للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقالتان للأستاذ الإمام [١]

(مقتبستان من دروس السيد جمال الدين وقد نشرهما في العدد ٤٩ من
جريدة مصر التي كانت تصدر بالإسكندرية في ١٥ جماد الأولى سنة ١٢٩٦) .
المقالة الأولى
التربية
في ليلة الأحد الماضي انعقد درس الأستاذ جمال الدين الأفغاني وانتظم في
سلكه جم غفير من نبهاء طلبة العلم وفضلائهم وكثير من الأفندية مستخدمي الدواوين،
وبمحضر هؤلاء وأولئك شنف المسامع بمقال جليل في شأن تربية الأمة وما يلزم
أن يسلك من سبلها ولما فيه من عظم الفائدة رغبت في نشره في الجرائد الوطنية؛
تعميمًا للفوائد وبيانًا لما انطوى عليه من حسن المقاصد، قال ما معناه:
إذا وجه العقل نظر الاعتبار إلى الأجسام الحية بالحياة النباتية أو الحيوانية أو
الإنسانية علم أن قوام حياتها بتفاعل العناصر الداخلة في قوامها تفاعلاً متناسبًا
بحيث لا يتميز أحد تلك العناصر بالغلبة على باقيها غلبةً تقتضي بظهور خواصه
وتسلطها على خصائص البقية، فبذلك التناسب يتم للبدن الحي ما يسمى بالمزاج
المعتدل الحاصل لروح الحياة، فإن غلب أحد العناصر على سائرها واضمحلت
خواص بقيتها فيه انحرف المزاج وخرج عن حد الاعتدال واستولى المرض على
الجسم، وكما يكون الاختلال وفساد البنية بتغلب بعض العناصر على ما سواه منها
كذلك يكون بمغالبة المزاج للحوادث الخارجية وغلبتها عليه كالبرد الشديد المذهب
لروح الحرارة الغريزية والحر الشديد الموجب للاحتراق وتحلل الرطوبة الضرورية
المنتهي إلى اليبس نذير الموت والفناء.
ومن ثم وضعوا علوم النباتات والحيوانات والطب البشري والبيطري ليبحث
في تلك العلوم عما به يحفظ التوازن بين البسائط التي يتركب منها الجسم ويحترز
من تسلط الحوادث الخارجية عليه، ويعاد به المزاج إلى حالة الاعتدال إن خرج
عنها؛ لتتم حكمة الله تعالى في بقاء الأنواع إلى آجالها المحددة بحكم الحكمة الأزلية
فالنباتيون يعينون الأراضي القابلة للزراعة والغراسة لكل نبات، ويحددون الفصول
الملائم هواؤها لنموه، ويوضحون مواد التسميد وغير ذلك مما لا بد منه في تربية
النباتات، وكذلك الأطباء يبحثون عن مواد الأغذية، وماذا يجب أن يتخذ منها لكل
مزاج ومضار الأهوية ومنافعها، ويقفون بتجاربهم الصادقة على الأدوية النافعة لرد
البدن إلى حالة الصحة وآلات العلاج المفيدة حتى تحفظ بذلك على البدن صحته،
ويرجع إليها إن انحرف عنها، ولن يكون الطبيب طبيبًا يترتب عليه غايته حتى
يكون على علم بالتاريخ الطبيعي وعلوم النباتات؛ ليعلم خواصها، ويميز نافعها من
ضارها، وعلى بصيرة من اختلاف الأمزجة ومقتضياتها وما يلائم كل واحد على
حسبه، وخبيرًا بعلل الأمراض وأسبابها وكيفياتها من شدة وضعف وتاريخها من قدم
وحدوث حتى يعالج كلاًّ بما يليق به، فإن جهل من ذلك شيئًا كان فقده خيرًا من
وجوده.
فإن الطبيب الجاهل رسول ملك الموت؛ إذ بجهله يستعمل من الأدوية ما عساه
يهيج المرض ويعين من الأغذية ما يساعده على قسوته فيفضي ذلك إلى هلاك
المريض، وقد كان بدونه محتمل الشفاء بمقاومة الطبيعة لولا مساعدة الجاهل
وعونه.
