للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من سنغافوره
ورأي عالم في المنار والمسلمين

(س ٦-٩) من خ. م. س. في سنغافوره
تشرفت بلقاء بعض الفضلاء من علماء المسلمين فانجر بنا الحديث إلى ذكر
الأحوال الحاضرة فيما للإسلام والمسلمين فيه وعليه , فجرى ذكر المنار المنير
فأثنى عليه بما هو أهله ثم شافهني بقوله: تنبه كثير من المسلمين بدعاء المنار إلى
الله تعالى وتمحيصه للحقائق , وإني أرفع إليك هذا لترفعه إلى المنار الأغر لينشره
على صفحاته مؤملاً منه أن يبسط لنا في الجواب على ما سألناه وما ضالتنا
المنشودة إلا الإرشاد إلى الحق (وهذا ما قاله ذلك الحكيم) :
ضرب الجهل أطناب خيامه في بعض البلاد الإسلامية التي كان لسلفها القدح
المعلى في العلوم والمعارف والأعمال حتى صارت الآن خلوًا من كل ما يطلق عليه
اسم (مجد) بل لا يبعد إن قلنا: إن من فيها من الخلف ضد لسلفهم , وقد أهملوا
كل شيء من المجد اتكالاً على مجد من سلف حتى إذا ما عرا حادث اتكلوا في دفعه
على سكان الأضرحة فتراهم يعتقدون في صالحي أمواتهم أنهم مطلعون على أي
حادث عرا وأنهم إن شاءوا دفعه عنهم دفعوه , وإن رأوا في إبقائه صالحًا أبقوه
وتراهم يقدسون تلك البقاع التي لم يرد في الشرع تقديسها , ويرون في مطلق
الإقامة بها شرفًا وفضلاً وإن كان المقيم بها خلوًا عن كل فضل وشرف.
فهل أنزل الله بهذا من سلطان؟ وهل فيما يعتقدونه شيء ورد به الكتاب
والسنة؟ وهل فيما إذا ورد عن سلفهم شيء ولم نجد له دليلاً من الكتاب والسنة
فعلى ماذا يكون حمله؟ وهل يجب على أحد التصديق بالولاية لشخص معين؟
وماذا يكون حكم من رد شيئًا من كلامهم في نحو ما ذكر أعلاه ولم يعترف بولاية
أحد معين؟ وقد جاء من نحو هذا في بعض أعداد المنار السالفة ما جاء , والأمل
في حضرة الأستاذ الرشيد المرشد أن لا يحيلنا على ما سبق ويبسط لنا في جوابه
على ما ذكرناه فضلاً , وليكن في معلومكم سيدي أن هذا الداء قد أزمن في كثير من
بلدان المسلمين فيحتاج إلى معالجته بدواء فيه قوة لاستئصاله - فلعل أن يكون دعاء
المنار إلى الحق بالحق مقبولاً عند أولئك , كما أنه قبل دعاء المنار كثير ممن ضلوا
فأضلوا ثم اهتدوا فهدوا -.
(المنار)
ترجع هذه الأسئلة إلى أربع مسائل:
(١) الدليل على دعاء الموتى أي التماس دفع الشر وجلب الخير منهم.
(٢) ما يرد عن العلماء ولا يعلم له دليل.
(٣) حكم من رد كلام العلماء الذي لا دليل عليه.
(٤) الاعتقاد بولاية شخص معين من الناس أي أن له مكانة عند الله خاصة
به في الدنيا والآخرة.
