للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعصب وأوربا والإسلام

للكلام دول، تحالف دول الحقائق تارة وتخالفها تارة، ورُب خلاف يجر إلى
حِلاف وحلاف ينتهي بخلاف. قد يُتهم الخليّ بالعشق حتى تجعله التهمة عاشقًا،
وقد ينكر الكَذوب الكذب حتى يكون صادقًا. مرت على الشرق الأحقاب والقرون،
ودرجت فيه الأجيال والقرون، وهو كما تعلم مشرق الأديان، ومنبت جميع أصناف
الإنسان، ولم يقع فيه بين المختلفين في الدين المتجاورين في البيئة من الغلو في
التعصب عُشْر مِعْشار ما وقع من أهل أوربا الذين اتحدوا باسم الصليب على إبادة
المسلمين أو ما وقع من تعصب نصارى هذه القارة على الوثنيين فيها بل ولا عشر
معشار ما وقع من أهل المذاهب النصرانية بعضهم مع بعض فأوربا مثار بركان
التعصب الديني في الأرض كما بيَّنا ذلك في مقالات نشرت في أعداد السنة
الأولى.
لما رجعت دول أوربا المتحدة من حرب الصليب في الشرق مغلوبة على
أمرها عاجزة عن بلوغ منتهى ما حدده لها تعصُّبها عالمة أنها دون المسلمين في
القوة الحربية والقوة العلمية والأدبية أخذت تستعد في العلم والعمل فكان خذلانها في
تلك الحرب مبدأ حياة جديدة لها على حين كانت حياة المسلمين السابقة أخذت
بالضعف والتحول فاستفادت من الانكسار، ما لم نستفد من الانتصار، وما زالوا
يرتقون فيما تركناه لهم من علم وصناعة واجتماع واعتصام، ونحن نتدلَّى بالجهل
والكسل والتفرق والانفصام، حتى دالت لهم الدولة، وعادت لهم الكرَّة، فسادوا
علينا واستولَوْا على أكثر بلادنا وقد عاملَنا أكثرُهم بالشدة والقسوة حتى ضبطت
بعض دولهم أوقافنا وهدمت أكثر مساجدنا ومنعتنا من التعليم الديني والدنيوي وسلطت
علينا قسوسها يحقرون ديننا في بلادنا.
وإن إنكلترا وهي أحسنهن استعمارًا وأقربهن إلى اللين والعدل لم تبلغ بعض
شَأْو الخلفاء الراشدين في العدل والمساواة بل ولا غير الراشدين من أكثر ملوك
الأمويين والعباسيين كما بينا ذلك غير مرة.
تحتجّ أوربا على هذه القسوة بأن الشرقيين أو المسلمين متعصبون لا يُؤمَن
شرّهم أن يقع على المخالف لهم إلا بغلّ أيديهم وتقييد أرجلهم ووضع الوقر في
أسماعهم والغشاوة على أبصارهم، ولكن إنزالها الشر المحقق عليهم خوفًا من الشر
المتوهم منهم لا يعد تعصبًا! ! لماذا؟ لأنها تقول: إنهم متعصبون للدين وإننا غير
متعصبين له، الشرقيون متعصبون؛ لأن الشرق لا يعرف جامعة غير الدين،
الغربيون غير متعصبين؛ لأن الغرب لا يعرف غير الجامعة الجنسية أو الوطنية،
المسلمون متعصبون، النصارى غير متعصبين، التعصب الإسلامي خطر على
المدنية المسيحية، ما دام هذا القرآن معتقدًا أو محترمًا فالإنسانية على خطر،
ما يأخذه الصليب من الهلال لا يعود إليه وما يأخذه الهلال من الصليب يجب أن
يسترد منه.
أمثال هذا الكلام الذي يرددونه قد فتق آذان المطلعين من المسلمين على كتب
أوربا وجرائدها وفتح أعينهم ونبه أفكارهم فاعتقدوا أن أوربا متعصبة عليهم تحاول
محو ملكهم ووجودهم الملّي من الأرض وأنها تحاربهم بهذا التعصب وربما كانت
نجاتهم بالتعصب فكادوا يحققون التهمة ويَدْعون إلى تحقيقها ولكن روح الإسلام لا
يزال غالبًا على مجموع الملة الإسلامية وهو ما سنبينه في هذا المقال.
