للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ملخص سيرة الأستاذ الإمام
(٥)
تابع لما في الجزء الرابع عشر

مذهبه وطريقته في الإصلاح
كان تغمده الله برحمته قد شرع في كتابة تاريخ لنفسه كتب في فاتحته مذهبه
في الإصلاح مجملاً وشرع بعدها في الفصل الأول وهو في أهله الذين نبت فيهم
وتربى التربية الأولى معهم ولم يتمه (وقد جعلنا جميع ما كتبه من ذلك في الجزء
الأول من تاريخه الذي يطبع الآن) فكلمته في تلك الفاتحة هي خير ما نورده في
بيان مذهبه بالإجمال.
قال بعد البدء بالبسملة والحمدلة والصلاة والتسليم على خاتم المرسلين: (وبعد
فما أنا ممن تكتب سيرته، ولا ممن تترك للأجيال طريقته، فإني لم آتِ لأمتي
عملاً يذكر، ولم يكن لي فيها إلى اليوم أثر يؤثر، حتى أكون لأحد منها قدوة، أو
يكون لأحد في أسوة، وهذا الذي أجد من استصغار أمري وخفاء أثري [*] ،
وظهورعجزي عن بلوغ ما يرمي إليه فكري ويطمح إليه نظري، كان يمنعني من
أن أكتب شيئًا يتعلق بحياتي، تعرض فيه بداياتي وشيء من أعمالي بعدها وصفاتي،
حتى أكون به باقيًا عند من يطالعه بعد مماتي، وكنت أقول: وقت أصرفه في
حكمة أستفيدها، خير من زمن أنفقه في قصة أستعيدها، وما الذي عساه يبقى مني،
وأنا في قومي لم أترك ما يؤثر عني) .
ذكر بعد هذا أن بعض معارفه من الغربيين وغيرهم طالبوه بأن يكتب تاريخًا لنفسه وألحوا في ذلك، ثم قال:
لما تكرر الطلب في هذه الصور المختلفة رأيت أن الإضراب عن الإجابة
إغراق في الخمول، وتقصير في احترام رأي لم يشُبه رياء، ولم يحمل عليه إلا قوة
الظن بالفائدة في المطلوب ثم نظرت في نفسي وما كانت بدايتي، وما نزعت إليه
أثناء الطريق في سيري، وما انتهيت إليه فيما تأخر من أيام عمري، وقست جميع
ذلك إلى ما عليه الناس حولي، فوجدت اختلافًا قد يسهو عنه الغافل، ولكن ربما
ينتفع بملاحظته العاقل.
وجدت أنني نشأت كما نشأ كل واحد من الجمهور الأعظم من الطبقة الوسطى
من سكان مصر ودخلت فيما فيه يدخلون، ثم لم ألبث بعد قطعة من الزمن أن سئمت
الاستمرار على ما يألفون، واندفعت إلى طلب شيء مما لا يعرفون فعثرت على ما
لم يكونوا يعثرون عليه، وناديت بأحسن ما وجدت ودعوت إليه، وارتفع صوتي
بالدعوة إلى أمرين عظيمين (الأول) تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على
طريقه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها
الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه،
وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على
هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام
الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها في آداب النفس وإصلاح العمل، وكل هذا
أعده أمرًا واحدًا. وقد خالفت في الدعوة إليه رأى الفئتين العظيمتين اللتين يتركب
منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر
ومن هو في ناحيتهم.
أما الأمر الثاني فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في
المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره الجرائد على
الكافة منشأ أو مترجمًا من لغات أخرى أو في المراسلات بين الناس. وكانت
أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة
العرب ... إلخ.
ثم قال: (وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعًا في عمى عنه وبعد
عن تعقله ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية وما أصابهم
الوهن والضعف والذل إلا بخلوِّ مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من
حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن
دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها
هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنًا. دعونا إلى الاعتقاد بأن الحاكم
وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده
عن خطأه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل.
جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد
الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد.
نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع، غير أني
كنت روح الدعوة، وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة ولا أبرح أدعو إلى
عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة
والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة
تجنيها الأمم من غراس تغرسه وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو
الذي ينبغي أن يُعنى به الآن، والله المستعان اهـ المراد، وذكر بعده إصابته
ونجاحه في بعض الأمور وإخفاقه في بعضها.