وكما يلزم للطبيب أن يكون عالمًا بجميع ما قدمنا يجب أن يكون شفيقًا رحيمًا
صادقًا أمينًا لا يكون قصارى عمله ما يناله من جُعْل المعالجة، فإنه إن كان قَسِيًّا عديم
الرأفة أو كان خائنًا فلربما صار آلةً في أيدي أعداء المريض يستعملونه لهلاكه بإلقائه
السم في الأدوية مثلاً أو إهماله في العلاج بما يقدمونه إليه من العَرَضِ الفاني، وكذلك
إن قصر همه على ما ينال من الدينار والدرهم فإنه إن كان على تلك الصفة لم
يكترث بحال المريض ما دام يوفَّى أجر عمله، فإن هلك فقد نال ما يزيد عن مكافأته،
وإن امتد المرض زاد الإيراد بتوارد الأوقات، فعدمه أيضًا خير من
وجوده.
وكما أن روح الحياة البدني إنما يستقر حيث تجتمع أصول متضاربة ينشأ من
تغالبها مزاج معتدل كامل، وبغلبة أحدها يفسد التركيب ويذهب الروح الحيوي من
حيث أتى، كذلك روح الكمال الإنساني إنما يكون حيث تجتمع أخلاق متضادة
وملكات متخالفة يقوم من تضادها وتخالفها حقيقة الفضيلة المعتدلة التي هي ركن
لبيت سعادة الإنسان، وعليها مدار حياته الفاضلة، فإن تغلب أحد الخلقين على الآخر
فسد نظام الفضيلة واستحكمت الرذيلة وبات شقيًّا سيء الحال، وسقط في مهواة
التعب والعناء المفضيين إلى الحَيْن والهلاك.
ألا ترى أن النفس الإنسانية لا بد لها من خلق الجرأة وخلق المخافة، وهما
متضادان ومن مقاومتهما على وجه معتدل بحيث يستعمل كُلاًّ فيما يليق به من
المواقع. تتحقق فضيلة الشجاعة التي لو فقدت بتغلب المخافة لكان فاقدها عرضةً
لتعدي جميع الحيوانات عليه، ولم يستطع عن نفسه دفاعًا، وكانت حياته تحت
خطر يتهدده في جميع أوقاته، ولو أن الجرأة تغلبت على المخافة حتى ذهب أثرها
كانت تهورًا وعدم اكتراث بالمهالك لحق ولغير حق بدون تبصر ولا مراعاة حكمة،
فيلقي بروحه في مهاوي الهلكة بلا طائل يعود على نفسه أو وطنه.
وكذلك لا بد من خُلُق الإمساك والبذل، وهما متخالفات متعارضان يتقوم من
تغالبهما في النفس فضيلة السخاء، وهي البذل في موضع الاستحقاق إذا اعتدلا،
ولو أن الإمساك تغلب على ضده حتى اضمحل فيه لأمسك عن قضاء لوازمه
الضرورية فلا يأتي باللائق من الأغذية والألبسة مثلاً، فيضر ببدنه ولم يوف بحقوق
مشاركيه في المعيشة كزوجته وولده، أو في التعامل كجيرانه وأهل بلده فيقع الشقاق
بينهم ويتأدى به إلى شقاء دائم، وغير ذلك من مفاسد البخل التي لا تنحصر، ولو
تغلب البذل لأنفق جميع ما بيده في المفيد وغير المفيد حتى يصبح فقيرًا لا يجد ما
ينفقه في ألزم لوازمه فيهلك.
وهكذا جميع الملكات الفاضلة الإنسانية إنما هي واسطة لطرفين متضادين لا بد
من ظهور أثر كل منهما على نسبة معتدلة، وبغلبة أحدهما على الآخر يختل نظام
الفضيلة ولا محالة ينهدم بيت السعادة دنيويةً كانت أو أخرويةً، ولا يسعنا المقام
لتفصيل ذلك، وكما يقع العناد بتغلب أحد الضدين على الآخر في النفس يقع أيضًا
بتغلب أمر خارج على مزاج الفضيلة كغلبة التربية الفاسدة المغذية للعنصر الفاسد
بمخالطة ذوي الملكات الرذيلة والغرائز الناقصة وانفعال النفس بحركاتهم وسكناتهم
وتقليدها لأعمالهم وتقلدها بعاداتهم أو باستماع إغواء ذوي الأهواء وتمويهات أرباب
الأغراض الفاسدة الدنيئة، المذيعين للأفكار الرديئة، المؤيدين للعقائد الباطلة التي
ينبعث منها سوء الأخلاق المؤدي إلى فساد المعيشة، فللنفوس علل وأمراض كما
للأبدان ذلك.