وإن كثيرًا من قراء المنار قد سئموا كثرة الكلام في مسألة التوسل بالموتى إلى
قضاء الحاجات , ولكن فتنة الناس بها وتجدد قراء كثيرين للمنار في كل عام لم
يطلعوا على ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم إليه يوجب علينا مع تجدد السؤال
عنها أن نبين الحق فيها فنقول:
مسألة دعاء الموتى والتوسل بهم
(ج ٦) لو كان الكلام مع أناس من أهل العلم والبصيرة لكان يكفينا في بيان
بدعتهم في ذلك أن نقول: إن ما تأتونه لم يأذن به الله في كتابه ولا على لسان
رسوله , ولم يأتِ بمثله صالح المؤمنين من الصحابة والتابعين وهو أمر ديني
محض لا مجال للرأي فيه فمن يقول به يكون منازعًا لله تعالى في شرع الدين كما
قال تعالى في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: ٢١) .. الآية. فإن ادعوا أن أحدًا من السلف دعا ميتًا أو طلب
منه حاجة أو صلى عند قبره أو تمسح به أو قصده للدعاء أو قال: إن الدعاء عنده
أرجى للإجابة- طالبناه بالنقل ولن يجده وإنما قصارى احتجاجهم أن بعض مشايخ
التصوف الذين اشتهروا بالصلاح كانوا يتبركون بالقبور. والجواب عنه سهل لمن
يعرف ما هو الإسلام، فإن علماء أصول الدين حصروا الحجج الشرعية في الكتاب
والسنة والإجماع والقياس. ولا ينهض شيء من ذلك هنا، أما الكتاب والسنة
والإجماع فإن طريقها النقل ولم ينقل ذلك أحد؛ وأما القياس فإنه لا يأتي في الأمور
التعبدية ولا فيما يتعلق بشأن عالم الغيب , والمسألة من هذا القبيل لأن المفتونين بها
فريقان: غلاة يزعمون أن الموتى يقضون حاجاتهم بأنفسهم لأن أرواحهم مأذونة
بذلك , وقال بعضهم: بل هي تعود إلى أجسادها التي لا تفنى وتقضي الحاجة كما
كان شأنها في الحياة الدنيا، وأنت ترى أن هذا نبأ عن عالَم الغيب وهو لا يعرف
إلا بالوحي كما قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: ٢٦-٢٧) .. الآيات وفيها أن الرسول يطلعه الله
تعالى على ما يريد أن يبلغه عنه من أمر عالم الغيب كالجنة والنار والملائكة والجن.
وأما الآخرون فيقولون: إن الله تعالى يقضي حاجة من يدعوهم كرامة لهم.
وهذا حكم على الله تعالى وهو أعلى أحكام عالم الغيب , ولا قياس فيه فهو يتوقف
على نص من الوحي وإلا كان من القول على الله بدون علم وهو من كبائر الإثم
المقرونة بالكفر وهي أصول المحرمات في كل دين شرعه الله كما بينه تعالى في
قوله في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) .
على أن هذه المسألة - مسألة التماس دفع الضر أو جلب النفع من غير الله
استقلالاً أو بالوساطة والشفاعة - لم تكن لتترك فلا يبين حكمها في القرآن وهي
أصل الوثنية وأساسها في جميع الأمم , ولذلك فتن بها أهل الكتاب فاتخذوا وسطاء
وشفعاء بينهم وبين الله تعالى غير وسطاء أجدادهم أو خلطائهم من الوثنيين فهم لا
يخالفون الوثنيين في أصل هذه العقيدة وحقيقتها، وإنما خالفوهم في مظهرها
وصورتها، إذ اعتقدوا الوساطة والشفاعة مثلهم وجعلوا لهم شفعاء ووسطاء من
أنفسهم غير وسطاء أولئك وشفعائهم. أفرأيت دين التوحيد الخالص يسكت عن هذه
المسألة ويدعها للفقهاء يحكمون فيها بقياسهم وهي تتعلق بأساس الدين وركنه الركين
وهو التوحيد؟ ! .
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨) أي أنهم باتخاذ الشفعاء يعبدون غير الله
لأن هذا عين العبادة , ولكنهم يقولون: إن هذه شفاعة عنده فهي لا تخل بتعظيمه
بل هي تعظيم لهم كما تعظم الملوك إذ لا يتجرأ الحقير على دعائهم إلا بواسطة
المقربين عنده. وقد نفى سبحانه هذه الشفاعة في آيات كثيرة قال تعالى في سورة
البقرة: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة} (البقرة: ٤٨) ، {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: ١٢٣) ، {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَة} (البقرة: ٢٥٤) وقال في سورة المدثر:
{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: ٤٨) وقال في سورة الأنعام: {وَأَنذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأنعام: ٥١) ، {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ
بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} (الأنعام:
٧٠) .. الآية ومعنى (تبسل) تسلم إلى الهلاك أي أن الذين تدفعهم أعمالهم إلى
الهلاك لا تنجيهم من عاقبتها شفاعة أحد , والآيات في هذا كثيرة وارجع إلى
التفسير من هذا الجزء تجد الكلام في معناها مفصلاً.