عُلم من عبارته أن الإصلاح الذي دعا إليه ديني وأدبي وسياسي، وأنه ترك
الأخير بعد طول الاختيار ويؤيد ذلك ما يُؤثر عنه من القول في ذم السياسة كقوله:
(ما دخلت السياسة في عمل إلا أفسدته) وقوله في مقالات الإسلام والنصرانية:
(فإن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فإنا معك من
الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل
حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل
أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجن أو يعقل في
السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس) .
ترك السياسة التي هي مقاومة الاستبداد والحكم المطلق ومحاولة تغيير
شكل حكومة بقوة رعية. وأما السعي في إصلاح حكومة بلاده بإقناع حُكَّامها وأُولي
الأمر فيها بما فيه خيرها ومصلحتها وإرشاد رجال الشورى من الأمة إلى طرق
السداد في قوانين الحكومة ومسالك الإقناع لما يظهر بالمشاورة أنه الصواب فهو لم
يتركه، بل كان يصرف فيه أكثر أيام حياته، وهو ليس من السياسة التي حكم
بإفسادها للأعمال، وإبطالها للأماني والآمال.
ترك السياسة خيرها وشرها، ولكنها - قاتلها الله - لم تتركه من ضرها، فقد
كان يناجي ربه على فراش الموت برمل الإسكندرية والسياسة تنقب في سواحل
بيروت باحثة عنه معتقدة بما أوحى إليها شياطين الجواسيس أنه جاء بيروت متنكرًا
ليزيل سلطة ابن عثمان ويديل منها سلطة جديدة لأحد أبناء عليّ، وتعدت بشرها
إلى بعض من قيل لها أنهم من محبيه في تلك البلاد فاتهمتهم بالجرائم بل وبالجنايات
السياسية وعاقبت بعضهم ولا تزال تعاقب بعضًا وكان أشدهم عقوبة أقواهم براءة،
وإن أقواهم تهمة لأظهر براءة من الإمام نفسه إذا اتهم بأنه متنكر في بيروت أيام
كان يُعَالج الموت في رمل الإسكندرية، أفلا يكون رضي الله عنه جديرًا بالاستعاذة من
شيطان السياسة الذي هو شر من شيطان الوسوسة وأشد ضررًا؟ بلى، ولولا
معارضة السياسة لعمل الرجل للإسلام في هذه البلاد ما يتمناه الإسلام في جميع
البلاد، على أن السياسة ما قويت عليه نفسه بل كان الله ناصره لنصرة دينه فكلما
كادت له تلك الماكرة كيدًا رد الله كيدها في نحرها فتنثني وقد زادت شهرة الرجل بما
كانت تحاول من إخفاء ذكره، وعرف الناس بعض ما كانوا يجهلون من فضله، فما
أضرته ولكنها أضرت الأمة بتأخير الإصلاح ولا أقول بمنعه؛ فإن البذور التي
ألقاها قد نبتت فكانت زرعًا أخرج شطأه ولا يلبث أن يستوي على سوقه ويجود
بثمره فيغيظ المفسدين في الأرض، ويطلق ألسنة التاريخ بلعن محاولة قلعه إلى يوم
العرض.
هذا ما يتسع له المنار من ذكر مذهبه في الإصلاح مجملاً وموعدنا بالتفصيل
التاريخ الذي نشتغل بطبعه الآن.
***
(آماله وأمانيه)
كان أمله في الإصلاح محصورًا في الأزهر فكان عازمًا على توسيع دائرة
العلوم والعرفان فيه وعلى إيجاد طوائف من الأخصائيين الذين يتقنون علمًا واحدًا
يكونون فيه مرجعًا. وكان يودّ أن يبدأ بإيجاد طائفة للقضاء الشرعي وطائفة تستعد
للدعوة إلى الإسلام، وأخرى للخطابة ووعظ العوام، وأهل الأزهر لا يزالون
بمعزل عن العالم فهم لا يشعرون بشيء مما وراء جدران الأزهر ويا ليتهم كانوا يعرفون حقيقة جميع ما يرون في ذلك المحيط، فالاستعداد فيهم لقبول
الإصلاح ضعيف ولمقاومته قوي إلا أن يكون من جانب السلطة لذلك لجأ الرجل
إلى الأمير وطلب إسعاده على إصلاح الأزهر وكان نجاح الإصلاح بقدر ذلك
الإسعاد.
