للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحق والباطل والقوة

{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ: ٤٩) ، {وَقُلْ جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: ٨١) {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:١٨) .
مضت السنة في المغلوبين على أمرهم، المقهورين في أرضهم أن يعتذروا
عن أنفسهم بدعوى أن القوة هي التي غلبتهم على حقهم، وأنهم غير مذنبين ولا
مقصرين، ولا مسرفين ولا مضيعين، وجرت عادة الغالبين على أمرهم،
والقاهرين في حكمهم أن يحتجوا لأنفسهم بأنهم أصحاب الحق الذى يعلو ولا يُعلى
وأن الحق هو الذى جعل كلمته العليا وكلمة أعدائهم السفلى، وقد يعتور الأمة
الواحدة القوة والضعف والعز والذل فتدعي في طور قوتها وعزها أنها اعتزت
بالحق وغلبت، وفي طور الضعف والذل أنها أُخذت بالقوة فقهرت، وأنها حليفة
الحق في الطورين، لم تتعدَّ حدوده في حال من الحالين، وتلك سنة الله تعالى في
الأفراد أيضًا يدعي الرجل الحق لنفسه ما ظفر، ويعتذر عنها بالقوة إذا هو غلب
وقهر، وهذا الغرور من الإنسان قد أضله عن طريق الحق حتى لا يكاد يفهم معنى
كلمة (الحق) ومدلولها الصحيح. وما نقل إلينا قول عن غالب يتعزز فيه بالقوة
على الحق إلا تلك الكلمة المأثورة عن بِسْمَرْك: (القوة تغلب الحق) وقد أرسلها
مثلاً، وهي لا تصح إلا تأويلاً وجدلاً، ولو غُلب الحق لما كان حقًّا. والحق أن
الحق قد يخفى، وقد يُترك ويُنسى، ولكن ما صارع الباطلَ إلا صرعه، ولا قارعه
إلا وقرعه، (وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه) ، والقوة إنما تظفر إذا كانت
شعبة منه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع , والباطل هو ما
لا ثبوت أو لا تحقق له في نفسه , وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يَمْحَق ما كان ثابتًا
متحققًا كما هو الشأن في الموجود والمعلوم والموهوم، وهذا مما لا مجال فيه
لاختلاف العقلاء. إنْ يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية، والدينية
والشرعية، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية، وفي كل ذلك حق
وباطل لا يتنازعان إلا ويكون الحق هو الغالب والباطل هو المغلوب , وإننا نبين
ذلك , ونذكر مواضع غلط الناس فيه ومناشئ شبهاتهم، فنقول: إن الحق والباطل
يتنازعان في خمسة أمور كلية وهي:
(١) الفلسفة والنظريات العقلية.
(٢) الوجود والسنن الكونية.
(٣) السنن الاجتماعية.
(٤) القوانين والمواضعات العرفية.
(٥) الدين والشريعة الإلهية.
الفلسفة والنظريات العقلية:
اختلف الناس في الفلسفة والمسائل النظرية في القديم والحديث، ومنهم المحق
والمبطل , فيقول من يظن أن الباطل يغلب الحق: إن كثيرًا من الآراء الباطلة في
ذلك كانت رائجة لا ينازع فيها أحد، وكثير منها كان موضوع النزاع , وكان أكثر
الباحثين فيه على الباطل، ولا يزال يظهر للعلماء في كل زمان وكل جيل خطأ
كثير من السابقين والمعاصرين، فيظهر بذلك أن الباطل كان هو الغالب فإن كنت
تقول: لا عبرة إلا بغلب دائم فإنك لا تقدر أن تثبت الدوام لحق ولا لباطل، فيكفي
في إثبات قوة الباطل وظهوره على الحق أن يظهر عليه زمنًا طويلاً، ودفع هذا
الظن سهل، وإن كنا نعترف بأن الحق والباطل في الآراء النظرية والفلسفية من
أخفى الأمور وأوغلها في الإبهام؛ ذلك أن التنازع بين الحق والباطل لا يتحقق هنا
ما دام كل من المتناظرين في المسألة يجادل بالنظريات ولم ينتهِ بدلائله إلى إحدى
اليقينيات التي لا نزاع فيها. وبيان ذلك أن المسألة ما دامت نظرية من الجانبين
فالتنازع إنما يكون من بين الدليلين لا بين المدلولين، والحق في الدليل هو إفادة
