ولم يرو أن أحدًا
من المشركين آمن لأجلها، ولم يروها أهل الصحاح كالبخاري ومسلم بل تركوها لعدم
الثقة برواتها. وأما أبو نعيم فإنه لم يروها واثقًا بها، ولكنه كان يروي المناكير بل
والموضوعات ويسكت عليها اعتمادًا على أن الناس يعرفون درجتها من سندها
ولكنهم انتقدوا عليه ذلك هو وابن منده وكان يطعن أحدهما بالآخرة للمعاصرة. قال
الحافظ الذهبي في الميزان فيهما: لا أقبل قول كل منهما في الآخر وهما عندي
مقبولات لا أعلم لهما ذنبًا أكبر من روايتها الموضوعات ساكتين عليها.
ويوجد شيء من هذه الروايات في كتب أخرى لغير المحدثين لا يوثق بها ولا
بأسانيدها ككتاب مسامرة الأخيار المنسوب للشيخ محيي الدين بن عربي على أن فيها
ذكر المجهولين والضعفاء ورواه المناكير كسعيد بن عثمان الكريزي قال الذهبي: كان
يحدث في أصبهان بالمناكير وحفص بن الصباح الرقي قال الحاكم حدث بغير
حديث لم يتابع عليه ويحيى البابلتي ضعفوه وضعفوا شيخه أبا بكر بن مريم
الحمصي وغيرهم. وحسبنا ما في كتاب الله تعالى والأحاديث والآثار الصحيحة في
آياته وفضائله عليه أفضل الصلاة والسلام فلا حاجة لنا بأمثال هذه الروايات.
هذا وقد طال بنا القول وسنجيب عن بقية المسائل في الجزء الآتي ولم ننس
الأسئلة الواردة من تونس وسنغافورة ولكل شيء أجل.
((يتبع بمقال تالٍ))