للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(نادي المدارس العليا - مثال لطفولية الأمة)
نبهنا القراء في بعض السنين السالفة إلى أمثلة من طفولية الأمة في حياتها
الاجتماعية التي ولدت فيها الأمة ولادة جديدة، بعد أن أماتها الاستبداد قرونًا عديدةً،
وهي لا تزال في طور الطفولية، بما تقلد فيه الشوابّ والكهول من الأمم الحية،
ومما تلحزت له القاهرة من لذائذ التقليد إنشاء الأندية، أنشأ قوم ناديًا فما قام إلا
وسقط، ثم قويت الرغبة فكتب في ذلك الكاتبون، وأظهر الرغبة فيه الراغبون،
حتى كان منذ سنين أن جمعت أموال ووضعت قوانين، ولكن أعيد المال إلى أربابه،
قبل أن يخرج الأمر من إهابه، وقد أعيدت الكرَّة في العام الماضي فكان الاستعداد
أتم، والداعون أنهض بالعمل وأعلم، وما الداعون إلا بعض المتخرجين في
المدارس العالية بمصر وأوربا وما المدعوون إلا أمثالهم بالفعل أو القوة.
تمخضت الدعوة فولدت (نادي المدارس العليا) وخصوا العليا بالطب
والحقوق والهندسة وقسم المعلمين العالي، أي الإفرنجي، وأخرجوا منها قسم
المعلمين العربي (دار العلوم) والأزهر , وقد دارت المناظرة في هذا الإخراج بين
الباحثين، وَفُهِمَ مما سُمِعَ وكُتِبَ في الجرائد أن المؤسسين يرون المتخرجين في هاتين
المدرستين دون المتخرجين في تلك المدارس الأربع وأدنى منهم! !
قرأنا وسمعنا كثيرًا من المقالات التي كتبت، والمباحثات التي دارت في الدعوة
إلى تأسيس النادي وما يتصل بالدعوة ككونه خاصًّا بالمسلمين؛ لأن لكل الطوائف
الأخرى أندية في مصر خاصةً بهم حتى القبط ونصارى سوريا أو عامًّا لكل أهل
الملل فرارًا من التعصب، وكحظر الخوض في المباحث الدينية والمسائل السياسية
على أهل النادي ما كانوا في النادي، قرأنا وسمعنا ولكننا لم نكتب في ذلك كلمةً
واحدةً؛ لأننا رأينا التيار مندفعًا إلى قرارة لا بد أن يصل إليها وكذلك كان.
كان مما سرنا من مواد قانون النادي حظر الخمر والميسر على أهله فيه وإن
قرن ذلك بحظر المباحثات الدينية والسياسية , ولكننا لم نلبث أن رأينا أن مجلس
إدارة النادي قد نسخ حظر المنكر وهو الخمر، فأباحه وأحكم حظر المعروف وهو
المباحث الدينية والسياسية وأصر على تحريمه فساءنا ذلك وأحزننا إذ صار النادي
شرًّا من بيوت اللهو المعروفة بالقهاوي والبير (البِيَر كعلل والبارات مواضع شرب
البيرا وغيرها من الخمور) ؛ لأن هذه البيوت لا يحظر فيها المعروف من المباحث
الدينية والسياسية التي هي أرقى المباحث وأعلاها , ومما زاد في أسفنا وغمنا
تعليلهم إباحة الخمر بكون أكثر المشتركين لا يصبرون عنها وما نتوقعه من إفساد
التلاميذ المشتركين في النادي بسوء القدوة فإنهم إذا رأوا من يعدونهم أرقى الأمة
علمًا وأدبًا يأتون في ناديهم المنكر فإنهم يقتدون بهم في ذلك طبعًا فما كان أغنى
التلاميذ عن هذا النادي لو تبصر أولياؤهم.
بَيْنَا نحن في ألم خيبة الأمل في النادي وإذا بمجلة المجلات العربية قد وافتنا
باثنتين وعشرين صفحة عن النادي فيها من الإغراق في الإطراء ما كان حاملاً لنا
على كتابة هذا الفصل، وإنه لقول فصل وما هو بالهزل.
قالت مجلة المجلات في فاتحة كلامها: (إذا ذكرنا الأعوام الأخيرة فإننا
نذكرها بَهِجِينَ جَذْلاَنيِنَ؛ لأننا شاهدنا فيها قبسًا ما عتم أن بات أخيرًا نار هدى
ونعني بذلك هذه النهضة العلمية الأدبية التي بدت مطالعها منذ أعوام، وظهرت
اليوم في كبد سماء المجد بدرًا كاملاً يرسل ضياءه اللامع إلى جميع الأنحاء فتسر به
النواظر، وتقر له الخواطر، وإننا لا نريد أن نشرح للقارئين تفاصيل هذه النهضة
السامية فليس هنا مقامها الآن، ولكننا بدأنا بها تمهيدًا لما سنورده من الكلام عن
الناشئة العصرية التي يتألف منها شبان اليوم وزهرة مصر في هذا العصر.