اليقين فما دام نظريًّا فهو غير حق إنما هو موقوف أو باطل يعارض مثله، فإذا انتهى
أحد المتناظرين إلى اليقين البديهي في المسألة فهو صاحب الحق وهو الغالب سواء
أذعن له مناظره أو كابره. وما كان الغَلَب والسلطان لتلك المسائل النظرية الباطلة
في الفلسفة العليا وغير العليا ذلك الزمن الطويل إلا لأن الحق فيها كان خفيًا أو غير
معروف لأهلها. بل نقول: إن في طرق الاستدلال نفسها حقًا وباطلاً فالحق هو ما
وافق شروط القياس المنطقي وأعني بكونه حقًّا أن النفس فطرت على الانتقال من
المقدمات المترتبة على ذلك النحو من الترتيب المعروف في أشكال القياس إلى
المطالب التي هي النتائج فإذا كانت المقدمات مسلّمة فلا مندوحة للنفس عن التسليم
بالنتيجة. وقد يكون صاحب الدعوى الحق غير قادر على نظم الدليل الحق مع كون
الدعوى نفسها غير بديهية فإذا غلب مناظره المبطل في الدعوى حينئذ فلا بد أن
يكون أقرب منه إلى الحق من طريق الاستدلال وأن يكون قد أقنعه ببعض المقدمات
الباطلة وفي هذه الحال يكون مبطلاً ومن ناحية الباطل قد أخذ - وهو ما سلمه من
المقدمات - لا من ناحية الحق وهو أصل الدعوى التي نطق بها على غير بينة
وبغير بينة.
ولو شئت لجئت في هذا الأصل بالأمثلة والشواهد التي تجليه أكمل التجلي
ولكن القصد بهذا المقال إلى غيره مما نرى الناس مصرين على الخطأ فيه وفي
خطأهم الضلال البعيد والخسران العظيم.
الوجود وسنن الكون:
كلُّ وجودٍ حق، والعدم باطل لا حقيقة له، وكل نظام في الطبيعة والخليقة فهو
حق، والخلل فيها باطل لا تحقق له، والخلل الصوري الذى يعبر عنه علماء الكون
بفلتات الطبيعة له سنن خفية أي نواميس لم يطلعوا عليها وهم يتوقعون اكتشافها
ويرجونه {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت} (الملك: ٣) ، {الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: ٧) ولا تنازع بين الوجود والعدم ولا بين النظام
والخلل، وإنما يقع التنازع بين الناس في فهم ذلك والعلم به، فمن كان أعلم بالوجود
والنظام كان أعلم بالحق وأقرب إلى الحق وكانت له الغلبة بالحق. وهذا ظاهر في
نفسه، وسيادةُ العَالِمِينَ بحقائق الوجود وسنن الله في الكائنات على الجاهلين بها
مشاهَدةٌ لا ينكرها المسودون المغلوبون بجهلهم وباطلهم، وإن كانوا يجهلون أن علم
من سادوهم هو الحق وأنه سبب لسيادتهم، وأنهم هم بجهلهم على باطل وبه كانوا
مغلوبين على أمرهم، ومقهورين في أرضهم وديارهم، وأن منهم المسلمين الذين
يقول كتابهم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس:
٥) ويقول: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الجاثية: ٢٢) ، وفي معناهما آيات، ولا ترى شعبًا إسلاميًّا
يعتقد بأن سعة العلم بالسموات والأرض من الحق الذي تعتز به الأمم، وإن جهلت
الأمة وهلكت فقد جزيت بما كسبت، وظَلمت نفسها وما ظُلمت.
السنن الاجتماعية:
للكون سنن في تكوّن الأحجار الكريمة وغير الكريمة كالصخور وفي نمو
النبات وحياة الحيوان وفي اجتماع الأجسام وافتراقها وتحللها وتركبها، وهي ما
عنيناه بالأصل الثاني. وللبشر سنن خاصة بهم في حياتهم الاجتماعية عليها يسيرون
وفيها يتقلبون فقوتهم وضعفهم وغناهم وفقرهم وعزهم وذلهم وسيادتهم وعبوديتهم
وحياتهم وموتهم كل ذلك غاية لاتباع سنن الله في السير على أحد الطريقين المشار
إليهما بقوله تعالى في الإنسان: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: ١٠) فهذه السنن
حق وتجنبها خروج عنه إلى الباطل. وما زال العارفون بسنن الله تعالى في الأمم
هم الآخذين بأطراف السعادة من أمم ينتصرون على الجاهلين بها من المبطلين من
حيث هم مبطلون وهو ما به الاختلاف وإن كان الغالب القاهر مبطلاً في شيء آخر
والمغلوب محق في مخالفته له فيه.