وكانوا يطلقون على هؤلاء الشفعاء لقب الأولياء كما تلوت في آيتي الأنعام
آنفًا ومثلهما آية (الم) السجدة: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: ٤) وقال تعالى في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ
لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الزمر: ٣-٤) فدلت الآية الثانية على أن من
جملة هؤلاء الأولياء المسيح عليه الصلاة والسلام والملائكة أي أن الناس
يتقربون بأشخاصهم وذواتهم إلى الله تعالى زلفى , وهذا باطل إذ لا يتقرب أحد إلى
الله تعالى بأحد إنما يُتقرب إليه تعالى بالعمل الصالح وإخلاص القلب مع الإيمان
الصحيح. وأنت تعلم أن كل ما يعتقده المبتدعون في أصحاب القبور الصالحين هو
من هذا القبيل أي أن التوسل بأشخاصهم يقرب من الله تعالى ويكون وسيلة لقضائه
سبحانه وتعالى حاجة من يدعوهم ويتقرب بهم. ولذلك قال تعالى في سورة الإسراء:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: ٥٦-٥٧) أي أن أولئك الأولياء
الذين يدعونهم لكشف الضر عنهم أو تحويله توسلاً بهم كالمسيح - هم أنفسهم
يطلبون الوسيلة إلى الله تعالى بعبادته ويرجون رحمته باتباع سنته والعمل بشريعته
ويخافون عذابه إذا قصروا، حتى إن أقربهم من مرضاته هو أخوفهم منه وأرجاهم
له. ذلك بأن عذاب الله في الدنيا والآخرة مخوف ومحذور في نفسه لأن لله فيه سننًا
لا تتبدل يوشك أن يخالفها المرء من حيث يدري أو من حيث لا يدري وأن القلوب
تتقلب وأنه لا يجب لأحد من خلقه عليه شيء ولذلك قال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:
١٧) فبمثل هذه الآية يهدينا سبحانه إلى أن ملائكته وأنبياءه وأولياءه ما كانوا
ليرجون رحمته إلا بفضله عليهم إذ جعلهم محلاً لطاعته وإرشاد عباده فلا نغلو في
تعظيمهم حتى ننسى كونهم عبيدًا له إن شاء أن يهلكهم فعل؛ لئلا نطلب منهم نفعًا
أو ضرًا. ومن ثم قرن الله خشيته بالعلم وجعله من أسبابها كما قال: {إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: ٢٨) وفي حديث الصحيحين عن عائشة قالت:
(صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه , فتنزه عنه قوم فبلغه ذلك ,
فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون من الشيء أصنعه
فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) .
ثم إن ما يطلب من أصحاب القبور وغيرهم يعبر عنه بالدعاء كما قال في
الآية السابقة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ..} (الإسراء: ٥٧) .. إلخ , وقد احتج
القرآن على بطلان هذا الدعاء بقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن
قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: ١٣-١٤) ومثلها آيات كثيرة.
وقوله في نهي المؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء الوثنيين في طلب شيء أعوزهم نيله
بسببه من غير الله تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:
١٨) .
هذا ولما كان أكثر الوثنيين قد فتنوا برجال من صالحيهم حتى اعتقدوا أنهم
بعد موتهم ينفعون ويضرون وكانت هذه الفتنة قد سرت إلى أهل الكتاب فاتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله , وصاروا يبنون عليهم الكنائس أو ينسبونها
إليهم ويتوسلون بهم إلى الله تعالى , ويعتقدون أن الله يقضي حاجاتهم بجاههم أو أنه
أعطاهم قوة قضائها بأنفسهم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على
القبور وعن عمارة القبور نفسها وعن وضع السرج عليها , بل ونهى عن زيارتها
في أول الإسلام ولما تمكن التوحيد رخص في زيارتها بقصد الاعتبار بالموت
وتذكر الآخرة ففعل المسلمون في هذه الأزمنة كل ما نهى عنه ولعن فاعله ومن
ذكَّرهم ونهاهم عن هذه البدع أنكروا عليه بأنه هو المبتدع لأنه منكر لزيارة القبور
كأن زيارة القبور تحمي كل تلك البدع التي هي شعار الوثنيين مع أن الصحيح في
الأصول عند الجمهور أن الأمر بالشيء بعد النهي عنه إنما يدل على إباحته لا
وجوبه أو ندبه , وهبْ أن الأمر بالزيارة بعد حظرها للندب أو الاستحباب أليس قد
عللت بعلة تذكر الآخرة فإذا فعلت لعلة أخرى كدعاء الميت وطلب الاستفادة منه أو
به تكون قد خرجت عن دائرة الإذن ودخلت في باب المحظور الذي لم يأذن به الله؟.