ومِنْ ثَمَّ قد وضعت علوم التربية والتهذيب لتحفظ على النفس فضائلها،
وتردها عليها إن اعتلت وانحرفت عنها إلى جانب النقص والاعوجاج، كما وضع
الطب ولوازمه لحفظ صحة البدن، كما بينا، فالحكماء العمليون القائمون بأمر
التربية والإرشاد، وبيان مفاسد الأخلاق ومنافعها، وتحويل النفوس من حالة
النقص إلى حالة الكمال بمنزلة الأطباء، وكما لزم للطبيب أن يكون عالمًا بالتاريخ
الطبيعي والنباتات والحيوانات وعلل الأمراض وأسبابها ودرجاتها من شدة وضعف،
كذلك يلزم للحكيم الروحاني طبيب النفوس والأرواح إذا رقي منبر الإرشاد أن
يكون عالمًا بتاريخ الأمة التي قام بإرشاد أبنائها وتاريخ غيرها من الأمم أيضًا، وأن
يكون مطلعًا على درجات ترقيها ودركات تدنيها في جميع الأزمان، وأن يسبر
أخلاقها بمسبار الحكمة ليعلم أسباب أمراضها النفسية، ويقف على درجات الداء
وتمكنه فيهم، وأنه - حديث أو قديم - قوي في النفوس أو ضعيف، وما هو العلاج
اللائق بكل صنف، وكما أنه يجب على الطبيب البدني أن يكون على علم تام
بمنافع الأعضاء وغاياتها كذلك على الطبيب الروحاني أن يكون عالمًا بمنافع
الأخلاق ومضارها على طبق ما في نفس الأمر والواقع، وكما يلزم أن يكون
الطبيب شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا لا ينظر إلى الدنايا ولا ينحط إلى المقاصد السافلة
كذلك على النصحاء والمرشدين أن يكونوا من ذوي الاستقامة والفضيلة مرتفعي
الهمم أولي مقاصد عالية لا يبيعون الفضيلة بحطام الدنيا ولا بالقرب والتزلف إلى
الأمراء والكبراء.
أولئك هم المرشدون الحقيقيون فإن رزقت الأمة بمثلهم فبشرها بالسعادة، وإن
رُزِئَتْ بمطببين لا أطباء، بأن صعد على منابر النصح فيها الجهلة والأغبياء
والسفلة والأدنياء، فأنذرها بالعناء والشقاء، فإن المرشد الضال والنصوح الجاهل
يودع النفوس رذائل الأخلاق باسم أنها فضائل، ويغرس فيها جراثيم الشر باسم أنها
أصول الخير، ولربما كان مقصده حسنًا لا يريد إلا خيرًا، ولكن جهله يعميه في
سلوك طريقه، ويبعده عن اتخاذ وسائله فتقع الأرواح في الجهل المركب، وهو شر
من الجهل البسيط، فإن ذا الثاني على باب الفضيلة لا يلبث إن فتح له أن يلجه ,
وصاحب الأول قد بعد عن المقصد بمراحل واستتر تحت نقع الرذيلة، واعتقد ذلك
ظلاًّ ظليلاً فلا يمكن العدول عما وقع فيه إلا بعد مكابدة شديدة وعناء طويل فلا ريب
كان عدم هؤلاء المرشدين خيرًا من وجودهم، وكذلك إن كان خائنًا أو دنيئًا ينحط
إلى سفاسف الأمور أو عدم الشفقة والإنسانية فإنه يتخذ النصيحة سلمًا للوصول إلى
أغراضه الفاسدة ومطالبه الذاتية فلا يبالي أوقع الأفراد في خير أو شر، صفت
النفوس أو تكدرت، ارتفعت الآداب أو انحطت، صحت الأرواح أو اعتلت،
فيكون آلةً بيد الأشرار وأولي الأهواء يستعملونه في فساد الأمة والعشيرة لقضاء
أوطارهم.
