للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*]
(الخلافة والخلفاء)
(١)
ليس من غرضنا في الكلام على الخلافة بيان شروطها وانطباقها على القائم في
مقام الخلافة لهذا العهد أو عدم انطباقها، فإن هذه المباحث إنما يأتيها أرباب
الأغراض الدنيوية، بل الأمراض الروحية، الذين يثيرون رواكد الأوهام
ويسيرون في دياجير الظلام، ونقول قبل الدخول في البحث: إن كل من يحاول
إشراب الأفهام وجوب نزع الإمامة من بني عثمان فهو عامل على الإجهاز على
السلطة الإسلامية ومحوها من لوح الوجود، وما لهؤلاء النوكى من تكأة يتكئون
عليها إلا قولهم: (الخلافة في قريش) وغفلوا أو أغفلوا الشروط المهمة التي لا
توجد اليوم في قرشيّ: كالعدالة على شروطها الجامعة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد
في النوازل والأحكام، والرأي الصحيح المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح
وجمع الكلمة. وكل الذين توسوس لهم أمانيهم بالخلافة وتطريهم جرائدهم
باستحقاقهم لها عراة من هذه الصفات التي هي أركان بناء الخلافة. وما جعل النبي
صلى الله عليه وسلم الخلافة في قريش إلا لما كان لهم من المكانة في النفوس التي
من أثرها اجتماع القلوب عليهم، والإذعان لسلطانهم عن رضا واختيار، وقد نال
هذا المعنى آل عثمان، فحصل المقصود الشرعي به.
إنما نتوخى في هذه المقالة الإلماع إلى أهم وظائف الإمامة، وكيف خرجوا بها
عن حدّها حتى صارت مثار النزاع والشقاق، بعد أن كانت معقد الاعتصام والاتفاق
فضلت الأمة بذلك عن رشادها، وفتنت في دينها، ووقعت في نيران الاختلال،
وأصليت جحيم فقد الاستقلال، وحق لأفرادها أن يقولوا: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: ٦٧) وهذا عين النصيحة لله ولرسوله
ولأئمة المسلمين وعامتهم التي أمرنا بها في الحديث الصحيح.
الإمامة الكبرى هي خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، فهي
جامعة لما يسمونه السلطة الروحية والسلطة الزمنية معًا. وقد بينا في العدد
الثاني والعشرين من جريدتنا أن نظام الاجتماع البشري لا يتم بدون هاتين السلطتين،
بل لا تتكون الأمم والشعوب إلا بإحداهما أو كلتيهما، واجتماعهما في رئيس واحد
أعظم مبدأ للوحدة القومية الكاملة، وبينا أن تفويض أمر السلطتين للقائمين عليهما
بحيث تكون إرادتهم شريعة ومشيئتهم قانونًا لا رادّ لأمرهم ولا معقب لحكمهم -
تغرير بالأمم، ويؤدي غالبًا إلى تطويحها في مهاوي العدم، وإن سعادة البشر موقوفة
على تحديد القوانين والشرائع الروحية والزمنية، وجعل الناس فيها شرَعًا لا مزية
لرئيس على مرءوس إلا بما يمتاز به المرءوسون بعضهم على بعض، ولا طاعة
لأحد على أحد فيما وراء الشريعة والقانون، وإن الديانة الإسلامية هي التي
حددت الشريعتين، وقيدت السلطتين، وألمعنا هناك إلى بعض سيرة الصحابة مع
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ذلك، فليرجع إلى العدد المذكور
من شاء.
بهذا فتح للنوع الإنساني باب كان مغلقًا عند كل الأمم والشعوب المتمدنة، وهو
ما يسمونه المبدأ الديمقراطي الذي يظهر به استعداد الأفراد، وتتجلى به قوى
الشعوب، ويرقى به أوج السيادة، وتنال به غاي السعادة. فتح هذا الباب
بمصراعيه فدخل الناس منه إلى مدنية جديدة، ما عتّم الداخلون فيها أن صاروا بعد
شدة العداء إخوانًا، وبعد الأثرة والتعدي والطمع يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة، وبعد المحاباة متساوين في الحقوق، لا فرق فيها بين أعظم عظمائهم
وبين أخس مخالفيهم في دينهم وجنسهم، وما كان لملك من ملوكهم أن ينال امتيازًا
في الحق على صعلوك من صعاليكهم، ومن شواهد ذلك أن إمامهم عمر بن الخطاب
عليه الرضوان أبى إلا أن يقتص من جبلة بن الأيهم ملك بني غسان حين لطم
أعرابيًّا مجهولاً، ففر جبلة من هذه المساواة حيث لم يكن وقر الإسلام في صدره،
ولجأ إلى النصرانية.
وصاروا بعد العبودية للأوهام والخضوع للأصنام أحرارًا، لا يخضعون لغير
الحق، ولا يداجون أحدًا في الحق، فمحيت بذلك السلطة المقدسة والطاعة العمياء،
ومحق التمرد والاستبداد، وترفعت النفوس عن الدنايا والخسائس وتوجهت إلى معالي
الأمور.