***
(مدرسة كلية)
ولما ضعف أمله في الأزهر منذ ثلاث سنين فكر في إنشاء مدرسة كلية في
القاهرة تغني عنه في تخريج رجال يخدمون الملة والأمة، فاستمال أحمد باشا
المنشاوي ونفخ فيه من روحه حتى عزم الرجل على تأسيس المدرسة بماله وإيقاف
أرض واسعة عليها تكفي لنفقاتها ولكن المنية اخترمته عند الشروع في الاستعداد
بإرشاد الأستاذ الإمام. وقد قضت الحوادث بعد موت المنشاوي أن يستقيل من
مجلس إدارة الأزهر ويتركه إلى أن يفعل الزمان فيه فعله، ويعده لما خبئ في الغيب
له، وعند ذلك قويت العزيمة على إنشاء المدرسة الكلية، وبعد التروي وطول التشاور
مع أهل الغيرة والإخلاص وضع المشروع للاشتغال بإنشاء الكلية في هذا الشتاء كما
قلنا في جزء سابق وأن ما خسرنا بموت هذا الرجل العامل لم يدع في نفوسنا مكانًا
للحسرة على الحرمان من هذا العمل.
***
(جريدة يومية)
وكان في عزمه السعي في إنشاء شركة تنشئ جريدة يومية في القاهرة تختار
لها طائفة من الكتاب الأخصائيين ينفرد بعضهم في بيان ما عليه المصريون في
المدن والقرى والمزارع من العادات والتقاليد والاعتقادات، وبعضهم في المسائل
الاقتصادية والزراعية، وبعضهم في الموضوعات العلمية والأدبية. ويوضع لهم
قانون لا يتعدونه، من أحكامه الاقتصار في المسائل السياسية والأخبار الصادقة على
ما فيه العبرة والفائدة لأهل البلاد، وعدم المدح والذم الشعري، وقبول الانتقاد على
ما ينشر فيها من كل كاتب أديب، ومنها أن يرجع في بيان جميع المصالح ذات
البال إلى ما يقرره مجلس إدارة الجريدة بالمشاورة فلا يكون ما ينشر فيها عبارة عن
رأى رجل واحد ومثالاً يتذبذب مع ميله وهواه، ومنها أن لا تكون الجريدة خصمًا
لجريدة أخرى. كنت ممن يلح عليه بهذا السعي منذ سنتين، واخترت لهذا العمل من
الكتاب المجيدين المعتدلين مَنْ رَضِي بهم وكاشفنا كثيرين من الكبراء والفضلاء في
ذلك واخترنا منهم أعضاء لمجلس الإدارة ووضعت تقديرًا تمهيديًّا لإنشاء المطبعة
ونفقات العمل. ولو بقي الإمام حيًّا لرجونا أن يبرز هذا العمل في هذا الشتاء وإن
خسارتنا بفقده لأعظم من كل خسارة.
***
(السياحة في الشرق)
كان من نيته الحسنة - أحسن الله مثوبته - أن يسيح في بلاد الهند وبلاد
الفرس وبلاد روسيا الإسلامية ليختبر حال المسلمين بالفعل في الشرق كما اختبرها
في الغرب والوسط فيعرف ما يصلح لجميع شعوب المسلمين من التربية والعمل وما
يصلح الآن لبعض دون بعض ولا حاجة إلى شرح ما وراء هذا الاختبار لو كان.
***
(تفسير القرآن وتاريخ الإسلام)
كان صاحب هذه المجلة قد اقترح على الأستاذ الإمام أن يكتب تفسيرًا للقرآن
في رمضان سنة ١٣١٥هـ، أي قبل الشروع في إنشاء المنار وذلك بعد أن
اقترحت عليه قراءة دروس في التفسير تردد فيه، ثم لم يفعل إلا بعد سنتين وشهور.