ألا وأن القائمين بأمر الإرشاد يحصرون في قَبِيلَيْنِ: قَبيِل الخطباء والوعاظ،
وقَبِيل الكتبة والمصنفين، ومنهم أرباب الجرائد، فإن كانوا على نحو الأوصاف
الكاملة اللازمة لمقامهم هذا كما تقدم فقد استحقوا التعظيم والاحترام، والتبجيل
والإجلال، واستوجبوا الشكر والثناء من كل قلب مخلص وقاموا بخدمة أوطانهم
وأبناء بلدتهم، وإلا استحقوا الرفض والطرد والإبعاد، ووجب على من يهمهم أمر
الإصلاح أن يقذفوا بهم من البلاد كي لا يفسدوها بمرضهم الوبائي الذي لا يقتصر
ضرره على المبتلى به، بل يتعداه بالسراية إلى كل ما سواه.
المقالة الثانية
الصناعة
قد عاد حضرة الأستاذ الفاضل والفيلسوف الكامل السيد جمال الدين الأفغاني
إلى التدريس بعد فترة تزيد مدتها عن سنة، فابتدأ - حفظه الله - يقرأ شرح إشارات
الرئيس ابن سينا في الحكمة العقلية، وهو كتاب جليل يحتوي من هذا العلم أصولاً
جليلةً غرست أصولها في بلاد المشرق من مدة تقرب من ألف سنة إلا أنها نبتت
فروعها في الغرب، وَاجْتُنِيَتْ ثمارها لغير غارسيها ولم تزل في بلادنا على
كليتها وإجمالها لم تخرج نتائجها العقلية من حد القوة إلى الفعل إلا أن هذا السيد
الفاضل قد جمع في تدريسه بين تدقيق الشرقيين وبسط الغربيين يجمع إلى الأصول
فروعها، وإلى المقدمات نتائجها، وإلى المجملات تفاصيلها بانيًا جميع أقواله على
البراهين الثابتة والحجج القويمة، ولما كانت دروسه العالية عظيمة الفوائد، جمة
الثمرات للعموم رأيت من الواجب قيامًا بالخدمة الإنسانية أن أودع بعضها قوالب
العبارات اللائقة بها، وأنشر طيب وفدها في صحف الجرنالات لتعم الفائدة، والله
يتولى التوفيق.
بين حفظه الله وأثبت أن الإنسان نوع من أنواع الحيوانات الأرضية
(لا كما يزعمه أرباب الأوهام كالصينيين وقدماء الفرس من أنهم من أبناء السماء
فليتذكر مَن له فطنة) وأنه قد أتى عليه حين من الدهر وهو على مقربة منها ينشأ
نشأتها، ويسير في عيشه سيرتها يتفيأ ظلال الأشجار, ويستكن في الجحرة
والأوكار , ليس له شعار ولا دثار , (ولكن خفيف أشعار) يقتات بنباتات وثمرات
تحضرها له القدرة الإلهية على يد القوى الطبيعية , لا تمسها يد صناعية , ولا
تربية أجنبية , ليس له من المكر والتحيل إلا ما لا يداني فيه الثعلب , ولا من العلم
والتدبير إلا ما يبعثه على الغدوّ لطلب قوته من الأعشاب وثمار الأشجار والرواح
للاستكنان في كنّ يواريه عن أعين الحيوانات العادية , والفرار من المكاره الحسية ,
كما تفر الشاة من الذئب , والأرنب من الثعلب , ولم يكن له من رفعة القدر ما
يُجلسه على كرسيّ سلطنة الوجود , ويقيمه متحكِّمًا في كل موجود , ويدعوه للحكم
بأنه خلاصة العالم ومنتهى سبر الحقائق وعماد عالم الكون، وأن جميع البسائط
والمركبات إنما خُلقت لأجله , والكواكب والسيارات إنما تتحرك لخدمته , بل كان
ضعيفًا عاجزًا جاهلا حافيًا عاريًا يزعجه كل حادث , وتستفزه كل نبأة , ويتهيب
من كل شكل وهيئة , والشاهد على ذلك ما تحكيه لنا أحوال الأمم التي كأنها قريبة
عهد بالإنسانية في جنوب أفريقيا , والقبائل المستمرة في قمم الجبال والأجم
والغابات البعيدة عن العمران البشري المعروف الذين لم تضطرهم الحاجات، ولم
تسُقهم الضرورات إلى الانتقال من مكان إلى مكان فإنهم لم يزالوا على سذاجة
الحيوانية وبساطة الفطرة لا يفهمون خطابًا، ولا يحسنون جوابًا، إلا ما كان متعلقًا
بضرورة الحياة كجلب قوت بسيط ومدافعة عادٍ من الحيوانات وجميع ما يعده
الإنسان المتمدن كمالاً وإنسانيةً فهم بعيدون منه، عارون عنه، مع بُعد تاريخهم
وامتداد زمن وجودهم على سطح الأرض.