يخفت صوت القوم في اتهام المسلمين بالتعصب حينًا من الدهر، ثم لا تلبث
السياسة أن ترفع به عقيرتها، وقد قال في هذه الأيام وزير خارجية إنكلترا في
مجلس العموم كلمة فيه سارت بها الركبان قال - والعهدة على ترجمة الجرائد -:
إن روح التعصب قد زادت في القطر المصري في هذه الأيام زيادة يُخشى معها
على مستقبل البلاد. قال كلمته في مقام الدفاع والاعتذار عن عمل أتته السياسة
الإنكليزية في مصر فأنكره عليها بعض النواب في المجلس وطلب من الوزير أن
يبين عذر الحكومة في ارتكاب ذلك المنكر وهو القسوة في معاقبة طائفة من
الفلاحين في حادثة دنشواي التي سارت بخبرها الركبان وترى مجمل خبرها في
باب الأخبار من هذا الجزء.
عهدي بصوت المعتذر في مقام الدفاع أن يكون خافتًا ليس له صدى ولكن
صوت هذا المُدافِع قد كان أشد من دويّ المَدافِع، خشعت له في المجلس الأبصار،
وخفتت له الأصوات، ولم يلبث أن حمله البرق إلى الأرجاء، فكان مع البرق رعدًا
قاصفًا في جميع الأجواء، رددت صداه الأقطار، وكان الشغل الشاغل لصحف
الأخبار، فأما الجرائد الأوربية فقد صدقت الوزير في قوله، ووافقته على ما يريد
به، جارية في ذلك على نهجها المعبد، وتقاليدها المتبعة، وتبعها من الجرائد
الإفرنجية والمتفرنجة في مصر من يرى أصحابها لهم فائدة من تغيظ إنكلترا من
المسلمين.
وأما جرائد المسلمين في مصر ومن أنصف المسلمين في المسألة من أصحاب
الجرائد الإفرنجية والسورية فقد أنكروا القول على الوزير وما كل منكِر يعرف كيف
ينكر! .
وَجِلَ مسلمو مصر وأصحاب الجرائد منهم خاصة من قول الوزير وحسبوا
لعاقبته ألف حساب وهبَّ الكُتاب منهم لدفع تهمة التعصب عن أنفسهم فجاءوا بمنتهى
ما يتولد بين الغيرة والوجل، من فنون الحِجاج والجدل، وربما كان في دفاعهم ما
يعده المتهِمون لهم مثبتًا للتهمة عليهم، ولم أَرَ منهم من شرح ما يريده الوزير من
التعصب كما اعتقد، ثم احتج على بُطلانه بما يرجى أن يكون مقنعًا للمنصف، بل
رأيت كثيرًا من الناس يعتقدون أن الوزير قال ما لا يعتقد كما قال له اللورد كرومر
وهو أيضًا لا يعتقد ما قال. أما أنا فإنني أقول: إنهما يعنيان بالتعصب غير ما
فسره به هؤلاء المدافعون من الوجوه التي يقيمون الدلائل على ردها.