لم يعرف كتاب قبل القرآن نطق بأن للأمم في قوتها وضعفها وحياتها وموتها
سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول كقوله في سورة الأنفال: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن
يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} (الأنفال: ٣٨)
أي فإنه يحل بهم ما حل بمن قبلهم ممن عاند الحق وقاومه. وقوله في سياق الكلام
على الأنبياء وأحوال الأمم في سورة الحجر: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر
: ١٣) وقوله في سياق الكلام في بذل المال والحرب {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: ١٣٧) ،
وفي الآية الثالثة بعدها: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ... } (آل عمران: ١٤٠) الآيات.
فهذه الآيات البينات حق، وما ترشد إليه من سنن الاجتماع حق، فالجهل
بسنن الاجتماع باطل، وترك الاعتبار بها في شؤون الأمم باطل، فهل وُجِدَتْ أمة على سطح هذه الأرض عرفت هذه السنن وسارت عليها ثم قاومتها أمة أخرى تجهلها
أو لا تعتبر ولا تهتدي بما عساها تعرف منها ثم كانت الجاهلة الضالة هى الغالبة
فيقال: إن الباطل قد يغلب الحق؟ كلا، ما كان ذلك ولن يكون ومن العجائب
والعجائب جمة أن يكون المسلمون في هذا العصر أجهل الأمم كلها بسنن الله تعالى في
البشر حتى إن من يدعوهم إلى تعلمها وتعلم مصادرها وهي تواريخ الأمم يعده رجال
الدين منهم جانيًا على الدين صادًّا عنه لا سيما إذا كانت دعوته موجهة إلى
طلاب علوم الدين في مثل مدرسة الأزهر!! ، فأين هذا الدين الذي يعد العرفان
بسنن الاجتماع صدًّا عنه وجناية عليه من القرآن الذي هو أول كتاب أرشد إلى
هذه السنن؟! وإذا غلبت كل أمة مهدية بهذه السنن في كسبها وعملها وسياستها
وحروبها على الأمة الجاهلة بها الضالة عنها وسادت عليها فهل يصح أن يقال:
إن الباطل قد غلب الحق؛ لأن دين المسلمين هو الحق وأديان الغالبين عليهم هي
الباطلة؟ كلا إن كل مغلوب فهو بسبب الباطل قد غُلِبَ، وكل غالب فهو بسنن الحق
قد غلب، أينصرون ويسودون , وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون ,
وحكامهم يظلمون ولا يعدلون؟! , والله تعالى يقول في بيان سننه الحق: {فَلَوْلاَ
كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ
أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٦-١١٧) فسروا الظلم ههنا
بالشرك، والمعنى أن الله تعالى لا يهلك الأمم بسبب الشرك إذا كانت مُصلحة في
الأعمال ولكن يهلك المفسدين الذين لا ينهون عن الفساد لا سيما إذا كان منبعه
أمراؤهم وملوكهم، أو المعنى ما كان ليهلكها بظلم منه؛ لأنه منزه عن الظلم وهي لا
تستحق الإهلاك؛ لأنها مُصلحة في العدل والعمران.