ومن عجائب تلاعب الأهواء بالمبتدعين أن كل ما ورد من التشديد في بناء
القبور وتشريفها والبناء عليها ووضع السرج عندها واتخاذها مواسم وأعيادًا لم
يقصد به إلا سد باب الاعتقاد بأن صالحي الموتى ينفعون الأحياء ويضرونهم كما أن
النهي عن التصوير وعن اتخاذ الصور بصفة تشعر بالتعظيم لم يقصد به إلا المنع
من تصوير من يعظمون تعظيمًا دينيًا كما هو شأن الوثنيين ومن تبعهم من أهل
الكتاب. الأمران من باب واحد ولكن علماء المسلمين سكتوا للعوام على ضلالهم في
القبور حتى لا تكاد ترى في مثل هذه البلاد مسجدًا ليس فيه قبر مبني مشرف يقصد
للتوسل به وطلب دفع الضر وجلب الخير منه ولكنهم يشددون في التصوير واتخاذ
الصور وإن لم تكن فيها شائبة الدين ولا الشبهة على الاعتقاد أو التعظيم وإننا نختم
هذا الجواب بشيء مما ورد في القبور.
قال صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر
ما فعلوا) رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة زاد مسلم:
والنصارى , قالت عائشة: ولولا هذا لأبرز قبره. فالسبب في حجب قبره صلى
الله عليه وسلم عن أعين الناس منعهم من تعظيمه أو التماس المنفعة منه مع أنه هو
الذي خاطبه الله تعالى بقوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ١٨٨) ومثلها آيات. وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن
يموت بخمس: (إن من قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) .
وفي الصحيحين أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها
فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك
الصور أولئك هم شرار الخلق عند الله يوم القيامة) وفي مسند أحمد وصحيح أبي
حاتم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة
وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد) وفي سنن أبي داود وغيره عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا) وفي موطأ مالك عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد) وما عبادة القبر إلا تعظيمه وطلب الحوائج ممن دفن فيه ,
ومن التعظيم الذي هو عبادة الطواف به كما يطاف بالكعبة والتمسح بها التماسًا
للبركة وللشفاء وتقبيله. فإن من نهى صلى الله عليه وسلم عن مثل فعلهم كانوا
يفعلون ذلك. وفي مسند أحمد وسنن أبي دواد والترمذي والنسائي عن ابن عباس
أنه قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) وفى إسناده
أبو صالح باذام تكلم فيه ويعضده ما تقدم.
وأما آثار الصحابة في ذلك فكثيرة. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير
سورة الإخلاص وغيره أنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في
سفر فرأى قومًا ينتابون مكانًا للصلاة فسأل عن ذلك فقالوا: هذا مكان صلى فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا إنهم اتخذوا آثار
أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فليصلِّ وإلا فليمضِ، وبلغه أن قومًا يذهبون
إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها فأمر بقطعها.
وأرسل إليه أبو موسى يذكر له أنه ظهر بتُسْتَر قبر دانيال وعنده مصحف (أي
كتاب) فيه أخبار ما سيكون وأنهم إذا أجدبوا كشفوا عن القبر فمطروا , فأرسل إليه
عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا يدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه
الناس لئلا يُفتنوا به.
(قال شيخ الإسلام) : فاتخاذ القبور مساجد مما حرمه الله ورسوله وإن لم
يبن عليها مسجدًا ولكن بناء المساجد عليها أعظم. وكذلك قال العلماء: يحرم بناء
المساجد على القبور , ويجب هدم كل مسجد بني على قبر , وإن كان الميت قد قبر
في مسجد وقد طال مكثه سُوي القبر حتى لا تظهر صورته فإن الشرك إنما يظهر
إذا ظهرت صورته , واستدل على هذا الأخير بأن المسجد النبوي كان مقبرة فنبشت
وسويت , وما ذكره في هدم المسجد المبني على قبر، نقل نحوه ابن حجر في
الزواجر , وقد نقلنا عبارته في المنار من قبل.