هل يعني الإفرنج بالتعصب الإسلامي تحابّ المسلمين وتعاونهم على مسابقة
غيرهم في طرق الكمال الصوري والمعنوي، فنقول لهم: إنكم تشاهدون أننا
أصبحنا أضعف الأمم اتحادًا وتناصرًا، وأشدها تفرقًا وتنافرًا! هل يعنون به بغضنا
وكراهتنا للمخالف لنا في ديننا وعدم ثقتنا به بحيث يصعب عليه أن يعيش بيننا
فنقول لهم: إذًا كيف أصابت هذه الثروة الواسعة منا جالية اليهود والنصارى منكم
ومن السوريين والأرمن وسائر الملل، وكيف صار منكم رئيس الخاصة الخديوية
وكثير من مستخدميها ورؤساء دوائر كثير من أمرائنا وأغنيائنا؟ ! ، بل كيف عاش
بيننا المبشرون بالنصرانية آمنين، وهم يطعنون بديننا وكتابنا ونبينا؟ هل يعنون
به محافظتنا على شريعتنا من جهة الأحكام القضائية فنقول لهم هذه المحاكم الأهلية
والمختلطة ومدرسة الحقوق ونظارة الحقانية نفسها حُجّة عليكم فإننا تركنا معظم
شريعتنا الإلهية إلى قوانينكم الوضعية ولم يعارض حكامنا الذين فعلوا ذلك أحدٌ من
علمائنا ولا من وُجهائنا؟ هل يريدون به اعتصامنا بعُرْوة الدين في أعمالنا
الشخصية فنقول لهم: ولماذا راجت خموركم حتى عمت المدن والقرى وربحت
تجارة بُورَصكم وبغاياكم حتى أهلكت الحرث والنسل، ولماذا كان عدد أغنيائنا
الذين يزورون بيوت الفسق في بلادكم كل عام أضعاف الذين يزورون بيت الله
الحرام؟ ! ! ، ولماذا ولماذا ولماذا؟ ! ! ! هل يعنون به أن مصر تريد أن تتبع
سائر الأقطار الإسلامية بالاتحاد على الأُمنية التي يعبر عنها بالجامعة الدينية،
فنقول: أخبرونا عن قطرين إسلاميين اتحدت حكومتاهما وتحالفتا على دولة غير
إسلامية كما تفعل دولكم في تعاطفها وتحالفها؟ ! . ما كانت حكومتان لنا متحالفتين
لإعلاء كلمة الله لا سيما في هذه الأزمان، إنْ هم إلا متحالفون لوجه الشيطان،
بالأمس قامت دولكم على دولة مراكش الإسلامية فاتحدت على ما شاءت من
السيطرة عليها ولم تطلب دولة الترك ولا دولة الفرس أن يكون لهما معكم سهم ولا
قالت واحدة منهما كلمة تُشعر بالغيرة عليها أو المساعدة لها بل هما الآن متناوئتان
كل منهما تحشد الجيوش على الحدود كأنهما متحدتان على إفناء ما بقي للمسلمين من
قوة واستقلال بفتْك كل منهما بالأخرى.
على أن الحكومات هي التي تعقد المحالفات وزمام الحكومة المصرية في أيديكم
وليس للأمة في أعمالها رأي، بل ليس للحكومة نفسها من دونكم أمر ولا نهي، بل
نقول لهم: لو كان للمصريين الذين تشكون من تعصبهم رأي لَمَا اتفقوا على الاعتصام
بالجامعة الإسلامية وإنما يعملون بما أرشدتموهم إليه من العصبية الوطنية فإنه وُجِدَ
فيهم كثيرون يَعدّون المسلم غير المصري فيهم دخيلاً ويأبون الاشتراك معه في أي
عمل ويفتخرون بمعاملة الأجنبي غير المسلم.
إذًا ماذا يريدون بهذا التعصب المصمئلّ، المتحفز لمواثبة الدول، المُخْرَنْبِق
لينباع، المجَرْمِز ليمُدّ الباع، المتربص ليغتال الثروة الأوربية، المتوثب ليمحو آية
المدنية.
ألا إنهم يعنون أن المسلمين حريصون على أن يكون حكامهم منهم وأشد ما
ينكرون من ذلك أن الإسلام قد جعل من حقوق الخليفة على المسلمين أن يستجيبوا
له إذا دعاهم إلى استئصال المخالفين لهم في الدين، ويعتقدون أن السلطان عبد
الحميد ما أحيا لقب الخلافة لنفسه، وعُني بإقناع الشعوب الإسلامية بالاعتراف به
باستخدام الجرائد وغير ذلك من الوسائل إلا ليمتع نفسه بهذه القوة المعنوية الهائلة
التي يستطيع أن يهدد بها أوربا في مستعمراتها متى شاء بل هو يهددها بالقوة
والفعل، ولولا ما تحدث له من الشواغل والعراقيل في كل وقت وما تنطوي عليه
جوانحه من الخوف والحذر لما أمنت دهاءه، وقد أُعطي هذه السلطة الدينية
المخيفة.
هذا ما يعتقد الأوربيون في التعصب الإسلامي وهذا ما يخافون منه.
