للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرد على الشيخ بخيت

٢- وصفه الفونغراف
قلنا في الانتقاد الوجيز الأول: إنه وصف الفونوغراف وصْف مَنْ لم يره ولم
يعرف شيئًا من علم مخترعيه فجاء في رسالة (رفع الوهم والاشتباه) يرد على
قولنا بأنه وصفه بالمقدار الذي يتعلق به ما كان بصدده قال: (كما في ص ٢٦) :
وقد أخذنا وصفنا عن أهل الخبرة به وهو أيضًا مطابق في النتيجة تمام المطابقة لما
وصفه به المقتطف بالجزء التاسع من السنة الثانية. اهـ. وكان نقل عبارة
المقتطف في (ص٧و٨و٩) ويعني بمطابقة وصفه لوصف المقتطف في النتيجة
اتفاقهما على أن الفونغراف آلة ناطقة! ! .
ألا هل من قارئ فيفهم. ألا هل من متفكر فيعجب. ألا هل من عاقل منصف
فيفقه كُنه هذا المصنف؟ ! إننا انتقدنا عليه وصفه الفونغراف وهو الآلة الناطقة
وصْف من لم يره. نعني أن الوصف غير مطابق للموصوف. فإذا كان الانتقاد
خاصًّا بما وصف به هذه الآلة الناطقة لا في تسميتها آلة ناطقة، فكيف يرد علينا
بأن المقتطف وصفه وصفًا آخر نتيجته أنه آلة ناطقة؟ أليس هذا اعترافًا بأنه أخطأ
في الوصف وأننا أصبنا في الانتقاد عليه؟ إذا وصف كاتبان الآلة الرافعة للأثقال
فذكرا أجزاءها وكيفية تركيبها وطريقة رفعها للأثقال فأخطأ أحدهما في الوصف
وأصاب الآخر مع اتفاقهما على كون الموصوف آلة رافعة؟ فهل يصح الرد على
من ينتقد وصف المخطئ بأنه موافق للمصيب في كون الموصوف آلة رافعة؟ وإذا
كان قوله: إنه موافق للمقتطف في كون الفونغراف آلة ناطقة فقط اعترافًا بأنه
مخالف له في وصفها وأننا مصيبون في انتقادنا فلماذا نقل عبارة المقتطف وهي
حجة عليه ولا حاجة في إثبات كون الفونغراف آلة ناطقة إلى إيرادها إذ لا نزاع في
ذلك؟ ولماذا قال: إنه أخذ وصفه عن أهل الخبرة؟ أليس هذا إصرارًا على دعوى
الإصابة في الوصف؟ كيف يجمع بين ما يقتضي الاعتراف بالخطأ وما يقتضي
إنكاره، وكيف يورد ما هو حجة عليه على أنه حجته، هل يسلم العاقل المنصف
بأنه فهم ما كتب أم التأليف عند أمثاله عبارة عن إيراد النقول، وقال ونقول، وإن
لم يتصل ما يسمى دليلاً بالمدلول، سيعلم القارئ مما يأتي ما يدل مع ما عَلِمَهُ هنا
على أنه كتب بغير فهم وأن التأليف والمناظرة عنده عبارة عن مراجعة المسائل التي
تراد من مظانها (أي من المواضع التي يظن أنها توجد فيها من الكتب) وجمْعها
منها وكتابتها وربط بعضها ببعض بعبارات تدل على أن هذه النقول موافقة لما
يدعي وإن كانت في نفسها مخالفة له وحجة عليه.
إنما كان انتقادنا عليه بما أخطأ في وصف الفونغراف وفي قوله: إن السائل
الذي سأله مقيم في الأناضول في الرومللي الشرقي بولاية سلانيك للتنبيه على أن
العالِم الديني يحتاج في هذا العصر إلى الوقوف على العلوم والفنون المتداولة فيه
ولو بطريق الإجمال الذي يعد صاحبه لمعرفة التفصيل عند الحاجة إليه فإن المسائل
الشرعية تتعلق بأعمال الناس وصنائعهم ومعارفهم ومواقع بلادهم فإذا كان الفقيه
يجهل ذلك تعذر أو تعسر عليه فهْم كثير من المسائل التي يحتاجون إلى معرفة حكم
الشرع فيها وقد يتكلم أو يكتب في مسألة من هذه المسائل على جهل بموضوع
السؤال فيعرّض نفسه بل وصِنْفه للاحتقار والازدراء. ولم نبين هذا الغرض
اعتمادًا على اكتفاء اللبيب بالإشارة ولكنه لغروره بشهرته لم ينتبه للمراد وقام برَمينا
بقلة الأدب معه كما علم القارئ من الجزء الماضي.