(لقد قام شبان اليوم بأعمال جمّة دلت على ذكائهم واقتدارهم، أعمال يؤخذ من
مجموعها أن في سويداء وادي النيل رجالاً أَكْفَاء لكل عمل مجيد، وأن سماء مصر
يستظل بها كثيرون من الذين نبغوا في العلم والفضل والذكاء) .
ثم ذكر مسألة إنشاء الأندية، وقال: إنها (إحدى كبريات المسائل) وذكر
ناديًا أنشئ، وكان عمره قصيرًا، وما كان من حركة الفكر في ذلك بعد وقال:
(وقد أيدت الناشئة العصرية هذا الأمر الطبيعي ونفت من الأذهان ذلك
الاعتقاد الذي يعده الكثيرون حجةً لا جدال فيها، وهي أن المصريين شعب مِكسال
لا حياة أدبية له، وأنهم قوم صدق فيهم قول القائلين: (قد اتفقوا على أن لا يتفقوا
واتحدوا على أن لا يتحدوا) ، ولكننا نحمد الله لأن شبابنا قد ضربوا ذلك الاعتقاد
ضربةً جعلته هباءً منثورًا وأثرًا بعد عين.
ولقد يتساءل الناس عن العمل الذي قام به شبابنا حتى صح أن يقال فيهم ما
قلناه اليوم؟ سؤال لا نرى جوابًا عليه أبلغ من القول: ليقصد كل امرئ نادي
المدارس العليا ليشاهد بعينه اتحاد الكلمة وقوة الاتحاد والزهرة اليانعة التي تملأ
القلوب غبطةً وسرورًا , ذلك النادي الكائن في أعظم أحياء العاصمة بجوار فندق
(سافوا) والذي يحق اليوم لكل واحد من المصريين أن يفاخر به ويترنم بذكره،
ذلك النادي الذي خصصنا للكتابة عنه غالب صفحات هذا العدد، ولا بدع في ذلك
لأنه غرس أيدي شبان في مقتبل العمر في حين أنه كان المنظور أن لا يقوم به إلا
الكبراء وسراة الأغنياء، ولكن ناشئتنا برهنت على أنها قوة عظمى تحطم في سبيل
إرادتها كل عقبة كؤود، وتدوس بقدمها الشوك الذي يعترض وصولها إلى زاهي
الورود) .
ثم أفاض في الكلام عن كيفية تأسيس النادي وفوائده وذكر ما كان من مساعدة
الحكومة وكبار المحتلين له ومن ارتياح الأمير له؛ إذ جعل ولي عهده مشتركًا فيه
ونشر قانونه برمته وقال في خاتمة الفصل:
(ومسك الختام لهذه الجملة المطولة اليوم هو الاستبشار بظهور هذا النادي
إلى عالم الوجود؛ لأن ظهوره جاء حجةً دامغةً، ودليلاً قاطعًا على أن المصريين
ليسوا بذلك الشعب المِكسال كما يصفهم البعض من الناس، بل إننا أمة حية لا
ينقصنا للقيام بكبير الأعمال إلا الإدارة، وطرح الضعف جانبًا فمتى اعتمدنا على
عزيمتنا تمَكَّنَّا من الوصول إلى كل غاية نطلبها، بَلَّغَنَا اللهُ ما نشتهيه من طيب
الآمال بمنّه وكرمه) اهـ.