ولمّا كانت مسألة العقبة ورأى اللورد كرومر أن السلطان قد ظهر فيها بمظهر الشدة
والحزم أولاً ورأى ثرثرة بعض جرائد المسلمين فيها بحقوق الخليفة والخضوع
للخليفة واستنادها في بعض ما تكتب على مختار باشا الذي أنيطت به هذه المسألة
خلافًا للعادة وقرأ ما كُتب إليه في ذلك اعتقد أن السلطان قد تجرأ بإيعاز إمبراطور
ألمانيا المتهور على استعمال تلك السلطة الدينية في هذه المسألة فكتب إلى دولته
بذلك فهو قد كتب عن التعصب في مصر ما يعتقد وتبعه وزير الخارجية في ذلك إذ
لا مصدر له في المسائل المصرية سواه.
فهل يفتأ الكثيرون يقولون: إن اللورد قال ما لا يعتقد وكذلك الوزير؟ وهل تظن الجرائد بما أكثرت من الكتابة في التعصب أنها فتلت في الذروة والغارب،
وأقامت الحجة على اللورد والوزير وسائر الأجانب؟ ! .
الحجة الناهضة على تبرئة الإسلام نفسه من هذا التعصب المزعوم هي آي
القرآن الناطقة بتحريم العدوان، وبأن القتال خاص بمن يقاتلوننا في الدين أي
يقاتلون لأجل منعنا من الدعوة إلى ديننا أو من إقامته وإحياء شعائره. وهذه الآيات
كثيرة جدًّا وقد تقدم تفسير أكثرها في المنار وحَسْب المنصف منها قوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) وقوله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: ٨-٩) .
لو فقه الأوربيون هذه الآيات الثلاث لأذعن المنصفون منهم بأنه لو لم يَفْضُل
الإسلام جميع الملل إلا بها لكانت كافية في تفضيله عليها ولودّوا لو أقام المسلمون
هذه القرآن واهتدوا به؛ الآية الأولى تأذن للمسلمين بقتال من يقاتلهم خاصة،
وتحرم عليهم أن يكونوا هم المعتدين ومن فروع هذا التحريم ما جرى عليه
المسلمون في حروبهم من عدم التعرض للرهبان والعُباد والنساء في بلاد الحرب؛
لأنهم ليسوا ممن يحارب. وأما الذمي والمعاهد والمستأمن فيجب على المسلمين
حمايتهم ممن يحاول الاعتداء عليهم، فهل يجوز الفتك بمن تجب حمايته من
عدوه؟ ! . أما الآيتان الأُخْريان فقد نزلتا في التمييز بين المحاربين لنا في الدين
الذين نهانا عن موالاتهم في أول السورة وفي سور أخرى وبين غيرهم. فقال في
أول هذه السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
رَبِّكُمْ} (الممتحنة: ١) .. الآيات، وفيها بعد وصف هؤلاء الأعداء بأنهم أخرجوا
الرسول والمؤمنين من وطنهم (مكة) لأنهم يؤمنون بالله أنهم إن ظفروا بهم بعد هذا
النفي والإخراج يكونوا لهم أعداءً ويودوا لو يكفرون مثلهم ويبسطوا إليهم أيديهم
وألسنتهم بالسوء أي أنهم لم يكفوا بعد الإخراج والنفي عن عداوتهم.
بعد هذا قال سبحانه: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم
مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ..} (الممتحنة: ٧-٨) إلى
آخر الآيتين. فهو بعد إطماع المؤمنين في تحويل العداوة بينهم وبين أولئك الأعداء
إلى مودة قال إن النهي عن اتخاذهم أولياء لا يعمّ كل مشرك منهم حتى الذين لم
يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يخرجوهم من ديارهم فهؤلاء وإن كانوا كفارًا لا
ينهى عن برهم والإحسان إليهم وعن معاملتهم بالعدل وإنما النهي خاص بالذين
قاتلوهم في الدين لتحويلهم عنه ومنعهم من الدعوة إليه وأخرجوهم من ديارهم أو
ساعدوا المُخرِجين لهم على نفيهم وليس نهيًا عن معاملتهم بالعدل، بل هو نهي عن
ولايتهم ومحالفتهم ومناصرتهم؛ لأن هذا ظلم بيِّن للمسلمين.