وجملة القول: إن الله تعالى لم يأذن بأن يُدعى غيره لدفع ضر أو جلب نفع
لا على أنه مستقل بذلك ولا على أنه واسطة بينه وبين عباده في الخلق والتقدير ,
وإنما حصر الواسطة بينه وبين عباده بتبليغ دينه وشرعه إليهم على لسان رسوله
وقد حصر خصوصيتهم بهذا التبليغ في آيات كثيرة وبين أنهم لا يمتازون عن سائر
الناس بشيء وراء الوحي وما يستلزمه من الصفات كالصدق والأمانة وأنهم لا
يقدرون على نفع أحد ولا ضره بالفعل حتى بالهداية والرشد , ومن حكمته أن كان
بعض آبائهم وأبنائهم وأقاربهم كفارًا ليعلم الناس أنه لو كان لهم من الأمر شيء
لهدوا جميع أقاربهم وأنقذوهم من عذاب الدنيا والآخرة. أفبعد هذا كله يكون لمدعي
الإسلام وجه ما لدعوى أن الأموات الصالحين يملكون كشف الضر أو تحويله عن
الناس وجلب المنافع لهم وذلك من الوثنية الصريحة {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ *
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} (النور: ١٦-١٨) [١] .
***
أقوال العلماء بغير دليل
(ج ٧) لا حجة في قول أحد بالدين دون قول الشارع , ويجب رد كل قول
لم يؤيد بدليل بالحديث المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
أي مردود , وبذلك صرح الأئمة المشهورون , قال أبو الليث السمرقندي: حدثنا
إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: (لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم
من أين قلنا) وروي عن أصحابه مثل ذلك , وفى رواية: (ما لم يعرف دليلنا)
وممن نقل عنهم ذلك الشعراني وولي الله الدهلوي. وفي روضة العلماء من كتبهم:
(قيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لكتاب
الله. فقيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه قال:
اتركوا قولي لقول الصحابة) .
وروى الحافظ ابن عبد البر بسنده إلى معن بن عيسى قال: سمعت مالك بن
أنس يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب
والسنة فخذوه , وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه، ورواه غيره أيضًا. ومن
المشهور عن مالك أنه كان يقول عند التحديث في الحرم النبوي الشريف: كل أحد
يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى الروضة الشريفة
وقال الإمام الشافعي في كتابه الأم في أثناء كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد
دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) وله أقوال في هذا
المعنى كثيرة يكفينا منها هذا النص الصريح فيما نحن فيه , وأتباعه من أكثر الناس
أقوالاً في ذلك , وكذلك الحنابلة ولذلك كثر المجتهدون ممن تفقه في هذين المذهبين؛
أما الإمام أحمد فهو أشد الناس براءة من القول بغير دليل , وقد سأله أبو داود عن
الأوزاعي ومالك أيهما أتبع؟ فقال: (لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن
النبي وأصحابه فخذه، وقال: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي
ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا) أي من الدليل. وما قاله هؤلاء الأئمة المهتدون
هو ما أجمع عليه السلف , ولكن الغلو في تعظيم الإنسان لشيوخه وشيوخهم وثقته
بهم من أسباب ترك الدليل إلى أقوالهم بل من أسباب اتباعهم في أقوالهم وأفعالهم ,
وكم من رجل جهول قلده الجاهلون لأنهم اعتقدوا صلاحه فقالوا ما كان لمثله في
تقواه وورعه أن يقول أو يعمل إلا ما يعلم أنه حق، وهذا قول مردود بلا نزاع
فالصالح غير معصوم فقد يخطئ جهلاً وقد يخطئ سهوًا وعمدًا.
***
حكم من رد كلام العلماء الذي لا دليل عليه
(ج ٨) حكم من رد كلام العلماء لأنه لا دليل عليه أنه اتبع الحق واهتدى
بالقرآن وسار على طريقة السلف الصالحين والأئمة المرضيين - كما علمت.
***
الاعتقاد بولاية شخص معين
(ج ٩) إن ما يعتقده عوام المسلمين في الولاية والأولياء في هذه الأزمنة لم
يكن معروفًا في صدر الإسلام بالمرة , فلم يكن الصحابة يدعون بعض عبادهم
بالأولياء. والولي في اللغة: الناصر والصديق ومتولي الأمر , وجاء في القرآن أن
لله أولياء وللشيطان أولياء , وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار والمنافقين
بعضهم أولياء بعض. فولي الله من ينصر دينه ويقيم سننه وشريعته وولاية
المؤمنين بعضهم لبعض عبارة عن تناصرهم في إعلاء كلمته وإقامة دينه وشريعته.