الله أكبر , ما هذا النادي الذي كَبَّرَتْهُ مجلة المجلات هذا التكبير، وفخمته هذا
التفخيم، وجعلته البرهان القاطع، والدليل الساطع على قوة كبرى، وهمة عليا،
قد ذللت بهما نابتتنا كل صعب، واستهانت بكل خطب، وانتشلت الأمة من أسفل
السافلين، فعرجت بها إلى أعلى عليين، حتى سَامَتْ الأممَ العزيزةَ أو سَمَتْهَا، فإن
لم تكن سمتها فقد ساوتها، أكان هذا النادي فتحًا مبينًا، أم كان استقلالاً للبلاد عزيزًا،
أم رأى صاحب المجلة أن النادي أصبح مهجورًا، وخشي أن يأتي عليه حين من
الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا؟ ! فأراد أن يجذب إليه الهاجرين له بإعلاء ذكره،
وتعظيم قدرهم بقدره، إذ لا يجهل مثله أنه نادٍ قد خلت من قبله الأندية فما ملأ
منشئوها مواضعهم فخرًا، ولا ادعوا أنهم تجاوزوا السماكين عزًّا وقدرًا، ولعل هذا
هو الأقرب فإننا لم نكد نتم قراءة ما كتبه في مجلته حتى وافانا المؤيد الصادر في
٢٦ ربيع الآخر وفيه ما يأتي مؤيد لما سمعنا من بعض المشتركين:
(إلى صفوة الشبيبة المصرية)
جاءنا هذا الكتاب يوجه كاتبه الفاضل فيه الخطاب إلى حضرات أعضاء نادي
المدارس العليا وهو بعد الديباجة:
قامت قيامة الصحف والكُتاب وغيرهم قبل إنشاء نادي المدارس العليا، وقد
أنشئ بعد اكتتاب المكتتبين واشتراك المشتركين لكن يظهر أن القوم لم يألفوا
الاجتماع بعد , فهم مشتتون على القهاوي والبارات، ولا يعرج على النادي من
المتخرجين ما يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة، ومن الطلبة ما يزيد على
أصابع اليدين، ويحتج بعضهم ببُعد المكان عن وسط البلدة، والبعض بحرارته ,
والبعض الآخر بوجود أصحاب معهم لا يسمح قانونه بوجودهم فيه.
وقد قال بعضهم: إن الاشتراك السنوي كبير , وبما أن فوائد الاجتماع عديدة
حيث أستلفت أنظار حضرات القائمين بإدارة النادي لتلافي ذلك على قدر الإمكان
خصوصًا فيما يتعلق ببعد الشُّقَّة، وقيمة الاشتراك، وأرجو من سعادتكم نشر هذا
بالجريدة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (دكتور. ر)
... ... ... ... ... ... مصر في ١٦ يونيو سنة ١٩٠٦
(المنار)
علم مما تقدم أنا ننتقد من هذا النادي عدة أمور:
(١) وجود التلاميذ فيه، ولا يسع هذا الفصل بيان ذلك بدلائله.
(٢) أنهم لم يعتبروا مدرسة المعلمين العربية (دار العلوم) كمدرسة
المعلمين الإفرنجية، ولم يدْعوا المتخرجين فيها إلى الاشتراك في النادي، فإن هذا
غمص للعلوم العربية، وما من متخرج في مدرسة من المدارس العليا إلا هو تلميذ
للأساتذة المتخرجين في دار العلوم، وإن قومًا يغمصون لغتهم وأساتذتها لا يرجى
للأمة خير في اجتماعهم، بل أقول: إنه كان ينبغي لهم دعوة علماء الأزهر إلى
هذا النادي؛ لأن أكبر فوائد الاجتماع في الأندية تقريب طبقات الأمة بعضها من
بعض، لا سيما الطبقات العالية المحترمة وعلماء الأزهر في مقدمتهم، ولا محل
هنا لشرح ذلك، ولا شك أن علماء الأزهر وأساتذة دار العلوم أبعد في مجموعهم
عن المنكر، وأقرب من الاستقامة والأدب من مجموع المتخرجين في المدارس
العليا؛ فوجودهم في النادي مزيد كمال في آدابه.
(٣) منع المباحث الدينية والسياسية من النادي، وكان ينبغي منع البحث
في الطعن بالأديان وكل ما يلقي العداوة بين أهلها والبحث في مسألة الاحتلال أو
مقاومة المحتلين أو الحكومة وإباحة البحث في فلسفة الدين وآدابه وفي فلسفة
السياسة ومسائلها العامة والخاصة بغير مقاومة الحكومة المحلية.
(٤) إباحة الخمر بعد منعها، وهذا أكبر عار على النادي من وجهين
ظاهرين.
(٥) سرعة ملل المشتركين من الاجتماع فيه وتفرقهم في القهاوي والبارات
المؤذن بقلة الثبات , فهذه الأمور كلها من دلائل طفوليتنا في الحياة الاجتماعية، ولا
ينافي هذا أن في النادي أفرادًا تُحْتَرَمُ مزاياهم الفاضلة ويُرْجَى ثباتهم، ومن هؤلاء
نرجو تلافي كل خلل، والاستعانة على ذلك بنقد الناقدين، وإطراء المادحين، وإننا
لا نريد بهذا إلا النصح والإصلاح، والله الموفق والمعين.
* * *
(خطبة الأمير على العلماء في الإسكندرية)
ظفرنا بنص هذه الخطبة التي نوهت بها الجرائد في وقتها، وقد ضاق هذا
الجزء عن نشرها مع فوائد أخرى منها مقالة من أميل القرن التاسع عشر، وقصيدة
أبي طالب مشروحة، ونبذة في الثورة الروسية، وتقاريظ متعددة , وموعدنا الجزء
السادس.