إلا أننا لم نقصد تنبيهه وحده لما ذكر وإنما افترضنا خطأ أحد المشهورين من
علماء الأزهر بمعارضة الإصلاح وذم العلوم التي يسمونها العصرية لتنبيه جميع
من على شاكلته إلى الحاجة إليها وكون الجاهل بها عرضة للازدراء. وإننا والله لم
نكتب تلك العبارة الوجيزة إلا بعد أن سمعنا الناس في بعض سُمَّارهم يضحكون من
تينك المسألتين ويقولون في مؤلف الرسالتين ما لا ينبغي أن نكتب! .
رأينا بعد تردد أنه لا حاجة إلى ذكر عبارته في وصف الفونغراف وعبارة
المقتطف التي قال: إنها موافقة لها في النتيجة وبيان الفرق بينهما؛ لأن هذا لا يفيد
قراء المنار فدَعه يعتقد أن الفونغراف صندوق وأنه له مخارج كمخارج الحروف
وشيء يشبه حنجرة الإنسان وأن الغرض من إدارة الزنبلك إدخال الهواء في
الصندوق لأجل أن يقرع ما يشبه الحنجرة ويكون الصوت وأن (ذلك الصندوق في
مجموع أسطواناته يشبه الإنسان في استعداده؛ لأن يصدر منه ويسمع منه كلام)
وأن الفرق بينه وبين الإنسان من وجهين: أحدهما أن مخارج الإنسان مستعدة وقابلة
بعد التكلم وقبله كل كلام.. ومخارج كل أسطوانة من أسطوانات الصندوق مستعدة
وقابلة؛ لأن يتوارد عليها خصوص الكلمات التي تكلم بها المتكلم، وثانيهما أن
الإنسان يتكلم بقصد وشعور والصندوق ليس كذلك! ، دعه في اعتقاده هذا فإنه لا
بدع في خطئه إذا أخطأ في وصفه ولا غرابة في إصابته في بعضه بعد ما سمع من
أهل الخبرة ما سمع وإنما العبرة في استباحته الكلام فيما لا يعلم وإصراره على
الخطأ بعد العلم به ومحاولته إيهام الناس أنه أصاب. وهذه العبرة تكون أكمل في
المسائل التي من شأن مثله أن يكون عارفًا بها وهي ما يأتي بعد المسألة الجغرافية.
***
(المسألة الجغرافية)
قال الشيخ بخيت في أول رسالة السكورتاه: قد ورد علينا خطاب من بعض
العلماء المقيمين بالأناضول بالرومللي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية يتضمن كذا..
إلخ فانتقدنا عليه ذلك وبيّنا له أن الأناطول ولاية في آسيا وأن الرومللي الشرقي
غلب على ولاية من ولايات الدولة في أوربا دخلت في إمارة البلغار وأن سلانيك
ولاية عاصمة من مكدونية لا تزال في حكم الدولة، وتمنينا لو أنه أطلع أحد أولاده
الذين يتعلمون في المدارس على رسالته قبل طبعها لعلهم يصلحون له هذا الخطأ
الذي يُعدّ من الفضائح في هذا العصر، وإن لم نصرح بذلك في الانتقاد الأول بل
نبهنا المؤلف إلى حاجة علماء الدين- لا سيما الذين يدعون الاجتهاد - إلى علم
تقويم البلدان كما سيأتي. اعترف بالخطأ في هذه المسألة ولكنه تبرأ منه وألصقه
بالمطبعة المسكينة فقال ما نصه، وفيه عبرتان إحداهما في العبارة والثانية في
البراعة:
إن ما جاء في الرسالة الثانية في بيان محل إقامة السائل على وجه ما ذكره
خطأ لا يخفى على من يعلم الجغرافيا ومن لا يعلمها ولكنه خطأ مطبعي، وقد جارى
فيه الطبع بالطبع ما جاء في خطاب السائل حيث قال فيه ما لفظه: (محل الحادثة
ببلدة دراما بولاية سلانيك في روماللي الشرقي) اهـ. ثم ذكر أن مثل هذا الخطأ
يقع كثيرًا.
