للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة أجوبة الأسئلة الجاوية في السماع

(تنبيه) رأى بعض فضلاء المصريين أننا أطلنا في هذه المسألة أكثر مما
تستحق وذلك أنه يندر أن يوجد في مصر من يتحامى السماع ولكن الجمود في كثير
من البلاد على تقليد المعسِّرين لا يلين إلا بأكثر من هذا , والمنار ليس خاصًّا
بالمصريين.
البحث في السماع من جهة القياس الفكري
يرى القارئ المنصف أن ما قاله الشوكاني (ونشرناه في الجزء الماضي هو
صفوة التحقيق إلا أن في إدخاله السماع على الإطلاق باب الشبهات نظرًا؛ فإن ما
ثبت في الصحيح من سماع النبي صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه يدفعه , فإنهم
أبعد الناس عن الشبهات , وقد سمعوا مع تسميتهم ذلك بمزمار الشيطان وباللهو.
والذي يظهر من أحاديث الإباحة التي تقدمت أن قول من قال باستحباب السماع أو
ندبه ينبغي أن يحمل على ما يكون في الأوقات والحالات التي يستحب فيها تحري
السرور كالعرس والعيد وقدوم الغائب. فإن السماع فيما عدا هذه الأوقات والحالات
مباح لذاته بشرط عدم الإسراف فيه , فإن الإسراف ضار بالأخلاق مسقط للمروءة ,
وهذا هو مراد الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله في الأم: إن الغناء لهو مكروه
يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته , وقوله: إن صاحب الجارية
إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، وقد يقال: إنه يقرب أن يكون ديوثًا
لأنه إذ لم يغَرْ على جاريته أن تطرب الناس بصوتها فربما كان لا يغار عليها مطلقًا.
وقولنا: مباح لذاته، يتفق مع قول الغزالي ومن وافقه بمنع ما كان فيه تشبه
بأهل الفسق في شعارهم الخاص بهم قال في الإحياء: (ولهذه العلة نقول: لو
اجتمع جماعة وزينوا مجلسًا , وأحضروا آلات الشرب وأقداحه وصبوا فيها
السكنجبين , ونصبوا ساقيًا يدور عليهم ويسقيهم فيأخذون من الساقي ويشربون
ويحيي بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم؛ حرم ذلك عليهم وإن كان المشروب
مباحًا في نفسه لأن في هذا تشبهًا بأهل الفساد , بل لهذا ينهى عن لبس القباء وعن
ترك الشعر قزعًا على الرأس في بلاد صار القباء فيها من لباس أهل الفساد ولا
ينهى عن ذلك فيما وراء أهل النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم. فلهذه المعاني
حرم المزمار العراقي والأوتار كلها كالعود والصنج والرباب والبربط وغيرها وما
عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل
والقضيب وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل
الشرب؛ لأن كل ذلك لا يتعلق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب
التشبه بأربابها فلم يكن في معناها فبقي على أصل الإباحة قياسًا على أصوات
الطيور وغيرها. بل أقول: سماع الأوتار ممن يضربها على غير وزن متناسب
مستلذ حرام أيضًا. وبهذا تبين أنه ليست العلة في تحريمها مجرد اللذة الطيبة , بل
القياس تحليل الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: ٣٢) فهذه
الأصوات لا تحرم من حيث هي أصوات موزونة وإنما تحرم بعارض آخر. اهـ
كلام الغزالي وتكلم في مكان آخر عن العوارض.
فهذا القول هو أحسن ما قيل في القياس كما أن القول السابق هو أحسن ما قيل
في السنة وأجمعه. وأنت تعلم أن التشبه بأهل السكر والخلاعة إنما حرم لما فيه من
مهانة المؤمن وضعته , فإذا سمع المؤمن الأوتار في مجلس لا يعد فيه متشبهًا بأهل
السكر والفسق كأن يسمعه في بيته أو بيت آخر بصفة لا تشبه فيها فلا مجال للقول
بالتحريم , فالأمر في الأوتار كالأمر في لبس القباء (هو القفطان في عرف
المصريين والغنباز في عرف الشاميين) فقد حرمه الغزالي في بلاد وأباحه في
أخرى لعلة التشبه وعدمها , وما قاله في إباحة سائر الآلات يدخل فيه آلات
الموسيقى العسكرية وأمثالها فتبين بهذا أنه لا وجه في القياس الصحيح لتحريم سماع
المعازف على الإطلاق كما أنه لا وجه لها في كتاب ولا سنة بل الوجه ما تقدم.
