للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اليأس والرجاء في مصر
للأطباء في معالجة الأدواء ومداواة الأمراض طريقتان معروفتان؛ إحداهما:
مقاومة المرض بمناولة الأدوية في أوقات معينة بمقادير معلومة، وهي معالجة
المريض بما هو خارج عن ذاته منفصل عن ماهيته. والثانية: الأزم بمنع المصاب
من كل ما يزيد المرض ويطيل أمده، وهو الذي يسمونه: (الحمية) ومحاولة تقوية
المزاج بذلك وبما يستلزمه من تدبير الغذاء المناسب والنظافة التامة واستنشاق الهواء
النقي وحسن الخدمة وإزالة ما يهيج الانفعال ويؤلم النفس من كل شيء.
وهذه الطريقة هي المثلى، وعليها يعتمد الحكيم النطاسي وبها يثق؛ لأن
إشعارها تقوية المزاج حتى يقتدر على دفع المرض بذاته، والعلاج بالأدوية
والعقاقير إنما هو مساعد لقوة المزاج على دفع المرض؛ لأنه هو الدافع له، فهو
كالسلاح: لا عمل له في نفسه ولكنه مساعد للشجاع على الظفر.
وعادة السيف أن يزهو بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
وقد ضرب سيدنا الزبير بن العوام رجلاً فقدَّه نصفين، فقيل له: ما أمضى
سيفك! فقال: كلا إنما هي قوة الساعد، فإذا ضعف المزاج وحرض البدن
لاستحكام الداء، فالعلاج الخارجي لا يكاد يفيد شيئًا، وإذا قوي فربما يطرد المرض
من غير مساعدة الدواء، وأكمل المعالجة ما كانت بالطريقتين معا. فإن القوي
الأعزل إذا غلب اليوم فلا يأمن أن يغلب غدًا، هذا كله معروف في معالجة
الأشخاص.
ما أشبه أمراض الأمم بأمراض الأفراد، وما أشبه معالجتها بمعالجتها. إذا
مرضت الأمة بانتشار الجهل فيها واستبداد حكامها، أو فقد المحبة منها والغفلة عن
الجامعة التي تضمها وتجمعها، أو الانخداع لعدو في ثياب صديق طوح بها وعمل
على تفريق كلمتها بعنوان الناصح المصلح، أو الاغترار بنعيم يزول وصفو عيش
لا يدوم، وأعقب هذه الأمراض افتقاد الثقة بين الحاكم والمحكوم له، وبين الأفراد
بعضهم مع بعض والالتجاء إلى الأجنبي واتخاذه بطانة والاعتماد عليه والثقة به،
وكثرة الرشوة والمصادرة والسخرية والتعذيب من الحاكم للمحكوم له، والسفه
والتبذير من الخاصة والعامة، وصارت الأمة بهذا كله طعمة لكل طاعم، ونهبة لكل
ناهب طامع، وضريت الأمم القوية بصيد بلادها، وضربت الدول الفاتحة في
أحشائها، فعظم عليها الخطب وأنساها هذا المرض الأخير جميع ما تقدمه من
الأمراض المتولد هو منها؛ لأنه هو الذي يودي بحياتها وينتهي بمماتها (وهو فقد
الاستقلال) إذا كان هذا كله، فهل الصواب الاهتمام بمعالجة هذا المرض دون ما
تقدمه من الأمراض؛ لأنه المذفف على تلك الجروح والمجهز على حياة الأمة، أو
الاعتناء بمعالجتها جميعًا؟
أقول: إن السعي بمعالجة مرض نتج من أمراض أخرى تقدمته مع بقاء تلك
الأمراض متأصلة في الجسم عبث وضلال، وقصارى ما تفيد هذه المعالجة إزالة
بعض أعراض المرض بأدوية خارجية، ولا يؤمَن بعد إزالته أن يعود هو أو مثله ما
دامت العلة الأولى موجودة بمقدماتها كلها.
وبعد هذا فموضوع كلامنا المسألة المصرية واستقلال مصر، مرض مصر
الأخير الذي تولد من تلك الأمراض التي أشرنا إليها هو الاختلال الذي انتهى
بالاحتلال الإنكليزي لها، وأعني بالاختلال: فقد الانتظام من المعيشتين العائلية
والوطنية، ومن السلطة الحاكمة والاحتلال الإنكليزي.