زرته في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من الشهر فقرأ لي عبارة من كتاب فرنسي
يطعن في الإسلام وطفق يرد عليها واحتاج في الرد إلى الكلام في تفسير {رَبِّ
العَالَمِينَ} (الفاتحة: ٢) فتمنيت حينئذ لو كان للقرآن تفسير على نحو ما كان
يفسر، فاقترحت ذلك عليه، وإنني أذكر هنا شيئًا مما كتبته يومئذ في مذكرتي عن
ذلك الاقتراح وهو:
قلت: لو كنت كتبت تفسيرًا على هذا النحو تقتصر فيه على حاجة العصر
وتترك كل ما هو موجود في كتب التفسير وتبين ما أهملوه ... فأجاب: إن الكتب لا
تفيد القلوب العُمي، فإن دكان السيد عمر الخشاب مملوءة بالكتب من جميع الفنون
وهي لا تعلم شيئًا منها ... لا تفيد الكتب إلا إذا صادفت قلوبًا عالمة بوجه الحاجة
إليها تسعى في نشرها. إذا وصل كتاب إلى أيدي هؤلاء العلماء وفيه غير ما
يعلمون لا يعقلون المراد منه؛ وإذا عقلوا شيئًا منه يردونه ولا يقبلونه وإذا قبلوه
صرفوه إلى ما يوافق علمهم ومشربهم كما جروا عليه في نصوص الكتاب والسنة
التي نريد بيان معناها الصحيح وما تفيده. إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر
مما يؤثر الكلام المقروء؛ لأن نظر المتكلم وحركاته وإشارته ولهجته في الكلام كل
ذلك يساعد على فهم مراده من كلامه ويمكن للسامع أن يسأله عما يخفى عليه منه
فإذا كان مكتوبًا فمن يسأل؟ إن السامع يفهم من كلام المتكلم٨٠ في المائة والقارئ
لكلامه يفهم ٢٠ في المائة على ما أراد الكاتب. مع هذا كنت أقرأ التفسير وكان
يحضره بعض طلبة الأزهر وبعض طلبة المدارس الأميرية وكنت أذكر كثيرًا من
الفوائد التي تحتاج إليها حالة العصر فما اهتم لها أحد فيما أعلم، وكان من حقها أن
تكتب، وما علمت أحدًا كتب منها شيئًا خلا تلميذين قبطيين من مدرسة الحقوق وكانا
يراجعاني في بعض ما يكتبان. وأما المسلمون فلا.
قرأت تفسير سورة العصر في ستة أو سبعة أيام وكان كل درس لا يقل عن
ساعتين أو ساعة ونصف بينت فيها وجه كون نوع الإنسان في خسر إلا من استثنى
الله تعالى، وما المراد بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، إلى غير ذلك مما لو جُمِعَ
لكان رسالة حسنة في تفسير السورة، وما علمت أحدًا كتب منه شيئًا إلا أن
يكون عبد العزيز (المتبادر أنه يريد عبد العزيز أفندي محمد القاضي في المحاكم
الأهلية لهذا العهد وكان يومئذ تلميذًا في مدرسة الحقوق) .
قلت له: إنه يوجد كثير من المنتبهين لحال العصر والإسلام في البلاد
المتفرقة وكثير منهم إنما نبهتهم (العروة الوثقى) فأجاب بجواب طويل حاصله أن
حال المخاطب تؤثر في نفسه وأنه يعسر أو يتعذر عليه إلقاء الحكمة إلى كل أحد.
قلت: إن الزمان لا يخلو ممن يقدر كلام الإصلاح قدره وإن كانوا قليلين فالكتابة
تكون بمثابة مرشد لهم في سيرهم، وأن الكلام الحق وإن قل الآخذ به، والعارف
بشأنه لكنه بحسب ناموس الانتخاب الطبيعي لا بد أن يحفظ وينمو بمصادفة المباءة
المناسبة له كما حفظت له العروة الوثقى، فإن أوراقها الأصلية الضعيفة قد بليت ولكن
ما فيها من المقالات البديعة المثال والفوائد العظيمة حفظت في الطروس والنفوس،
ثم أطلنا القول في العروة الوثقى.
نقلت بعض ما كتبت يومئذ بنصه لما فيه من بيان رأيه رحمه الله وتأثره
باستعداد المسلمين في ذلك الوقت. وكنت أذكر له وجوب الكتابة في التفسير كلما
سنحت لي الفرصة، وكان خلاصة رأيه أنه ينبغي أن يكتب تفسير لبعض القرآن لا
لجميعه بأن تفسر الآيات التي قصر المفسرون في بيان حكمها وأسرارها لا سيما ما
يتعلق منها بروح الدين من الهداية والتهذيب وأمور الأمم الاجتماعية.