إلا أن مبدع الكون جلت قدرته لما اختص هذا النوع من بين الأنواع الحيوانية
بخاصة العجز والفقر والحاجة حيث جعل جميع لوازم حياته خارجةً عنه لا تحصل
إلا بالتحصيل، وليس تحصيلها إلا بعد الكد والعناء وَهَبَه قوة عاقلة كلية التصرف،
عامة القبول، ووكل تربية هذه القوة إلى تعليم مدرسة الوجود الكلي فكان لكل نبات
وحيوان، بل لكل موجود مشهود حق الأستاذية وسابق الفضل على نوع الإنسان
فاسترشد بأعمالها , واهتدى بآثارها والتقط درر الحكم من فعلها وانفعالها، وتدرج
في ذلك شيئًا فشيئًا تارةً يخطئ وتارةً يصيب، وطورًا ينجلي له الحق وآخر عنه
يغيب، مرة تعوقه العوائق القَدَرية والإرادية عن إدراك الحقائق والوصول إليها،
وأخرى تجذبه الجواذب اضطرارًا للوقوف عليها حتى وصل إلى ما تراه من أحواله
الغريبة وآثاره العجيبة.
ثم بيَّن - حفظه الله - كيف كان يتقلب الإنسان في سيره هذا ويقطع عقبات
المصاعب، ويخترق حجب الجهالات، منقادًا في جميع ذلك لقائد الحاجة
والضرورة يأتمر أمره، ويتبع سيره، تارةً يتدرج إلى الكمال فيقعده مقعد رئاسة
الكون وسلطنة الوجود بما يرشده إليه من التفنن في الفنون واختراع الصنائع،
وأخرى ينحط به إلى قعر جحيم الأوهام، ويقذف به في جُبّ الخرافات، ويكبله
بقيود الاعتقادات السخيفة، ويغلّ يديه بسلاسل العادات والأفكار الرديئة، على أن
جميع اعتقاداته الفاسدة الباطلة إنما نشأت له من قياس حوادث الكون وظواهره على
ما يصدر عن ذاته (الشريفة) حيث جعل لها غايات تحاكي غاياته على تفصيل
طويل في ذلك مستشهدًا في تبيانه بشواهد أحواله الآتية المشهودة، مستدلاًّ بجميع
أعماله المنقولة المعهودة.
وأنه في جميع مراتبه لم يكن ليقيم ظهره بين الموجودات إلا بدعائم الصنائع
التي هدته إلى اختراعها تلك القوة العاقلة الكلية، لتكون له عوضًا عما سلبه من
اللوازم الضرورية والحاجية والكمالية، التي مُنِحَتْ لغيره من الحيوانات بأصل
الفطرة، وليس ذلك بخافٍ على ذي شعور فإن صنعة الحياكة مثلاً قائمة مقام القوة
السامكة للجلود الغليظة والمفرزة للأشعار والأوبار الواقية لما أحاطته من صولة
البرد والحر، بل القائمة مقام ترس يحفظ جوهر بدنه من تمزيق عادية غيره،
وصناعة الحديد والأسلحة منزّلة منزلة القوة المولدة للمخالب والبراثن والأنياب
للسباع والضباع وعوادي الطيور، وهكذا بقية الصنائع وما لم يقم منها مقام
ضروري أو حاجي قام مقام كمالي على ما يتضح لك بعدُ.