أقول: (أولاً) : قوله: إن هذا الخطأ لا يخفى على من لا يعرف الجغرافيا
غير صحيح والذي جرَّأه على كتابته وهو بديهي البطلان إرادته إيهام القارئ أن
مثل هذه المسألة لا تخفى عليه والإيهام دأبه وعادته وقد روي عنه أنه أخطأ فيما هو
أشد من هذه المسألة ظهورًا؛ وذلك أنه كان ينظر في قضية بالمحكمة الشرعية قبل
عزله بزمن وكان أحد الخصم فيها رحلا من خانية فسأله الشيخ بخيت عن بلده فقال:
خانية فسأله: أين خانية؟ قال: في كريت. سأله: ألست من أهل كريت نفسها؟
أجاب: بلى. فاشتبه على الشيخ بخيت كونه من أهل خانية ومن أهل كريت معًا
وسأله في ذلك فأجابه إن كريت جزيرة، وإن عاصمتها مدينة تسمى خانية وهو منها،
قال الشيخ بخيت: كلا، إن عاصمة كريت هي مدينة كريت فقال الرجل: إنه
ليس في جزيرة كريت بلدة تسمى كريت فلم يصدقه الشيخ بخيت وصدقه حسن بك
صبري وكان محاميًا في القضية فلم يقبل الشيخ بخيت قوله وعدَّه غير معقول وكأنه
استنبط هذه المسألة بقياس مصر على كريت؛ إذ يطلق اسم مصر على القطر كله
وعلى عاصمته. ولم يزل يجادل في ذلك حتى قال له أحد أعضاء المحكمة: إن
حسن بك صبري يعد عالمًا اختصاصيًّا بعلم تقويم البلدان حتى إن المحكمة إذا
أرادت تعيين خبير في مسألة تتعلق بالبلاد ومواقعها يمكنها أن تعتمد عليه فلِمَ لا
تصدقه؟ ! قال الشيخ بخيت: وأي شيء علم تقويم البلدان والجغرافيا؟ ! هذا
علم الشحاذين! ! .
أوردنا القصة بالمعنى كما بلغنا ولم يفهم الحاضرون مراده بقوله هذا علم
الشحاذين لأنهم يعلمون أن أوسع الناس علمًا بهذا العلم رجال السياسة من الملوك
والوزراء وقواد الجيوش على أنه لا يُعلَّم إلا في المدارس التي لا يدخل فيها
الشحاذون ولعله يريد أن الفقراء السائحين المعروفين بالدراويش يعرفون ما يعرف
أهل هذا العلم وبهذا يعد العلم مبتذلاً لا غضاضة على الجاهل به كأنه يظن أن هذا
العلم عبارة عن معرفة أسماء البلاد فقط وفاته أن أكثر علماء الأزهر يجهلون
جغرافية بلادهم نفسها إلا مَن تعلمها في هذه السنين! .
(ثانيًّا) قوله: (وقد جارى فيه الطبع بالطبع..) .. إلخ من اللغو الذي لا
يقبله طبع ولا عقل وما أوقعه فيه إلا ابتغاء البلاغة بالجناس وتأمل قوله: (على
وجه ما ذكر) فإنه ليس له وجه وجيه.
(ثالثًا) : لا يعقل أن تكون العبارة في الأصل الذي أرسل إلى المطبعة هكذا
(المقيمين ببلدة دراما بولاية سلانيك في روماللي الشرقي) فيجعلها طبع أهل الطبع
خطأ منهم (المقيمين بالأناضول بالرومللي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية، فإن
مثل هذا الإبدال والقلب ليس من طبع أهل هذه الصناعة على أن الرسالة ما طُبعت
إلا بعد عرضها على المؤلف وتصحيحها) ! ! !