القوانين والمواضعات العرفية:
لكل أمة من أمم الحضارة قوانين تسوس بها بلادها، ولكل قبيلة من القبائل
البدوية عُرف ومواضعات ترجع إليها في شؤونها الاجتماعية، وللدول قوانين في
الحقوق العامة والمصالح الخاصة، فهذه القوانين والمواضعات حقوق عرفية فالآخذ
بشيء من هذه الحقوق يكون هو الغالب لتاركها مادامت الأمة والدولة أو الدول التي
جعلت القانون حقًّا في عرفها حاقة له، فإذا رجعت الأمة عن عرفها أو الدولة عن
قانون لها في بلادها أو الدول عن بعض القوانين العامة لم يعد ذلك حقًّا؛ لأن حقيته لم
تكن لذاته وإنما كانت للعرف الذى يكفله أهله الواضعون له وقد زال، مثال ذلك
اعتداء دول أوربا على الممالك المشرقية وافتياتها على حكومات هذه الممالك، تركيا
فما دونها، وقد علم من القوانين العامة أنه ليس لدولة أن تفتات على الأخرى في
إدارتها الداخلية، ولكن أوربا تفتات وتغلب فهنا يظن الجاهل بالفصل بين الحق
والباطل أن الباطل قد غلب الحق بالقوة، ووجه الخطأ في هذا الظن أن هذا الحق
الذى ندعي أن أوربا سلبته من تركيا في مصر أو كريت مثلاً إما أن يكون حقًّا
طبيعيًّا يملك ويحفظ بمقتضى سنن الله في الاجتماع البشري أو حقًّا عرفيًّا يملك
ويحفظ بمقتضى القوانين العامة التي تعترف بها الدول وتكفلها؛ فإن ادعى المدعي
الشق الأول فإننا نمنع دعواه ونقول: إن سنن الاجتماع لا تتبدل ولا تتحول كما
نطق الكتاب العزيز ودلت التجربة والمشاهدة؛ لأن واضعها وحافظها هو العزيز
الحكيم وهي تنيط الغلبة ودوام السيادة بالعدل والعلم بالسنن والإصلاح في الأرض
والمنعة والتقوى والاستعداد للحماية بالقوة وأعظم القوة فيها قوة الأمة المستقلة
العارفة بحقوقها ثم القوة الآلية وذلك غير متحقق في تركيا كأوربا فلا حق طبيعي
هناك.
وأما الحق العرفي فقد قلنا: إنه ليس حقًّا ذاتيًّا وإنما هو حق ما كفله واضعوه
المعترِفون به وقد اتفقت الدول الكافلة للقوانين العامة على أن لا تعامل دول الشرق
بما تتعامل هي به وأن تفتات عليها بحكمة حتى لا يفضي الافتيات إلى الحرب،
التي يخسر فيها الغالب والمغلوب، فتبين بهذا أن الباطل لم يغلب الحق في هذه
المسألة بل الحق هو الغالب كما أخبر الله تعالى، وذلك أن دول أوربا الغالبة عارفة
بسنن الكون وسنن الاجتماع ومهتدية بها وهي الحق وبها الغلب والسلطان، كما
تقدم البيان مؤيدًا بالقرآن، فإن قيل: إن أوربا تظلم في البلاد التى تفتات فيها قلنا:
نعم ولكن ظلمها دون ظلم حكام البلاد المفتات عليهم فباطلها أقل وعدلها أكثر فحقها
أكبر وهكذا غلب الحق الباطل ولكن أكثر الناس لا يعلمون! .
ومن هذا القبيل غلب ألمانيا وانتصارها على فرنسا فإن سببه العلم بسنن
الكون وسنن الاجتماع والعمل به ولذلك قال بسمرك: (غلبنا بالمدرسة) وقوله هذا
حق وأما قوله: (القوة تغلب الحق) فقد لبّس فيه الحق بالباطل فالقوة الباطلة لا
تغلب الحق لكن القوة الطبيعية الاجتماعية تغلب الحق العرفي وحينئذ يكون الحق قد
غلب حقًّا أضعف منه في الظاهر بل هو لم يغلب إلا الباطل.
يقول الظانون في الحق غير الحق: إن القضاة بظلمهم ووكلاء الدعاوي
بِحِيَلِهِمْ وخَتَلِهِمْ كثيرًا ما يؤيدون المبطل في دعواه حتى يكون له الفلج والظفر،
ونقول: إن هذا القول صحيح ولكنه لا يفيد المطلوب فإن تأييد الباطل إذا كان من
الحكام فلا قانون ولا شريعة وإنما هو الهوى والظلم يتحكمان وهما من الباطل الذي
لا يغلبه إلا حق من جنسه وهو السلطة العادلة فإذا تنازعت سلطة عدل مع سلطة
ظلم وغلبت الثانية الأولى تكون المعارضة صحيحة وأما الدعوى فليست من جنس
السلطة فيقال: إنه يجب أن يغلب حق الأولى على باطل الثانية، وإن كان الحاكم
عادلاً والخصم المبطل أو وكيله المحامي عنه ألحن بحجته وأقدر على البيان من
الخصم المحق أو وكيله فالتغالب إذًا بين الحجة والحجة ولم تنس ما قلناه فيها عند
الكلام في الفلسفة والنظريات والعقلية.