وإذا كانت الصنائع هي قوام هذا النوع وعليها مدار بقائه في أي مرتبة كانت
رأينا من الواجب أن نعرف الصناعة ونقسمها إلى أقسامها الأولية على ما قرره
الحكماء الأقدمون، وأوضحه الفلاسفة المتأخرون؛ ليتبين شرف كل صناعة على
وجه الإجمال فنقول:
الصناعة قوة فاعلة راسخة في موضوع مع فكر صحيح نحو غرض محدود
الذات، فالقوة منشأ الأثر مطلقًا فعلاً كان أو انفعالاً، فالمعلم مثلاً ذو قوة الفعل
والمتعلم ذو قوة الانفعال إلا أن قوة التأثر والقبول لا تعد صناعةً، ومن أجل ذلك
قُيدت بالفاعلة، وليست قوةً فاعلةً صناعيةً ما لم تكن تلك القوة راسخةً في
موضوعها تصدر عنها أعمال مستمرة على وجه منتظم، فالقوة الحالية التى تعرض
آنًا وآنات ثم تزول ليست منها في شيء وما لم يكن فعلها تحت سلطان الفكر فلا
تدخل في مفهوم الصناعة كالأفعال الطبيعية من إحراق النار وتمديد الحرارة وتجميد
البرودة وما شاكل ذلك فإن لم يكن الفكر صحيحًا كفكر السوفسطائي المنكر لبديهيات
العلوم، أو كان نحو غرض غير محدود الذات كأعمال الجدلي الذي أخذ على نفسه
أن لا يقر قولاً لقائل أيًّا كان حقًّا أو باطلاً فليس له حد يقف عنده، بل قوته متوجهة
إلى معارضة مقابله فإن كان نافيًا كان هو مثبتًا، وإن كان مثبتًا كان هو سالبًا فليس
بصناعة.
ثم إن نظر في عالم الوجود الكلي عَلِمَ عِلْم اليقين أنه وإن وقع كثير من
صوره وكمالاته تحت قوى طبيعية كقوى النمو والجذب والدفع أو قوى إحساسية
كقوى طلب الغذاء مثلاً في الحيوانات أو الهرب مما يؤلم الجثمان إلا أن عامة أفعاله
واقعة على ترتيب عقلي محكم، ونعني بالترتيب العقلي ما يكون مبنيًّا على مراعاة
الغايات والحكم وفوائد الكمال التي تعود على نظام الكل، وتبقى ببقائه فإن العقل
على خلاف الحس إنما ينظر الكلي الباقي أولاً ثم يتدرج منه إلى الجزئي، لا
العكس.
وإن واضع هذا النظام العام قد خول الإنسان من قوة العقل ما لم يخوله غيره
وجعلها محور صلاحه وفلاحه إن وجهها صوب وجهتها الحقيقية، فإن استعملها
لغايات طبيعية أو حسية، أي: قاصرة على موضوعها المودعة فيه لا تفيد سواه
كأن يطلب بها تنمية بدنه أو جلب ما يلائم ذائقته أو نهامته وما يشبه ذلك فقد أضاع
تلك القوة العالية الشريفة، وسلخ عنها ثمرتها وانحط إلى درجات الحيوانات، بل
النباتات التي لم تُمنَح تلك المنحة الجليلة، وأما من حفظ نفسه من السقوط، وأمسك
عليها حق تلك الخاصة أعني: العقل، فهو الذي ينظر إلى كلية العالم الكبير فيعلم
أن نوع الإنسان، وسائر الأنواع من لوازم كماله أو متمماته فيتوجه نحو حفظ ذلك
الكمال، ويوقن أن نوع الإنسان لا يحفظ بقاؤه في عالم الوجود إلا بحفظ أشخاصه
على التعاقب كما نبأنا اللطيف الخبير بما أودعنا من القوى المولدة والمصورة،
ويتحقق أن حفظ أشخاصه وأفراده إنما يكون بالاجتماع والالتئام لما لكل فرد من
كثرة الحاجات التي يضيق نطاق وسعه عن أن يأتي عليها في الأزمنة المتطاولة مع
اضطراره إلى جميعها في الآن الواحد كما تراه في مواد الأغذية التي لا تحصل إلا