حسبك دليلاً على تقيد سلطة الخلافة في الإسلام مع الشورى قول عمر -
وكفى باسم عمر مدحًا الذي سارت به الركبان وصار مثلاً عند جميع الأمم -: (مَن
رأى منكم فيّ عوجًا فليقوِّمْه، قاله على المِنبر، فقال رجل: لو رأينا فيك عوجًا
لقومناه بسيوفنا، فقال: الحمد لله الذي جعل في المسلمين مَن يقوم عوج عمر بسيفه) .
يظن قوم أن هذا القول جاء به عمر من نفسه، والحق أنه نطق بالشريعة التي
قلبت طبيعته من أسوأ الأحوال إلى أحسنها، وقول عثمان في خطبته التي خطبها
في الناس - يوم جاء أهل الأمصار ينتصفون إليه في شأن بني أمية -: (يا أهل
الأمصار قد جئتم من البلاد البعيدة تطالبونني بأمور لم أكن أنا الذي ارتكبتها وحدي -
إلى أن قال - وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من
ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه؛ فأمري لأمركم تبع) . فتأمل قوله:
(فأمري لأمركم تبع) .
ولقد كان الأمراء وقواد الجيوش من الصحابة يُسألون من الروم وغيرهم عن
الإمارة، يقال لأحدهم: هل أنت أمير هؤلاء القوم؟ وإنما يسألونه لأنه مساوٍ لقومه،
لم يتميز عنهم في شارته وزيه فيقول: هكذا يقولون ما دمت على طاعة الله
تعالى، فإذا خالفت وعصيت فلا طاعة لي عليهم، أو لا إمارة لي عليهم. ومثل هذه
الشواهد في كلامهم كثيرة جدًّا، وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد.
لولا أن المسلمين كافة كانوا يعلمون أن الإمام مقيد بالشريعة التي توجب عليه
تحري مصلحة الأمة في كل عمل يعمله لها، وأنه مؤاخَذ على كل خطأ، لما وفد
أهل الأقطار على المدينة المنورة يناقشون عثمان - عليه الرضوان - الحساب
على ظلم عماله الأمويين، وتألبوا على خلعه أو قتله ثم قتلوه - ظلمًا - بغير محاكمة
شرعية، فأهين بهذا التطرف في الحرية والغلو في الافتئات مقام الخلافة الذي كان
حفاظ الدين، وأعقبه التفرق والشقاق، وكانت تلك الصدمة الأولى التي لم يندمل
جرحها حتى اليوم. أهين ذلك المنصب الشريف الذي كان المرجع في حل
المشكلات، والضياء في ظلمة الشهبات، فانفصمت عروة الوحدة وانحلت ربط
(بضمتين جمع: رباط) الاجتماع، ونجم عن التفرق في الخلافة التفرق في الدين
نفسه بحدوث المذاهب المختلفة، ومن الذي يرد ذلك التعدد إلى توحد، والافتراق إلى
اجتماع وهو من وظائف الخلافة التي نحدث عنها.
من غُص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء؟
كانت حرمة الخلافة تبيح لعبد حبشي كبلال - رضي الله عنه - أن يعتقل
سيد بني مخزوم، وفاتح بلاد الرومان (الشام) بعمامته في ملأ من الناس ويقوده
إلى أبي عبيدة ليناقشه الحساب، أو يبعثه إلى الخليفة الذي أمر بذلك.
ومن هنا تعلم فائدة استخلاف الإمام قبل موته من توفرت فيه الشروط، وهي
قطع عروق الخلاف الذي هو مدعاة الفتنة ومبعث الشقاق والهرج كما حصل، سنة
استنها الخليفة الأول وأجمع الصحابة على قبولها، وجنوا ثمار منافعها، ولكن الأمة
إذا انتكست - والعياذ بالله تعالى - انقلبت منافعها إلى مضار، وتحولت وجوه
مصالحها إلى مفاسد، وكذلك كان شأنهم في الاستخلاف، اتخذوه وسيلة إلى جعل
الخلافة إرثًا محضًا محصورًا في الأقربين والأهل، وإن كانوا ليسوا بأهل،
واشترعوا في ذلك شرعًا لم يأذن به الله، وفات بهذا التوارث معنى اختيار أهل
الحل والعقد من الأمة من يرونه صالحًا لهذا المنصب، فوسد الأمر إلى غير أهله،
وهي الصدمة الثانية التي صدم بها الإسلام وأهله، وإذا أضفتها إلى الصدمة الأولى
وهو تعدد الخلفاء يتجلى لك أنهما كانتا كافيتين لمحو السلطة الإسلامية من القرن
الأول وعدم امتدادها، ولكن روح الدين نفسه كانت في ريعان شبابها فقويت على
أعراض هذه الأمراض العارضة، فلم يظهر أثرها إلا بعد ضعف الدين نفسه، كذلك
يطرأ على الجسم في طور الشباب داء دوي فتدفع أعراضه قوة المزاج، حتى لا
تكاد تظهر، فإذا ألمّ بالمزاج ما أضعفه من كبر أو غيره نَمَتْ جراثيم الداء وظهرت
أعراضه، نعم تغلّب الإسلام بقوته المساوقة للفطرة فكانت طبيعة الوجود مساعدة له
على تدفق سيله الذي أروى العالم وامتداده الذي لم يعهد له نظير في التاريخ.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))