إن الإنسان يظلم والظلم من الباطل حتى قيل: إن الظلم طبيعي في البشر
ومنه قولهم: الظلم كمين في النفس، القدرة تظهره والعجز يخفيه، وقال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذا قول بأن الإنسان جبل على الباطل وهو على ظهور شبهته غير صحيح
وإنما الصحيح هو ما قاله الخالق الحكيم في السورة الخامسة والتسعين، وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [ (التين:١-٨) .
أكد لنا القول عز وجل بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم؛ إذ أقسم على ذلك
بما ذكَّرنا بعهد الفطرة ومعاهد ظهور الشريعة ذلك أنه خلقه وجعل له من الحواس ما
يدرك به ما يحتاج إلى إدراكه في حفظ نفسه وتوفير منافعها ودفع المضار عنها
ومن العقل ما يميز به بين المدركات الحسية فيعرف صوابها وخطأها وما يحكم به
على هذه المشاعر المدركة فيوجهها إلى الاشتغال بالأنفع والأصلح فهو مجبول على
أن يختار ما هو أنفع وأصلح، ولكنه لما خلق مدنيًّا مستعدًا للكمال الشخصي
والنوعي بالعمل التدريجي والتعاون. والعمل لا يكون إلا بعلم , والعلم لا يكون إلا
بالكسب؛ كان هذا الإنسان عرضة للجهل بوجوه المصالح والمفاسد والمنافع
والمضار سواء كانت للأفراد وللأمم والشعوب، والجهل من الباطل وبه رد الإنسان
بدخوله في طور الحياة الاجتماعية إلى أسفل سافلين فكان أفراده وجماعاته يجنون
على أنفسهم ويظلمونها من حيث يظنون أنهم ينفعونها ويؤيدون حقوقها ففطرتهم
تطلب الحق الذى فيه المصلحة والمنفعة وعقولهم تخطئ في تحديده فتقع في الباطل
فكانوا محتاجين إلى مساعدة للفطرة وللعقل يحدد لهما الحقوق النافعة ويميزها من
الأباطيل الضارة، وذلك هو الدين الذى نفثه روح الحق في روع كل واحد من أولئك
الشارعين الذين ظهروا في معاهد منبت التين والزيتون وطور سِينِين وفي ذلك البلد
الأمين (مكة المكرمة) وغيرها فصلح بها أمر الناس وساد الحق على الباطل ما
كانوا يهتدون بتلك الشرائع إيمانًا وعملاً صالحًا كما قال عز وجل.
فالباطل ليس من منزع الإنسان بطبعه ولكنه من العوارض اللازمة له من حيث
هو مريد مختار في علمه وعمله كاسب لهما بالتدريج. ولذلك أجمع العلماء في هذا
العصر على سنة من سنن الاجتماع التي جاء بها القرآن في شأن الحق والباطل وهي
ما يعبرون عنه بالانتخاب الطبيعي وقد بيَّنها الله تعالى بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: ٢٥١) ، وقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ ... } (الحج: ٤٠)
... إلخ وقوله: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) وبالآيات التي افتتحنا بها هذا المقال. وبمثل
قوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: ٤٩) وقوله - في السحر الذى هو
باطل لا حقيقة له -: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (يونس: ٨١- ٨٢) وقوله بعد إرشاد للأمم منه النهي عن الفساد في الأرض بعد
إصلاحها: {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: ٨٦) وقوله بعد
بيان أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: ٢٨) .
فاتفاق الحكماء على مضمون هذه الآيات وأمثالها في هذا العصر هو اعتراف
بأن للحق الغلبة والسلطان على الباطل إذا هما وجدا وتنازعا وعلى أن الإنسان
مفطورعلى تغليب الحق على الباطل لولا ما يعرض له من الخطأ في التمييز بينهما،
وإنما يسود الباطل في غيبة الحق أو غفلته عنه.