بزراعة وحصاد ودرس، ثم طحن، ثم عجن وخبز وطبخ وهلم جرًّا، وجميعها
أيضًا يتوقف على صناعات كثيرة من حدادة ونجارة ونحوهما ولوازم الاكتساء من
العري وضروريات المدافعة والمكافحة مع ضواري الحيوانات، كل ذلك لا يكون
إلا بأعمال تستفرغ أجل الشخص الواحد في تعلمها فضلاً عن تحصيل غايته منها
فكيف به أن يستقل وهو محتاج إلى ثَمَرَاتِ جميعِها يومًا بيوم، بل ساعة بساعة،
فلابد من التعاون في الأعمال ليعتاض كلٌّ عن ثمن عمله بثمرة عمل الآخر فيكون
المجموع الإنساني كبدن ذي أعضاء، ويعمل كل عضو منه للبدن؛ لتكون عاقبته
لنفسه إذْ لو طلب الاختصاص - مع أنه لا بقاء له إلا في ضمن المجموع - فقد
طلب فقد نفسه من حيث لا يشعر فإذا علم جميع ذلك وضع نفسه عضوًا حقيقيًّا
وركنًا ثابتًا يقوم بأداء عمل يعود على كلية الأفراد أولاً من طريق كليتهم، ويعود
إلى شخصيته ثانيًا، ومبدأ هذا العمل فيه هو الذي نسميه بالصناعة فمن لم يكن ذا
عمل حقيقي يفيد المجتمع الإنساني، ويعين على انتظام الهيئة الكلية فهو كالعضو
الأشل لا فائدة منه على البدن إلا تكلف حمل ثقله مع عدم التألم من إزالته، فالأولى
إبانته وقطعه، بل إن كان لا يعمل ويسعى إلى بقية الأفراد في عدم العمل كالإباحية
الذين يعتقدون أنه لا ملكية لأحد في مال ولا عرض حيثما جاعوا أكلوا أو شبقوا
واقعوا، ويبثون أفكارهم بين أفراد النوع ليقتدوا بأعمالهم، ويسيروا بمثل سيرهم
فيتركون الأعمال اتِّكالا على ما بيد الغير حيث إنه مباح لهم، فإن تغلبت أفكارهم
بطلت الصنائع وذهب ما بيد الغير وما بأيديهم فيحتاجون إلى الضروري من
الأقوات وغيرها، ولا يجدون فيهلكون.
فأولئك كالأمراض السارية مثل الجذام والزهري لا بد من قطع العضو المؤف
(المصاب) بها وإلقائه في النار لئلا يتعدى ضرر مرضه إلى سائر البدن، ومن
هذا القبيل الفساق والفجار، وإن لم يكونوا إباحيين، فإن أعمالهم قد تكون قدوةً
لغيرهم، فيأتي من ضررهم ما أتى من أولئك، فينبغي أن يعاقَبوا ويؤدبوا ويحال
بينهم وبين أعمالهم هذه بكل ما يمكن، وإن كان بالتعذيب حتى يستقيموا أو لا
يقيموا.
ومن الناس مَن مثله مثل الأمراض الغير السارية والأعضاء الزائدة كمن
أصيبوا بالآفات المانعة لهم من تعاطي الأشغال كالكسحاء والبله والمعاتيه، فلا بد أن
يتحمل ثقلهم إن لم يمكن استشفاؤهم فرارًا من ألم القلب عند اختزالهم واقتطاعهم لما
لهم من العذر القائم؛ إذ حيث إن مدبر الكون قد حرمهم عطاء العقل، أو عطل فيهم
آلات خدمته فهو غير مطالِب لهم بأداء فروضه أو قضاء حقوقه إلا أن الحق الأعلى
قد بث في النفوس، وأودع في القلوب النفرة الكلية من هؤلاء، وأولئك الذين لم
يقوموا بالواجبات التي تقتضيها منهم صورة الإنسانية فهم مبغوضون في النفوس،
مطرودون من زوايا القلوب، ساقطون عن نظر الاعتبار، بل هم ملعونون من
أنفسهم أيضًا؛ إذ يجد كل واحد منهم من نفسه عندما يخلو بها أنه خسيس منحط
الدرجة رديء العاقبة، وإن كان شفاؤه يغلب عليه فيما بعد، فانظر إلى حكمة ربك
كيف تُنَبِّه الغافلَ وتُؤَيِّد العاقلَ، ولكن أكثرهم لا يعقلون؟ !