ثم شرع في قراءة التفسير بالأزهر وكان ذلك في غرة المحرم سنة ١٣١٧هـ
وقبل شروعه كتبت مقالة في المؤيد عنوانها (القرآن) بينت فيها وجه حاجة
المسلمين إلى فهمه والاهتداء به، وأن كتب التفسير غير كافية لذلك وأن الأستاذ
سيقرأ التفسير على ذلك الوجه؛ فانتشر الخبر وعلم الناس فأقبلوا على تلك الدروس
إقبالاً لم يعهد له نظير من المسلمين في هذا العصر تبين به أن الاستعداد للإصلاح
ينمو وكان ذلك الدرس أعظم ما خدم به الأزهر والإسلام كما كانت قراءته لأسرار
البلاغة ودلائل الإعجاز أنفع ما خدم به اللغة العربية هناك.
عين مفتيًا للديار المصرية في الشهر الذي شرع فيه بقراءة التفسير فظننت كما
ظن هو أن هذا المنصب ليس فيه عمل يستغرق الوقت، وطمعت في وجدانه فرصة
يكتب فيها تفسيرًا على طريقته في الدرس، فلما رأيت الأعمال قد كثرت وفتح لها
من منصب الإفتاء أبواب جديدة شرعت في كتابة التفسير على تلك الطريقة كما
اقترح عليّ بعض أهل العلم والفضل. وكنت في البداية لا أكاد أزيد على خلاصة ما
يقرره في الدرس إلا قليلاً؛ إذ لم يكن في نيتي تجريد ما يكتب منه في المنار وجعله
كتابًا مستقلاًّ. ثم رأيت من الواجب بسط القول وطبع التفسير على حدته عند سنوح
الفرصة ففعلت بإجازته - رحمه الله تعالى - واستحسانه. فكان المختصر نصف
الجزء الأول من سورة البقرة عرضته عليه بعد ذلك فقرأه وزاد فيه ما رأى حاجة
إلى زيادته ومنه إيضاح الكلام في الملائكة وأجاز باقي ما كتبناه كما هو فكأنه هو
الذي كتبه.
رأى - رحمه الله تعالى - أن هذا التفسير الذي ننشره على طريقته التي
تلقيناها عنه ونودعه اختياره وفهمه للآي وفقهه في القرآن هو الضالة المنشودة،
وأنه لا حاجة معه إلى أن يكتب هو بيده تفسيرًا، ولكنه كان عازمًا على تأليف كتاب
يكون مقدمة لهذا التفسير يبين فيها حاجة البشر إلى ما في القرآن من الإصلاح
العظيم، والهدي القويم، على طريقة رسمها، وأعد لها عدتها، وإنني لأرجو من
عناية الله وفضله أن يوفقني لوضعها على الوجه الذي فصله لي تفصيلاً، وأن يحقق
أمله في هذا العاجز باقتداره على إتمام التفسير؛ فإنه قد صرح بهذا الأمل وبآمال
أخرى من جنسه {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) .
ذلك أمله في التفسير ومقدمته، وأما تاريخ الإسلام فقد كان عزم على تأليف
كتاب فيه بعد أن أتم تدريس كتاب (دلائل الإعجاز) وكان قد كثرت الاقتراحات
عليه في اختيار ما يقرأ بعده في وقته، ومنها اقتراح السيد علي الببلاوي شيخ الأزهر
لذلك العهد - رحمه الله تعالى - أن يقرأ تاريخ الإسلام إذ لا يقدر على ذلك غيره،
ورأيته نور الله مضجعه يعتذر بأنه لا يوجد عند المسلمين تاريخ ديني فيدرس،
فعززت رأي شيخ الأزهر رجاء أن يكتب هو ما يقرأ فما كان إلا أن شرح الله
صدره وعزم على أن يكتب فنطبع ما يكتب كراسًا بعد آخر وهو يدرسه في الأزهر
التدريس يتبع الطبع والطبع يتبع التأليف. ولكن حال دون ذلك ما كان من الأحداث
في مقاومة الإصلاح التي انتهت باستقالته من إدارة الأزهر في إثر استقالة شيخ
الأزهر وحرم الإسلام بتلك الفتن (أو الشغب) كما قيل من هذه الخدمة الكبرى التي
يعز علينا أن نجد عنها عوضًا، ولكن ما خسرناه بوفاة الرجل أعظم، والأمر لله العلي
الكبير، تلك أقرب آمال الرجل في خدمة دينه وأمته، وأما آمال الأمة فيه فقد
كانت عظيمة تتناول المصالح العامة والخاصة فكم من غيور على ملته وبلاده كان
في نفسه أن يقوم بأعمال نافعة بإرشاد من فقدنا وإسعاده، وكم من متعلم ذكي كان
يود أن يضع كتبًا نافعة بهديه وإمداده، وكم من عامل كان يرجو الرقي في عمله
بجاهه وشفاعته، وكم من عائل كان ينتظر الاستغناء بكرمه ومساعدته، وقد ماتت
بموته أكثر هاتيك الآمال، وانقطع الرجاء من أكثر تلك الأعمال.