ذكرت لصديق لي هذا المبحث قبل أن أتم هذا المقال فأخبرني أنه يحفظ عن
الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني تمثيلاً في مصارعة الحق للباطل معناه أن الحق
كان يصرع الباطل ويصفعه، فرأى الباطل أن لا طاقة له به فاستشار أعوانه
فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون على أن يكيدوا للحق كيدًا فجاءوه يلقون إليه السَّلَم
ويدعونه إلى مأدبة أعدوها له فلما حضر أجلسوه على بساط جميل تحته حفرة
عميقة فوقع في الحفرة فطفقوا يهيلون عليه التراب حتى دفنوه ثم جلسوا فوق الحفرة
لئلا يخرج منها فيبطش بصديقهم الباطل فكان ينتفض بقوته العظيمة يحاول الخروج
وهم يتحاملون بأثقالهم عليها خوفًا منه والباطل يسرح ويمرح آمنًا من رؤية الحق له؛
لأن أولياءه حالوا بينهما ولكن الحق ما عتّم أن انتفض انتفاضة نسف بها أولئك
المتثاقلين وخرج إلى الباطل فأوقع به ودفنه وأراح الناس من شره.
وحاصل التمثيل أن الباطل إنما يسود ويثبت حيث لا يوجد من يقوم بالحق
ويقاومه به , وأن ذلك لا يدوم. فكل دولة أو حكومة ظالمة تخالف قوانين العدالة
في الأرض وتهضم حقوق الرعية فهي إنما تسود بباطلها ما دامت الرعية دافنة
للحق دائسة له فيكون باطل الحكومة غالبًا لباطل الرعية حتى إذا ما انتشر الظلم
وتفشى وذاق آلامه الجماهير فاستصرخوا الحق واستغاثوا به لبَّاهم مسرعًا وصار
على باطل الحكومة الظالمة (فجندله) وربما (جندلها) معه فإذا استماتت الرعية
وأنِست بالظلم فإن سنة الكون تسلط على الحكومة الظالمة حكومة أجنبية عادلة أو
ظالمة تفتك بها وتقلص ظلها ثم يكون بقاء الحكومة الثانية على سنة الله في الحكومة
الأولى {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) .
الدين والشريعة الإلهية:
ما قلناه آنفًا يثبت أن الدين في جملته حاجة طبيعية للبشر وإن كانت أحكامه
التفصيلية مما يجري فيه اختيارهم فهم يحكمون فيها عقولهم وأفكارهم ويتبعون فيها
قاعدة الأصلح والأنفع لهم. فالحق والباطل يجريان في الدين من وجهين:
(أحدهما) كون عقائده صحيحة معقولة في نفسها وأحكامه في العبادات
والآداب موافقة للفطرة في تقويم الملكات وتهذيب الأخلاق وتوثيق الروابط وشد
الأواخي بين الناس وأحكامه في القضاء والسياسة والإدارة موافقة لسنن الاجتماع
وقواعد العدل، أو كونها ليست كذلك.
(وثانيهما) كون عقائده راسخة في عقول الأمة مؤثرة في قلوبها، وآدابه
حاكمة في شعورها ووجدانها، وأحكامه محترمة عند أمرائها وجمهورها، أو كونها
ليست كذلك. فالدين سنة من سنن الاجتماع الكبرى وهو حق في الواقع أو باطل
مؤيد بحق إجماعي هو وحدة الأمة في الاعتقاد والعمل ولأهله الغلب والسلطان على
من ينازعهم فيه ويحاول إبطاله أو إرجاعهم عنه من المعطلين؛ لأنه إما أن يجمع
نوعي القوة في سنن الاجتماع وفي القوانين والمواضعات العرفية التي تسنها الأمم
لأنفسها وتعتقد أن فيه خيرها وحفظ حقوقها كما تقدم وإما أن ينفرد بالثانية. وما
اجتمع فيه الحقان يسود على ما اتفق له أحدهما فقط كما ساد الإسلام في أول نشأته
على سائر الأديان لأنه حق من كل وجه والأمة متحدة فيه.