ومن العوارض التي لا بد من التنبيه إليها كون السماع يهيج السامع فيدفعه إلى
المعاصي؛ فمن علم من نفسه ذلك حرم عليه، هذا ما يليق بدين الفطرة الذي جمع
لمتبعيه بين سعادة الدنيا والآخرة والله أعلم وأحكم.

الكلام على عبارات الأسئلة
أما قول السائل في السؤال الأول: إن الغزالي حرم ما هو شعار أهل الشرب
إلخ فيقال فيه: إن ما صرح به الغزالي هو أن الأصل في سماع الغناء
والمعازف الحل كما تقدم , وتحريم سماع الأوتار لعلة التشبه بالفساق يزول بزوال
هذه العلة كما قال في لبس القباء. وما ذكره فيه عن ابن حجر من العلة الأخرى
وهي كون اللذة بالسماع تدعو إلى الفساد فهو محل نظر , إذ السماع - كما قال
بعض العلماء - إنما يحرك الساكن ويستخرج الكامن فمن لم يكن من أهل الفساد لا
يدعوه إلى الفساد , وأشد السماع تأثيرًا في النفس سماع ألحان النساء وقد سمعها
الشارع وكبار أصحابه , وقد أطال الغزالي في بيان اختلاف الحكم باختلاف أحوال
الأشخاص وأن ذلك لا يمنع أن الأصل فيه وفي جميع اللذات الإباحة. والحديث
الذي أورده فيه عن كتاب النصائح وهو (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل
بها البلاء..) وذكر منها اتخاذ القينات والمعازف وفسرها بالملاهي من الأوتار
والمزامير لم نذكره في أحاديث الحظر لشدة ضعفه ولأجل الكلام عليه هنا. فنقول:
قد رواه الترمذي عن صالح بن عبد الله عن الفرج بن فضالة الشامي عن يحيى بن
سعيد عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب مرفوعًا: (إذا فعلت أمتي خمس
عشرة خصلة حل بها البلاء) قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: (إذا كان المغنم
دولاً , والأمانة مغنمًا , والزكاة مغرمًا , وأطاع الرجل زوجته وعق أمه , وبر
صديقه وجفا أباه , وارتفعت الأصوات في المساجد , وكان زعيم القوم أرذلهم ,
وأُكرِمَ الرجل مخافة شره , وشُربت الخمور , ولُبس الحرير , واتُّخِذَتْ القيان
والمعازف , ولعن آخر هذه الامة أولها؛ فارتقبوا حين ذلك ريحًا حمراء وخسفًا أو
مسخًا) والفرج بن فضالة قد تكلم فيه، سئل الدارقطني عنه فقال: ضعيف فقيل له:
نكتب عنه حديثه عن يحيى بن سعيد (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة..) ..
إلخ؟ فقال: هذا باطل، فقيل من جهة الفرج قال: نعم. وقال أبو داود: سمعت
أحمد يقول: إذا حدث عن الشاميين فليس به بأس ولكنه عن يحيى بن سعيد عنده
مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحل الاحتجاج به , وقال مسلم: إنه منكر الحديث، ثم
إن الحديث لا يدل على تحريم سماع الأوتار؛ لأن الخصال التي ذكرت فيه منها ما
هو فضيلة كبرِّ الصديق ولكن مجموعها سبب للهلاك , وإن لم يصح الحديث لأنها
من السرف في الترف وفساد الأخلاق وإضاعة المصالح العامة والخاصة.