ثم قال الشيخ بخيت بعد ما تقدم: (وبيان محل إقامة السائل لا يتوقف عليه
شيء مما نحن بصدده وعدمه، ولذلك لم نهتم له حين ما تنبهنا إليه بعد الطبع)
نقول: نعم، إن بيان حكم المسألة لا يتوقف على معرفة مكان من يسأل عنها ونحن
لم نقل: إنه أخطأ في الجواب تبعًا للخطأ في معرفة المكان كيف وقد غلب على
ظننا أنه لا سؤال ولا سائل؛ إذ لا يمكن أن يوجد سائل مقيم في أمكنة مختلفة فما
هذه المراوغات والمغالطات؟ ! .
ثم قال: (وأما دعواه أننا ممن يذم علم الجغرافيا وينفر عنها فهي دعوى
باطلة عاطلة) إلى أن قال: إننا من شدة حسدنا له نخترع عليه الأباطيل.
ونقول: هل ينكر الشيخ بخيت أنه هو الكاتب لما نشره المؤيد في أواخر سنة
١٣١٧ بإمضاء (ثابت بن منصور) في ذم الجغرافية والتاريخ والحساب العملي
وزعم أنها علوم تضعف العقل؟ إن كان ينكر ذلك بعد اعترافه به لغير واحد من
أهل الأزهر وعلمه بأن صاحب المؤيد لم ينسه، فحسبنا ما يسمعه هؤلاء من إنكاره أم
يقول: إن هذه العلوم من الكمالات البشرية لغير أهل الأزهر ومن النقائص لهم؛ لأنها
تضعف عقولهم عن إدراك علوم الشرع، أم كان ما كتبه مقاومة للإصلاح في
الأزهر في ذلك الوقت لأمر ما، ولهذا الوقت الذي لا يطالب فيه بالإصلاح هناك
مطالب قول آخر؟ .
أما ما أكثر القول فيه من أننا نحسده فجوابنا عنه أننا نراه أجدر بأن يُرحم منه
بأن يحسد، وإننا ندعو الله أن لا يبتلينا بمثل علمه وتأليفه وأن يعافيه هو من
الابتلاء بمثل ذلك في مستقبل حياته.
ثم قال: (وأغرب من دعواه ما ذُكِرَ دعواه أن الاجتهاد اليوم لا يتم إلا
بالجغرافيا على الإطلاق حتى فيما نحن بصدده وأمثاله مما لا يختص بكون السائل
في مكان دون مكان، ولكن الحسد يعمي ويُصم والعياذ بالله تعالى) اهـ.
وأقول: إن مَن له ذوق يدرك به مرامي أساليب الكلام لا يفهم من قولنا: إن
الجغرافيا (انتقمت منه لنفسها وعلَّمته أن الاجتهاد لا يتم اليوم بدونها) ما فهمه من
أن العبارة من باب الحقيقة وأن الاجتهاد فيها يشمل الاجتهاد الجزئي ولو فيما لا
علاقة له بالبلاد والمواقع، وإنما يفهم صاحب الذوق أنها من باب الكناية أو
التعريض.
على أن الاجتهاد المطلق الذي يكون صاحبه إمامًا قادرًا على استنباط الأحكام
في كل موضوع يكون من تمامه الوقوف على هذا العلم لا سيما في هذا الزمان الذي
صارت مسائل الحدود فيه بين الممالك من أهم المسائل وأحوجها إلى التدقيق
ويترتب عليها كثير من المسائل الفقهية في زمن الحرب والسلم. وقد بينا مسائل
أخرى تتوقف معرفة حكم الشرع فيها على علم تقويم البلدان فيما كتبناه في المؤيد
والمنار من الرد على ما كتبه الشيخ بخيت وغيره من علماء الأزهر في أواخر سنة
١٣١٧ (راجع ص٧٩، م٣، من المنار) .
ونكتفي بهذه الكلمات في هذه المسألة ولينتظر الرد على استنباطه جواز كون
إمام المسلمين كافرًا من الحديث المنكر وعلى ما قاله في تصحيحه فهو الذي يُظهر
غاية شوط الرجل في العلوم الدينية فيعلم هل هي مما يحسد عليها أو يستعاذ
منها؟ ! . وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))