وأما ذوو البطالات ومن رفضوا الأسباب ووكلوا أنفسهم إلى التوكل الكاذب؛ إذ
لم يتحققوا معنى التوكل، وظنوا أنه عبارة عن معارضة سنة الله التي قد خلت في
عباده، ودعوا ذلك تبتلاً وانقطاعًا عن عالم الظاهر مع أخذهم لكشكول التكفف،
وخلعهم لجلباب التعفف فهم بمنزلة شعر الإبط لا ينشأ عن تكاثفه سوى عناء الحك
واستجلاب بعض العفونات إن لم يتعهد بالتطهير، ويستحب إزالتهم وتنقية الهيئة
الاجتماعية من درنهم، فإن بلغ من أمرهم أن يتخذوا ذلك أمرًا يدعى إليه، وذهبوا
في الناس يحولون وجوههم عن الأعمال، ويقلدون أعناقهم سبح المكر والحيلة،
ويسربلونهم بسرابيل التمويه والتزوير ويغرونهم بتأبط هراوة الشر، واقتناء قدح
الطمع يودعون نفوسهم أخلاق الشيطان من حب الرئاسة الكاذبة، وطلب الدنيء من
الدنيا من كل وجه والحقد والحسد والعداوات وغير ذلك، ويحجبون ذلك بأستار من
التلبيس (الغير المنتظم) ، ثم يوصونهم أن أخرجوا أيديكم من تحت تلك الأستار
طالبين انتهاب أموال الناس والاستئثار بثمرات اكتسابهم باسم أنهم وأنهم وأنهم (كما
ترى) وجب إلحاقهم بالإباحيين، وتحتم على كل ذي شعور من بني النوع أن
يسعى لقطع دابرهم واستئصال شأفتهم كيلا يفسدوا أفكار العامة وأعمالهم، ويعود
ويل ذلك كله على العامة والخاصة معًا , وبالجملة حيث تبين أن لا قوام للإنسان إلا
بالصنعة، فمن أخل بوظائفها أو رامها بالنقد فقد عمد إلى هدم بنيان الإنسانية،
فعليها أن تطرده من أبوابها وتمحو اسمه من كتابها.
ثم إن الصنعة على التعريف المتقدم تنقسم إلى أقسام إما نافعة ضرورية أو
غير ضرورية، وإما أن تكون كثيرة النفع أو قليلته أو متممة لفعل الطبيعة أو
مزينةً له، فالقسم الأول كالحدادة؛ لأنها مما يحتاج إليه جميع الصناعات العملية،
والثاني كقصر الثياب مثلاً، والثالث هو ما يكون الغاية منه نفع الإنسان لا غير
كالحكمة التي هي مقننة القوانين وموضحة السبل وواضعة جميع النظامات ومعينة
جميع الحدود وشارحة حدود الفضائل والرذائل، وبالجملة فهي قوام الكمالات العقلية
والخلقية، ومن هذا القسم الحكومة العادلة، والرابع (أي الذي هو خير بالواسطة)
كالزراعة والكتابة فإن لها غايات سوى نفس الإنسان لكنها تؤول إليه، والخامس
(وهو الكثير النفع) كالنجارة والتجارة مثلاً، والسادس كصناعة الصيد وما شاكلها،
والسابع كعلم الطب المتمم لأفعال القوى الحيوانية المساعد لها على إتمام وظائفها،
والثامن كالصباغة والنقش والتلوين وغير ذلك.
ثم إن شرف كل صناعة وكل فن بعموم موضوعه وشمول غايته، وإن أعم
الأقسام موضوعًا هو صناعة الحكمة لما بينا من أنها الباحثة عن كل ما يلزم
للإنسان اتخاذه في أعماله وأفكاره وأخلاقه، فهي أشرف الصناعات، والحدادة وإن
كانت عامةً لكنها من الحكمة بمنزلة الخادم المنقاد من السيد الحاكم الآمر اهـ.