والتاريخ يؤيد ما نطق به الكتاب في ذلك بقوله: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: ١٤١) وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) ولكن هذا النصر خاص بالمؤمنين حقيقةً لا ادعاءً أو جنسيةً كما
قال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: ٧-٨) وقال عز وجل:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... } (النور: ٥٥) - إلى قوله: { ... وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الفَاسِقُون} (النور: ٥٥) وقد فسروا الكفر هنا بكفر النعمة كالظلم والبغي
والإفساد في الأرض.
ونقول: إن عمل الصالحات - الذي قيد الوعد بالنصر - يشتمل مثل قوله تعالى
في وصف المؤمنين من سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: ٣٨-٤٣) ، ومثل قوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: ١٣٥) وقوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:
٨) فهو يأمرهم بالقيام بالقسط دائمًا وهو العدل وبالشهادة لله بلا محاباة قريب ولا
غني ولا رحمة فقير مبطل ويأمرهم أن لا يحملنَّهم شنآن قوم أي عداوتهم على ترك
العدل فيهم بل يحتم عليهم العدل حتى مع الذين يعادونهم.
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه إنما ينصر رسله وعباده المؤمنين الذين
يصلحون في الأرض ولا يفسدون على الظالمين كقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم: ١٣-١٤) والآيات في هذا المعنى وهو نصر المصلحين في الأرض
وإهلاك الظالمين والمفسدين - كثيرة جدًّا.
لا يوجد في مقابل هذه الآيات آية واحدة تدل على أن الله ينصر الذين
ينتسبون إلى الإسلام وإن لم يقوموا بالقسط والإصلاح وينهوا عن الظلم والفساد فهل
يجيز هذا الكتاب الحكيم لمدعي الانتماء إليه بالقول دون العمل إذا رأى استيلاء
الأوربيين على بلاد المسلمين والافتيات على حكامهم في سائر بلادهم التى لم يتم
لهم الاستيلاء عليها - أن يقول: إن هؤلاء الأوربيين منهم الملحد ومنهم من يقول
بالتثليت فكيف سادوا بقوتهم على المسلمين، وأهل التوحيد وهو حق اليقين؟ ، كلا
إنه لا يجيز لهم هذا القول بعد ما بيَّن لهم أنه لا يهلك الأمم بالشرك إذا كانوا
مصلحين في الأرض بالعدل وسائرين على سنن الله في العمران ولكنه يهلك الأمم
الظالمة مهما كان اعتقادها كما علمت من الآيات التى أوردناها آنفًا ومثلها كثير.
وأعظم عبرة للمسلم انكسار الصحابة مع داعي الحق الأعظم صلى الله عليه
وسلم في وقعة أُحُد لما خالفوا سنن الاجتماع في الحرب فخالفوا القائد وتركوا حماية
ظهر الجيش وفيها نزل: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: ١٦٥) فكل من خالف سنن الله الحق يغلب
على أمره بحق حتى يرجع وما أسرع رجوع المؤمن إلى الحق إذا زلّ عنه.
لهذا أقول: إن الوصول إلى الحق اليقين في التوحيد ينافي الإصرار على
الظلم، والتمادي في الفساد والبغي، كما نطق القرآن وشهد العقل، فلو لم يجعل
الإسلام الأعمال الصالحة بعد ترك المفاسد سياجًا للإيمان وعنوانًا له ودليلاً عليه
وشرطًا لاجتناء ثمراته في الدنيا والآخرة لكان العقل وحده كافيًا في الدلالة على أن
الموقن بعقله المذعن بقلبه لعقيدة التوحيد الخالص لا يؤثر هواه ولا هوى الرؤساء
والحكام على رضوان هذا الإله العظيم الحكيم القوي العزيز وإنما رضوانه بالتماس
فضله من سننه في خلقه، والوقوف عند ما حدده من الشكر والعدل في شرعه، فهو
يمضي في تعرّف السنن والأحكام والعمل بها لا يخاف في ذلك وَثْبَات الظالمين
لقوله عز وجل: {فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٧٥)
وقوله بعد ذكر سنته في الأيام: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: ١٤٠) ،
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٣٩) فهل
تنطبق هذه الآيات على قوم يخافون الظالم أن ينهوه عن ظلمه، ولا يخافون الله
تعالى أن يخرجوا عن حكمه، وقد جعلوا دينه جنسية، لا هداية حقيقية، فهم
يرجون سعادة الدنيا والآخرة بالانتساب إليه، أو بالتوسل والدعاء لأشخاص ماتوا
عليه، وهم مختلفون متفرقون، متنازعون متواكلون، جاهلون متكاسلون، لا
يبذلون ولا يتعاونون، ولا ينظرون ولا يتفكرون، {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم
مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٥-١٠٦) ، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: ١٥) .