من شأن المريض الاهتمام بإزالة أشد أعراض مرضه إيلامًا بأقرب الطرق
وبأسرع الأدوية فعلاً، ولذلك قد تعلقت آمال المصريين بأوروبا وكلما عنَّ سبب
لذكر المسألة المصرية أقلعوا مادِّين أعناقهم إليها وطامحين بأبصارهم إلى فرنسا التي
تحسد إنكلترا على سبقها لهذه الغنيمة (الاحتلال) واستئثارها بوادي النيل الذي
يعطيها السيادة على كل دولة عظيمة، وصار الرأي العام المصري كما قيل:
كلما ذاق كأس يأس مرير ... جاء كأس من الرجا معسول
وأرى أن مسألة فشودة هي آخر ما في طوامير النفوس من الرجاء والأمل
بأوروبا وفرنسا، فإذا انتهت على ما تحب إنكلترا وترضى، أو على ما فيه منفعة
الأمتين دون مصر، فلا جرم أن مرائر الرجاء تسحل، وأسباب الأمل تقطع، ولكن
هل ييأس المصريون من الاستقلال وجلاء الإنجليز؟ أقول: من الحمق أن يعتمد
المريض على الضماد والطلاء الخارجي الذي عسى ألا يفيد، وإذا أفاد فإنما هو
تسكين ألم أو إزالة عرض ربما يكون زواله وقتيًّا. والواجب الذي لا تخيير فيه إنما
هو الاعتماد على المعالجة الداخلية والعمل على اجتثاث جراثيم المرض واستئصال
ميكروبات الداء وتقوية مزاج الأمة حتى يكون في مأمن من مضرة أعراض المرض،
كما وقع لقبائل المرتة في الهند، ثم يدفع بطبيعته أصل الداء كما اتفق للولايات
المتحدة في أمريكا.
كل قارئ لهذه الجريدة عنده علم من خروج الأمريكيين على حكامهم
البريطانيين وإخراجهم من بلادهم قهرًا، واستقلال بلادهم عندما عمتها التربية
وانتشر في ربوعها التعليم الصحيح، وأما قبائل المرتة الهندية فقلما يوجد عند أحد
من هذه البلاد علم عن حالها، وإننا نشير إلى مجمل من خبرها فيه عبرة لمن يعتبر.
امتازت تلك القبائل بتهذيب الأخلاق ومحبة جنسها ووطنها واتفاق أفرادها
وتضافرهم على كل ما فيه مصلحة ومنفعة لهم، واتخذوا لهم رؤساء فضلاء لا
يشذون عن طاعتهم، ومن سجاياهم حب المسالمة والاتفاق مع مجاوريهم والطاعة
لحكامهم، ولما دخل الإنكليز بلادهم واستولوا عليها أصفقوا [١] على عدم قتالهم
وسلموا تسليمًا، ولو كانوا حربيين كقبائل الأفردين لما تسنى لبريطانيا إخضاعهم
أبدًا، بل لكانت سلطة بريطانيا على خطر منهم في الولايات المجاورة لهم إن لم نقل
في الممالك الهندية كلها؛ لأن الاتفاق والالتئام في الأمم لا يغالب. سلموا للإنكليز
ولكن أتدري بماذا؟ عقدوا مجالس الشورى وأقروا باتفاق الآراء على التسليم
للإنكليز بشيء واحد وهو: دفع الإتاوات التي يفرضونها عليهم مهما بلغت، وما
وراء هذا فكل من تحاكم إلى حاكم إنكليزي يقتل قتلاً، محقًّا كان أو مبطلاً، ومن
اشترى من تاجر إنكليزي سلعة يقتل مهما اشتدت حاجته إليها. وعلى ذلك جروا من
غير ما إخلال، وظلوا على عادتهم في لبوسهم وماعونهم وسائر حاجهم، حتى تعلم
طائفة منهم الصناعات الإفرنجية في أوروبا، بعثهم قومهم لهذه الغاية، فتعلموا
ورجعوا يعلمون ويصنعون ومن ذلك الحين كثر استعمال الماعون والنسج
الأوروبيين ونحوهما.