هذا ملخص معنى الآيات فهل وُجد في العالم نبي أو حكيم أو أديب أمر
بمعاملة أعدائه وأعداء قومه بمثل هذه المعاملة التي جمعت بين العدل والرحمة على
أكمل وجه؟ أليس من أقبح الظلم وأشنع الكذب والزور أو من أشد فضائح الجهل أن
يقال في دين جاء بهذا الكمال الأعلى: إنه خطر على البشر؛ لأنه يأمر بإبادة
المخالفين له وإن كانوا مسالمين لأهله ونافعين لهم كما يقول بعض الإفرنج؟ بلى
ولكن أكثر الإفرنج يحكمون على الإسلام بما يحكيه عنه أفراد من غُلاتهم في
التعصب أو من بعض جُهال المسلمين وغوغائهم أو الذين ينتحلون السياسة
ويجعلون الدين آلة لها وهم به جاهلون.
إذا كان الإسلام نفسه بريئًا من هذه التهمة التي يلصقها به الأوربيون ويسمونها
تعصبًا فإنني لا أبرّئ كثيرًا من عَوامّ المسلمين الجاهلين من اعتقاد وجوب طاعة
السلطان إذا أمر بقتل المختلفين في الدين، وإن كانت الأمة الإسلامية قد أجمعت
على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ومن أكبر المعاصي الاعتداء على
غير المعتدي. وما جاء هذا الاعتقاد من الدين بل جاء من السياسة ولا نعرف تاريخ
حدوثه، ولعله كان في أيام حرب الصليب، وقد اشتهر أن السلطان سليمان استفتى
شيخ الإسلام أبا السعود في إلزام نصارى الرومللي بالإسلام أو إبادتهم؛ لأن بقاءهم
متمتّعين بحريتهم في الدين واللغة وجميع الشؤون الاجتماعية خطر على الدولة؛
لأنهم لتعصبهم لا بد أن ينتهزوا فرصة ضعف في الدولة أو تورط في حرب شاغلة
فيخرجوا عليها فلم يفتِهِ أبو السعود بذلك، ولعله لو وجد دليلاً في الكتاب أو السُّنة
أو أقوال المجتهدين أو الفقهاء المرجحين يسمح له بإسعاف سياسة السلطان في ذلك
لأخذ به وأفتى وكانت القاضية.
إذا صدق ظننا في كون حرب الصليب هي مبدأ هذه الفكرة فكرة وجوب
طاعة السلطان إذا أمر بقتل المخالفين، فهي غرس الأوربيين الذين أثاروا تلك
الحرب بتعصبهم، وهم الذين يسقون هذا الغرس وينمونه بزعمهم أنه من أصول
الإسلام، ثم بدعوة بعض دولهم بعضًا إلى الاتحاد على المسلمين ومعاملتهم بالقسوة
ليؤمن شر تعصبهم هذا.
لا أدري أي الرأيين أضلّ، وأية السياستين شر، أرأي مسلم يظن أن اعتقاد
الأوروبيين بأن السلطان العثماني قادر على تهييج المسلمين على النصارى متى شاء
من عوامل القوة التي ترهبهم، فمن السياسة أن نمدهم في اعتقادهم هذا وإن كان
خطأ عسى أن يخف ضغطهم عمن تحت سلطتهم من المسلمين ويقل تحاملهم على
الدولة العثمانية، أم رأي أوربي أو نصراني شرقي يتهم المسلمين بالتعصب
وانتهاز الفرص للإيقاع بالمخالفين عامة أو بالنصارى خاصة، ويظن أن هذا من
السياسة المثلى التي تعود على أصحابها بالفائدة الكبرى وتمكِّن لهم في الأرض،
فيبلغون ما أرادوا من سيادة وكسب، ألا يجوز أن تأتي كل من السياستين بنقيض ما
يراد بها فيكون إيهام المسلمين للأوربيين بأنهم مستعدون للفتك بهم عندما تحركهم
إرادة السلطان جامعًا لكلمة أوربا على ابتسار الثمرة قبل إرطابها. أو اجتثاث
الشجرة قبل أن تستوي على ساقها، أو يكون اتهام الأوربيين للمسلمين بالتعصب
هو الذي يجمع كلمة المغربي منهم بالمشرقي، والعربي بالعجمي، ويؤلف منهم
عصبية تجعل الظن يقينًا، والأماني منونًا، ولو بعد حين؟ .