هؤلاء الصادقون هم الموعودون بنصر الله وتأييده: {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَه} (الحج: ٤٧) فلو صدق المسلمون اليوم ما عاهدوا الله عليه باتخاذ الإسلام دينًا
من العمل بكتابه والاهتداء بسننه في خلقه لما غلبهم أحد على أمرهم فلقد صدقهم
وعده بصدقهم فيما سلف حتى إذا ما فشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوه من بعد ما
أرى سلفهم ما يحبون أخذهم بعدله وسلط عليهم من هم أقرب إلى الأخذ بسننه منهم
كما توعدهم بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٤٦) (راجع بحث الاختلاف
والتنازع في باب التفسير من هذا الجزء) .
طال المقام، والمبحث يطلب زيادة بيان لا يمكن الإتيان عليه إلا في مؤلَّف
خاص به؛ لأن المسألة من أبكار المسائل التى لم يخترعها أحد من الكتاب فيما نعلم
والشبهات فيها كثيرة وإنما اهتدينا فيها بهداية القرآن وآياته.
وخلاصة ما أقول في شأن المسلمين مع غيرهم في هذه الأزمنة أن من
يستخرج من القرآن الآيات الناطقة بسنن الله تعالى في أهل السيادة والعزة من
صفاتهم وأعمالهم، والآيات المبينة لسننه في الأمم المستحقة للإهلاك والإذلال،
ويعرض كل ذلك على الأمم الغالبة السائدة والأمم المغلوبة المقهورة يتجلى له صدق
قوله تعالى في سيادة الحق وغلبته وإزهاقه للباطل في كل أمة. وهذا النوع من
أنواع علوم القرآن ينهض وحده حجة على أن ذلك النبي الأمي الذى بعث في تلك
الجاهلية العمياء كان ينطق بوحي من الله ولم يعلِّمه بشر بل خفيت هذه المعارف
العلية عن أفهام أكثر البشر حتى بعد مجيء القرآن بها وإنما صدقها آنًا بعد آن
برؤية آياته تعالى في الآفاق وفي ترقي البشر في أنفسهم كما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} (فصلت: ٥٣) .
فعلى المسلمين أن يعلموا أنهم أُخذوا بذنوبهم، لا بقوةٍ غلبتهم على حقهم،
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: ٣٠) وأن معظم هذه
الذنوب على عواتق رؤسائهم وكبرائهم، فلا يعذرون باستبدادهم واستعلائهم، وعلى
العقلاء وأهل البصيرة منهم وهم محل الرجاء في كل أمة استعدت للحياة - أن
يعلموا أن ليس لهم إمام يدعون إليه، ويجمعون الكلمة عليه، إلا هذا القرآن الذى لا
يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، فعليهم أن يجتمعوا لهذه الدعوة وأن
يتناصروا في سبيلها وأن لا ينتظروا نصر الحق من المبطلين، ولا يتوانوا فيها
خوفًا فإن هذا الأمر إذا خرج من أيديهم يوشك أن لا يعود إليهم.
إن الإسلام لا يُنصر في الدنيا بالأماني والأحلام، ولا ينجي في الآخرة
بالخرافات والأوهام، إن أهل الحق لا يُظلمون، إن الظالمين لا يسودون، {فَإِذَا
جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (غافر: ٧٨) ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف: ٣٥) ، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: ٤٧) ، وهذه نُذُره تعالى لقوم لا يعدلون، بل هم
بربهم يعدلون، فبادروا أيها المؤمنون الصادقون {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا
وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأنفال: ٢١) ، ولا تغتروا بدينكم الذي إليه تنتسبون،
ولكنكم به لا تعملون، فلقد أنزل الذكر على مَن قبلكم فسادوا وهم عاملون، {فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم
بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: ٤٤-٤٥) وقد أنذركم ما حل بهم لعلكم تعتبرون: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً
آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلىَ مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ١٠-١٣) ، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء: ١٤) ، {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً
خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً
لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: ١٥-١٨) .