وقد أشار إلى تلك الآمال في أبيات قالها قبل موته إذ كان أشيع خبر موته قبل
الوفاة بأيام فبلغه ذلك فجالت نفسه في آماله وأمانيه للأمة وآمال الناس فيه فجاش في
نفسه الشعر فأنشد:
ولست أبالي أن يقال محمد ... أبل أم اكتظت عليه المآتم [١]
ولكنه دين أردت إصلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم [٢]
وللناس آمال يرجون نيلها ... إذ مت ماتت واضمحلت عزائم
فيا رب إن قدرت رُجعى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم [٣]
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
يماثلني نطقًا وعلمًا وحكمة ... ويشبه مني السيف والسيف صارم
قال هذه الأبيات مرة واحدة في حال مؤثرة من غير روية ولا تفكر وكتبها عنه
أخوه حمودة بك ومصطفى بك الباجوري ولم أكن حاضرًا فلما جئت قال لي: قد
جاش في نفسي الشعر في غيبتك كأنني لا أقول الشعر إلا في الحبس أو المرض،
يشير إلى تلك القصيدة التي نظمها في السجن أيام الحوادث العرابية، وأنشدني
الأبيات فكتبتها على هذا الوجه، وقد وصلت إلى الجرائد فنشرتها وذكرت البيت
الثاني هكذا:
ولكن دينًا قد أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
ثم قال: إنه خطرت له أبيات أخرى بعد ذلك وأنشدنيها فكتبتها ورأيته قد ترك فيها ألف التأسيس كأنه نسيه أو أذهله عنه المرض، وهذه الأبيات في وصف المرشد
الذي طلبه في دعائه ذكر منها بيت واحد في بعض الجرائد الأسبوعية محرفًا
فأذكره صحيحًا وهو:
ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... عن الرأي والتأويل يهدي ويلهم
هذا مجمل ما يتسع له المنار من سيرة هذا الإمام الجليل وأخلاقه ومآثره. وأما خَلْقَهُ: فقد كان رَبْعَة بادنًا متماسكًا قوي العضل، أسمر اللون، برَّاق العينيين
جهوري الصوت، مهيب الطلعة، عظيم الهامة. قال مختار باشا الغازي: (لو
وزن دماغ هذا الرجل لرجح بكل مخ عرف من عظماء الرجال فيما أظن، وإني
لآسف على عدم وزنه إذ لو تحقق ظني لكان من الفخر العظيم لنا أن كان أكبر دماغ
عرف في البشر منا) وقد كان في شبابه من أفراد الناس في قوة العضل حتى إنه
دفع حصانًا جامحًا فأرجعه إلى الوراء حتى وقع على عقبه. ولكنه كان مع ذلك كثير
الأسقام، ومبدأ ذلك تسمم صديدي أصابه فغاب عن الوجود أكثر من شهر لا يحس
ولا يعي، بل كان جسمه يتصبب عرقًا، وبعد أن شُفي منه كان يعاوده في كل سنة
كما كان يعاود النبي - صلى الله عليه وسلم - سم أكلة خيبر كل عام، واعترته
أمراض أضعفت من قوته ولم تضعف من همته وعزمه وحزمه حتى لقي ربه،
تغمده الله برحمته ورضوانه. وأسكنه فسيح جناته. ونفعنا والمسلمين بل وسائر
العالمين بسيرته وعلمه آمين.