أليس مما يذعن له كل منصف محب لخير البشر أن إنامة الفتن خير من
إيقاظها، وأن إزالة الإِحَن خير من إثارتها، فمن أظلم ممن علم هذا فأعرض عنه
واستبدل التفريق بالتأليف، وأغرى القوي بالضعيف، أو شغل الضعيف عن قوته
الذاتية، وحمله على معاداة حكومته الحقيقية، أولئك المفرقون فريقان، هذا يقول
لأوربا: إن المسلمين متعصبون، فخذيهم بالعذاب لعلهم يرجعون، وهذا يشغل مَن
تسوسهم أو تسودهم أوربا عن قوتهم الذاتية، ويعلق أمانيهم بالدولة العثمانية،
ونحمد الله أنه لم يوجد في جرائدنا من ينفّر المسلمين من النصارى كافة كما يوجد
في الجرائد الإفرنجية والمتفرنجة من ينفّر النصارى من المسلمين كافة بدعوى أن
المسلمين متعصبون عليهم، إذًا لو وقعت الواقعة، فكانت خافضة رافعة.
أما ميل المسلمين إلى الدولة العثمانية في مسألة العقبة وفي غيرها من المسائل
فليس من العدل أن يجعل بمجرده من التعصب الديني الذين يخشى منه على غير
المسلمين عامة وعلى الأوربيين خاصة؛ لأن الدولة دولتهم باعتراف إنكلترا وسائر
دول أوربا على أنهم لا يرضَوْن ترك استقلالهم لها ولا هي تطمع بذلك، ثم إن
موضع العقبة من جزيرة العرب وكونه سيكون بالحرمين الشريفين بجعله محطة
لسكة الحديد الحجازية واعتقادهم الديني في الحرمين معروف، فإذا كانوا لا
يرضون بأن يكون الحَرمان وما هو حَرَم لهما من الجزيرة تحت سلطة أجنبية فهم
معذورون؛ لأن هذه الأرض المقدسة بمنزلة المساجد عندهم وأي متدين في العالم
يرضى أن تكون معابده ومعاهده المقدسة تحت سلطة المخالف له في دينه؟ !
أوَليس القائل بأن هذا من التعصب هو أشد الناس غلوًّا في التعصب وأجدرهم بمَثل
(رمتني بدائها وانسلت) ؟ .
إن أكثر الذين يرمون المسلمين بالتعصب ينطقون بلسان السياسة وللسياسة
سريرة لا تعلم، ولغة لا تكاد تفهم، فهي ككتب الجفر لا يعلم ما تطبِّق أو تنطبق
عليه إلا بعد وقوعه، فإذا كانت السياسة تريد عملاً يتوقف على رمي المسلمين
بالتعصب فهي ترميهم به تمهيدًا لذلك العمل فلا كلام لنا مع أهلها في ذلك؛ لأننا
لسنا من أهل الشورى في سياستهم فنقول: هذا ضارّ بنا أو بكم، وهذا نافع لنا أو
لكم، أو نحن فيه سواء إذ ربما كانوا في هذه يشْكون من التعصب ظاهرًا ويبغون
في الباطن إيجاده إن لم يكن موجودًا وحينئذ نَدَع للمستقبل خطابهم فهو أقدر على
إقناعهم وإن كانوا يقولون ذلك معتقدين له ومتبرمين منه فإننا نقول لهم بلسان
الصدق كلمة ربما كانت مزيدًا في علمهم الواسع لا يستغنى عنه:
إننا لا ننكر أننا نحب أن يكون حكامنا منا فإن هذا من خصائص البشر مهما
انحطوا ولا نراكم تعيبوننا وتعاقبوننا على كوننا من البشر، إن تريدون بتسمية هذا
تعصبًا إلا أننا نتربص الدوائر بمن يحكمنا من غيرنا لنثور عليه، وهؤلاء مسلمو
روسيا حُجة عليكم تشاهدونها الآن فهم لم يفعلوا بحكومتهم المستبدة عند
الفرصة ما فعل غيرهم، ولا تنسون ما فعل بعض نصارى البلقان من قبل وما
يفعلون الآن في مكدونية.