ابن حزم وابن طاهر الحافظان
وأما ما ذكر في السؤال الثاني عن ابن حجر الهيتمي من الطعن في ابن حزم
وفي ابن طاهر فهو مما اعتاد ابن حجر مثله , وهو معدود عليه من غلوه في
التعصب لأقوال علماء مذهبه , وابن حجر ليس من طبقة ابن حزم الحافظ الإمام
المجتهد ولا من طبقة ابن طاهر , وإنما يعرف قدر ابن حزم الحافظ ابن حجر
العسقلاني إمام المحدثين في زمنه وبعد زمنه. وقد ذكر له ترجمة طويلة في طبقات
الحفاظ قال فيها: وكان إليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم ,
وكان شافعيًّا ثم انتقل إلى القول بالظاهر , ونفى القول بالقياس وتمسك بالعموم
والبراءة الأصلية , وكان صاحب فنون فيه دين وتورع وتزهد وتحرٍّ للصدق , ثم
قال: وقال صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام
وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر ومعرفته
بالسنن والآثار. أخبرني ولده الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه أبي محمد من
تواليفه أربع مائة مجلد تحتوي على نحو من ثمانين ألف ورقة. قال الحميدي: كان
أبو محمد حافظًا للحديث وفقهه مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة متقنًا في علوم
جمة عاملاً بعلمه ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس
والتدين، وكان له في الأدب والشعر نفس واسع وباع طويل ما رأيت من يقول
الشعر على البديهة أسرع منه.. إلخ، ثم نقل الحافظ ابن حجر عن شيخ الإسلام
العز بن عبد السلام إمام الشافعية في عصره أنه قال: ما رأيت في كتب الإسلام في
العلم مثل المُحَلَّى لابن حزم والمُغني للشيخ الموفق، ثم قال الحافظ في أواخر
ترجمته: قلت: ابن حزم رجل من العلماء الكبار فيه أدوات الاجتهاد كاملة.. إلخ.
وأما ابن طاهر فقد ذكره في طبقات الحفاظ أيضًا وبيَّن أصل هذه الكلمة
(إباحي) التي قالها فيه ابن حجر الهيتمي الفقيه مع ألفاظ أخرى تعد من السباب لم
يقل بمثلها أحد. قال الحافظ في ترجمته: وقد ذكره الدقاق في رسالة فحط عليه
وقال: كان صوفيًا ملامتيًا سكن الري ثم همذان , له كتاب صفوة التصوف وله
أدنى معرفة بالحديث، قلت: هو أحفظ منك بكثير يا هذا! . ثم قال: ذكر عنه
الإباحة قلت: بل الرجل مسلم معظم للآثار وإنما كان يرى إباحة السماع لا الإباحة
المطلقة التي هي ضرب من الزندقة. اهـ. فهل يُسَلِّم مسلم بعد قول الحافظ ابن
حجر العسقلاني صاحب القول الفصل والحكم العدل في الرجال ما قاله ابن حجر
الفقيه الهيتمي من أنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها؟ اللهم ألهم
هؤلاء الأئمة الذين يسبهم ابن حجر الهيتمي المتعصب لتقليده العفو عنه يوم الدين.