ولما كانت الطرق الحديدية مما يختص بالحكومة لم يمكنهم إنشاؤها في بلادهم،
وقد كانوا متفقين على عدم الركوب ونقل البضائع في السكك الحديدية التي أنشأها
الإنكليز في بلادهم، والاعتماد في ذلك على الإبل ونحوها، ثم وجدوا أن في ذلك
تأخرًا في التجارة فصاروا يركبون ويتجرون فيها. واتفق يومًا أن أحد وجهائهم أراد
السفر في الرتل (القطار) الحديدي فأخذ تذكرة من تذاكر الدرجة الأولى ولما دخل
العربة صادف فيها رجلاً إنكليزيًّا أراد منعه من الجلوس معه ترفعًا فأطلعه على
التذكرة التي تؤذن بأن له الحق بالركوب في تلك العربة، فأصر الإنكليزي على
منعه وأصر المرتي على عدم الامتناع، فلطمه الإنكليزي ودفع به إلى خارج العربة
فأقلع الرجل عن السفر، ولم تمض على الحادثة أيام حتى بلغ الخبر لجميع قبائل
المرتة الضاربين ما بين كلكته وحيدر آباد (ولهم وسائط مخصوصة لنقل الأخبار
وإيصال صوتهم إلى سائر أطراف بلادهم) وحتم عليهم أن لا يركبوا بعد ذلك في
الأرتال الحديدية ولا ينقلوا فيها عروض تجارتهم. وكان الأمر كذلك ورجعوا إلى
جمالهم ونياقهم وكادت السكك الحديدية المارة في بلادهم الواسعة تبطل، إذ معظم
عملها معهم ولا شغل فيها لغيرهم إلا ما كان من مسافر سائح أو عسكر ينقل من
مكان إلى آخر، وبعد البحث من مدير المصلحة علم السبب واجتهد في مرضاة القوم،
وما قدر على مصالحتهم حتى بلغ منه الجهد، واشترطوا عليه أن ينقل أشخاصهم
وبضائعهم مدة ستة أشهر بدون أجرة ولا مقابل، فرضي بذلك.
فهذه ثمار بعض الحب والاتفاق الناجمين عن حسن التربية القومية، فهل
أضرت بأولئك القبائل سيادة الإنكليز عليهم؟ هل أذلت نفوسهم وملكت عليهم أمرهم؟
هل استحوذت على أراضيهم واستأثرت بتجارتهم وصناعتهم؟ هل استبدت على
أمرائهم ورؤسائهم وافتاتت عليهم؟ هل استطاع القبض على زمام تربيتهم وقيادتهم
بها إلى الخضوع لعظمتهم والخنوع لعزتهم، بله التجنس بجنسيتهم؟ هل فعلت بهم
شيئًا من الأفاعيل والتي فعلتها بسائر الهنود التي تفعلها في مصر، وهي لم تستول
على مصر استيلاء شرعيًّا رسميًّا كاستيلائها عليهم؟
كل ذلك لم يكن، فعلامَ لا يعتبر المصريون بهؤلاء القوم، ويندفعون إلى التربية
الوطنية القومية، وإلامَ يعرضون عن العلاج الصحيح لمرضهم، وهو تقوية بنية
الأمة بالتربية الصحيحة، ولا سعادة لهم إلا بها، وحتامَ يمدون أعناقهم ويقنعون
رءوسهم ويرفعون بأبصارهم على من لا يسعى إلا لمصلحته، فإن وافقت مصلحتهم
فالعمل لنفسه لا لهم، والنظر إليه والرجاء به لا يزيدانه سعيًا في مصلحة نفسه؟
فيا أيتها الأمة التعسة الحظ النكدة العيش هبي من نوم الغفلة وانفضي عن
رأسك غبار الخمول، ولا تنخدعي لكلام المغررين، لا تيأسي من روح الله ولا
تعتمدي بعد التوكل عليه إلا على سعيك، فالعلاج الصحيح الذي يدفع عنك جميع
الأمراض ويذهب مع العرض الأكبر (الاحتلال) بسائر الأعراض - إنما يطلب منك
لأنه يتعلق بداخليتك وما هو إلا تعميم التربية الصحيحة والتعليم، والله يهدي من
يشاء إلى صراط مستقيم.