إن نحن إلا بشر مثلكم نحب مصلحتنا ونغار على حقيقتنا على أننا أَصْفى أهل
الملل قلوبًا وأَسْلم عاقبةً. إن كنتم تودون الوفاق والجمع بين مصلحتنا ومصلحتكم
فإن ذلك ممكن لا يحول دونه تعصب ديني ولا غيره ونحن مستعدون لبيان أقرب
الطرق إليه إن شئتم. وإن كنتم تبغون الأَثَرة فينا والافتيات علينا وتعدون عدم الرضا
بذلك سرًّا وجهرًا من التعصب فاعلموا أننا متعصبون؛ لأن طبيعة البشر قد جبلت
على النُّفرة من المتسلط الذي يستأثر بالمصالح والمنافع فلا يسمح مختارًا بشيء منها
للمتسلط عليهم إلا إذا كان انتفاعه يتوقف على ذلك السماح وإن كان متفقًا معهم في
الجنس واللغة والدين والوطن فكيف إذا كان مخالفًا لهم في كل شيء؟ إذًا لا علاج
لهذه النفرة إلا العدل والمساواة والتوفيق بين المصالح وبهذه المزايا ساد الإسلام أكثر
شعوب الأرض في أقل من قرن واحد ونراكم لا ترضون بمساواتنا في بلادنا التي
نحكمها بَلْهَ بلادنا التي وقعت في حكمكم، ثم تقولون: إن ديننا جاء بالتعصب على
أنه كان يساوي أخسّ رجل من المخالفين بأعظم سيد في المسلمين كعلي بن أبي
طالب، وإنا متعصبون؛ لأننا لا نرقص طربًا لامتيازكم علينا وترفُّعكم عن
مساواتنا! ! ! .
(ذلك شأن القوة تقول ما تشاء وتفعل ما تشاء ولا تخشى معارضًا فجازى الله
رؤساءنا الذين أذلونا بظلمهم وجهلهم واستبدادهم وأضعفوا حجتنا كما أضعفوا سلطتنا
حتى صار بعض الأجانب أرحم لنا منهم، فهو يُدِلُّ علينا بعدله الإضافي ولولا ذلك
الإذلال لما كان هذا الإدلال) .
وجملة القول أن الإسلام أعدل الأديان وأرحمها بالمخالف فوصْف الإفرنج
ومقلديهم إياه بالتعصب المذموم ظلم، منهم المعتقد له سياسة ومنهم المقلد للقسوس
وللسياسيين فيه، وإن المسلمين إذا كانوا لا يسلمون من التعصب فهم أقل تعصبًا لا
سيما في هذه البلاد من جميع أهل الملل العائشين معهم وإن الإفرنج والمتفرنجين هم
الذين أيقظوا شعور التعصب فيهم بأقوالهم وأفعالهم ولذلك ترى العارفين بلغة من
لغات أوربا والمتعلمين في مدارسها أقرب إلى التعصب من المتعلمين في الأزهر
وأن هذا التعصب لا يخشى منه على أحد من غير المسلمين في مصر ولا في
غيرها إلا إذا اتحد النصارى كلهم على محاربة المسلمين وإزالة ملكهم وأن السلطان
نفسه لا يقدر على الأمر بالنفير العام من غير هذه الحالة؛ إذ لا يفتيه شيخ الإسلام
ولا غيره من العلماء بجواز اعتداء المسلم على من لم يعتدِ عليه؛ لأن هذا مخالف
لنص القرآن وأن وزير الإنكليز قد عنَى بالتعصب ما ذكرنا تبعًا للورد كرومر وهما
يعتقدان أنه قد تهيج في مصر أيام حادثة العقبة وأنه كان يخشى من الفتن لو اشتد
النزاع وطال أمده فاحتياط إنكلترا كان من العقل والسياسة وإنا نعتقد أنه لم يكن
هناك خطر على الأوربيين وأن حادثة دنشواي لا علاقة لها بتعصب الفلاحين ولا
بمسألة العقبة، وإنما كانت جرائمهم على الضباط احتماءً مجردًا من كل شائبة ما
عدا خشونة القوم المعهودة في دفاعهم عن حقيقتهم، وأن إنكلترا قست في عقوبتهم
لكيلا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم وأنها خسرت بهذه القسوة معظم ما ربحته في
السنين الطويلة من الميل إليها والأنس بحكمها إلا أنها خسارة تزول وقسوة تنسى إذا
حسنت الحال بعدها، وإن المصريين أشد المسلمين تساهلاً وأقربهم للمخالف في الدين
مودة.