وأما حكاية الحافظ ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي إباحته العود
فإذا لم تصح عنه فقد صحت عمن هم أعظم منه. قال الزبيدي في شرح الإحياء
بعد نقل تحريمه عن المذاهب الأربعة: وذهبت طائفة إلى جوازه وحكي سماعه عن
عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان
وعمرو بن العاص وحسان بن ثابت رضي الله عنهم وعن عبد الرحمن بن حسان
وخارجة بن زيد ونقله الأستاذ أبو منصور عن الزهري وسعيد بن المسيب وعطاء
بن أبي رباح والشعبي وعبد الله بن أبي عبيد وأكثر فقهاء المدينة. وحكاه الخليلي
عن عبد العزيز بن الماجشون وقدمنا ذلك عن إبراهيم وابنه سعد وحكاه الأستاذ
أبو منصور أيضًا عن مالك وكذلك حكاه الفوراني في كتابه الغمد. وحكى الروياني
عن القفال أنه حُكيَ عن مالك أنه يبيح الغناء على المعازف، وحكاه الماوردي
في الحاوي عن بعض الشافعية ومال إليه الأستاذ أبو منصور. ونقل الحافظ ابن
طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه وأنه كان مشهورًا عنه وأنه لم
ينكره عليه أحد من علماء عصره. وابن طاهر عاصر الشيخ واجتمع به وهو ثقه
وحكاه عن أهل المدينة وادعى أنه لا خلاف فيه بينهم وإليه ذهب الظاهرية حكاه
ابن حزم وغيره. قال صاحب الإمتاع: ولم أَرَ من تعرض لكراهة ولا لغيرها إلا ما
أطلقه الشافعي في الأم حيث قال: وأكره اللعب بالنرد للخبر أكثر ما أكره اللعب
بشيء من الملاهي، فإطلاقه يشمل الملاهي كلها ويندرج فيه العود وغيره , وقد
تمسك بهذا النص من أتباعه من جعل النرد مكروهًا غير محرم، وما حكاه المازري
في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إنه مكروه، ونقل عن العز بن عبد
السلام أنه سئل عنه فقال: إنه مباح , وهذا هو الذي يقتضيه سياق المصنف هنا
(يعني الغزالي في الإحياء) اهـ. كلام الزبيدي ومنه ومما سبق عن نيل
الأوطار يعلم أن النقل عن الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء لم ينفرد به ابن
حزم وابن طاهر , ولو انفردا لاحتج بنقلهما الأثبات وهما من الأثبات ما لا يحتج
بنفي ابن حجر الهيتمي وهو ليس من الحفاظ , ولم يطعن في أسانيدهما لينظر في
طعنه. وسقط بهذه النقول ما جاء في الأسئلة من ذكر الاتفاق على تحريم العود
ونحوه وتفسيق من يسمعه.
وأما سؤاله عن جواز نسبة ذلك إلى العلويين الأتقياء؛ فجوابه أن النقل لا
يكون بالرأي فإن نقل ذلك ثقة صدقناه وحملنا سماعهم على اعتقادهم الحل كما نقل
ذلك عمن هم خير منهم وإن كان غير ثقة لم نصدقه.
وأما سؤاله عن بعض علماء الرسوم: هل يقتدى بهم إذا سمعوا العود؟ فنقول:
إنهم لا يقتدى بفعلهم في شيء مطلقًا , وإنما يؤخذ بنقلهم وروايتهم في بيان حكم
الله إن كانوا ثقات صادقين. كذلك يقال في الصوفية الذين ذكرهم في السؤال
الخامس: من عرفت استقامته وتقواه منهم فلا يجوز الطعن في دينه لسماعه العود
من غير أن يتشبه بأهل الفسق فيما هو من شئون فسقهم بحيث يظن أنه منهم فمن
فعل هذا فقد جنى على نفسه وأهانها فلا يلومنَّ من أساء الظن به.
خلاصة القول في السماع
(١) لم يرد نص في الكتاب ولا في السنة في تحريم سماع الغناء أو آلات
اللهو يحتج به.
(٢) ورد في الصحيح أن الشارع وكبار أصحابه سمعوا أصوات الجواري
والدفوف بلا نكير.
(٣) أن الأصل في الأشياء الإباحة.
(٤) ورد نص القرآن بإحلال الطيبات والزينة وتحريم الخبائث.
(٥) لم يرد نص عن الأئمة الأربعة في تحريم سماع الآلات.
(٦) كل ضار في الدين أو العقل أو النفس أو المال أو العرض فهو من
المحرم ولا محرم غير ضار.
(٧) من يعلم أو يظن أن السماع يغريه بمحرم حرم عليه.
(٨) أن الله يحب أن تُؤتَى رخَصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
(٩) أن تتبع الرخص والإسراف فيها مذموم شرعًا وعقلاً.
(١٠) إذا وصل الإسراف في اللهو المباح إلى حد التشبه بالفساق كان
مكروهًا أو محرمًا.
((يتبع بمقال تالٍ))