والله ولي الذين آمنوا بمعنى أنه هو الذي يتولى أمورهم , وليس لهم من دونه ولي
ولا نصير؛ فمن اتخذ وليًا يعتقد أنه يتولى بعض أموره في غير ما يتعاون به
الناس بعضهم مع بعض فقد اتخذه شريكًا كما علمت من آية الزمر التي مرت في
جواب السؤال السادس ومثلها آيات كثيرة.
ليس لمؤمن أن يعتقد جزمًا أن أحدًا من الناس بعينه قد مات وهو ولي لله
تعالى مرضي عنه له في دار رضوانه ما وعد به أولياءه، لأن ذلك تعدٍّ على علم
الغيب , وقول على الله بغير علم , وقد أجمع العلماء على أن الخاتمة مجهولة وأنه
لا يقطع لأحد بالموت على الإيمان وبكرامة الله له بالجنة إلا بخبر عن الشارع ,
وإنما نحسن الظن بجميع المؤمنين , ومن عرفنا استقامته على الشرع كان ظننا فيه
أحسن ورجاؤنا له بفضل الله أكبر. أخرج البخاري في صحيحه عن أم العلاء -
امرأة من الأنصار - أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عليهم بالقرعة , قالت:
فطار لنا - أي وقع في سهمنا - عثمان بن مظعون من أفضل المهاجرين وأكابرهم
ومتعبديهم وممن شهد بدرًا فاشتكى فمرضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه دخل
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي
عليك لقد أكرمك الله تعالى. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك
أن الله أكرمه؟) فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير. ما
أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي) ، قالت: فوالله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا. فهذا
الحديث الصحيح يكفي في قطع ألسنة المفتاتين على الله الذين يجزمون بأن فلانًا
وفلانًا ممن يعرف وممن لا يعرف من أولياء الله المكرمين عنده قطعًا، وأن لهم
فوق ذلك السلطان في عالم الغيب وعالم الشهادة , وما أجهلهم بالله وكتابه وبهدي
رسوله وسيرة سلف الأمة الذين نقل عنهم في الخوف وعدم الجزم بأمر الآخرة - ما
فيه عبرة للجاهلين لو كانوا يوعظون به حتى أن المبشرين بالجنة من الصحابة ما
كانوا يأمنون مكر الله وكانوا يقولون: ما يدرينا أن النبي صلى الله عليه وسلم
بشرنا بشرط الاستقامة على ما كنا عليه معه وأننا فُتنّا من حيث لا ندري.
***
خلق آدم وعيسى
لم يكتفِ الشيخ قاسم محمد أبو غدير بما ذكرنا في هذه المسألة التي سأل عنها ,
فكتب إلينا في ١٤ المحرم يطلب نشر أسئلته التي كان أرسلها إلينا بنصها
والجواب عنها بالتفصيل في أول جزء يصدر بعد كتابته هذه (لأهمية الموضوع) ,
وإننا لا نرى الموضوع بالعين التي رآها به , وإنما يصح أن يعتنى به هذا
الاعتناء إذا ثبت مذهب دارون بطريق القطع الذي لا يحتمل الشك والارتياب فعند
ذلك يجب علينا نحن المسلمين أن نبذل جهدنا في تأويل الآيات الواردة في خلق آدم
بمثل ما تقدم الإشارة إليه أو بغيره فإن لم نقدر انتصر دارون على القرآن ويثبت
بطلانه (حاش لله) أما الآن فإننا نعتقد في المسألة ما يدل عليه ظاهر الآيات من
غير تأويل. وأما ما ذكره الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي من التأويل فهو في
باب دفع الشبهات والرد على المعترضين , ولا يكلف السائل ولا غيره أن يتخذه
عقيدة له.
لهذا نرى أن لا حاجة إلى التطويل الذي يطلبه إذ لا فائدة له , فالمسلم لا
يترك الظاهر ويلجأ إلى التأويل إلا إذا عرضت له الشبهة أو أوردت عليه , وما
كان لنا أن نجتهد في إبطال تأويل يراد به تثبيت عقيدة مشتبهة أو رد شبهة
معترض فليتدبر.
هذا وإن أسئلته قد جعلت في اللقا من الورق بعد ذلك الجواب المجمل , وقد
أردنا مراجعتها عند كتابة هذه الكلمات فلم نظفر بها.