هذا وإن المسلمين ثلاثة أصناف: المشتغلون بعلوم الدين كأهل الأزهر
والمشتغلون بعلوم أوربا، والعوامّ.
فأما الصنف الأول فيعتقدون أن الذمي والمعاهد وهو مَن بَيْنَنا وبين دولته عهد
سِلمي كأهل أوربا الآن والمستأمن وهو مَن دخل من الحربيين بلادنا بتأمين منا
وإن شئت قلت: يعتقدون أن جميع المخالفين لنا في الدين غير المحاربين - يحرم
الاعتداء عليهم وإيذاؤهم بل تجب علينا حمايتهم ممن يريد الاعتداء عليهم ولو
بمقاتلته والنفقة عليهم عند الاضطرار وتستحب النفقة عليهم إذا كانوا فقراء،
ومنتهى ما عند هؤلاء مما ربما يؤخذ عليهم في هذا العصر هو عدم الائتلاف
والانبساط مع المخالف لعدم العادة. وأما العوامّ وهم الصنف الثالث، فإنهم كما قلنا
يعتقدون أن السلطان إذا أمر بالاعتداء على كل مخالف وجبت طاعته لا سيما إذا
حمل راية الرسول صلى الله عليه وسلم وهم فيما عدا هذا الاعتقاد أقرب إلى سلامة
القلب وأبعد عن عداوة المخالف من عوام سائر الملل. وهذا الاعتقاد لا يخشى
ضرره وجعْله مسارًا للفتن إلا في الحالة التي أشرنا إليها وهى قيام النصارى كافة
على المسلمين ولن يكون ذلك، فإن كان فالمتعصب هو المعتدي والعوامّ يتبعون
علماء الدين، فإذا حدثت أمور يخشى معها اعتداء العوام على غيرهم فإن علماء
الدين يقدرون على دفع كل مَخْشيّ بالخطب في الجوامع وفى الجرائد مثل هذه البلاد
فإذا كتب كبار علماء الأزهر في الصحف المنشّرة أن العدوان حرام امتنع العدوان
وكان ذلك أَفْعَلَ من كثرة الشُّّّرط والجنود.
وأما الصنف الثاني في الذكر أعني المتعلمين للعلوم الأوربية، فأكثرهم لا
يمتازون عن العوام في علمهم وشعورهم بالدين ومنهم المارق منه ولكنهم أشد
حرصًا على السلطة من غيرهم ولا شيء ينفخ فيهم روح التعصب لها مثل وقوفهم
على مطامع الأوربيين، وسماعهم لأقوالهم في المسلمين، فهم يميلون إلى التعصب
سياسةً لا تدينًا، ولكن روح تساهل الإسلام غلب عليهم حتى لا يسلم منه المارق
منهم، وإنني سمعت غير واحد من كبار رجال الحكومة ومتوسطيهم يقولون: إنهم
يتهموننا بالتعصب يا ليته كان صحيحًا. فليعلم الأوربيون أن أبعدنا عن التعصب
أقربنا من الدين، وأدنانا منه أجهلنا بالدين وأعرفنا بأهل أوربا في علومهم ومدنيتهم
لا سيما من ذاق حفظها منا فمثار التعصب أوربا لا الإسلام نفسه وإذا ظلت أوربا
على اتهامها والافتيات علينا في شئوننا فيوشك أن يجيء يوم يكون فيه الشك يقينًا
وهو ما نسأل الله أن يقي البشر شرّه وإلا فإن في استطاعتها أن تجمع بين مصلحتها
ومصلحتنا ولكن بعد استشارة أهل الرأي منا وعَدّنا من البشر الذين يشعرون
ويعقلون، ويسرّون ويألمون، ولله في خلقه شئون، وهو يعلم ما لا نعلم ولا
يعلمون.