للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رأي في اللغة العربية
قرأنا في الجزء السابع من المقتطف مقال (انتقاد فتاة مصر) لجبر أفندي
ضومط أستاذ اللغة العربية والبلاغة في مدرسة الأمريكان الكلية ببيروت ومؤلف
الكتب المفيدة في النحو والبلاغة - فرأَينا أن ننقل منه رأيه في الانتقاد اللغوي ونبين
رأينا فيه. قال:
ثالثًا: الانتقاد اللغوي
(وكثيرون من منتقدينا يأتون في هذا النوع من الانتقاد بالمبكيات المضحكات
ولا أحاشي جلة من أكابر علمائنا وكتابنا معًا. والغريب أن بعضهم ينكر القياس فلا
يجيز في الاستعمال إلا ما نص عليه في كتب أمهات اللغة، فإن لم ينص الصحاح
أو الفيروزآبادي أو لسان العرب على (احتار) مثلاً يؤاخذون من يستعملها ولو تابع
في استعمالها كثيرين من أكابر الشعراء والفقهاء. وكاد العلامة السيد محمد رشيد
رضا صاحب مجلة المنار المشهورة يهوي في مهواة هؤلاء الأقوام فإنه على سعة
علمه لم يرُقه استعمال بعضهم (احتار) مع معرفة أنه قد استعملها قبله الإمام ابن
الفارض المشهور وبعض غيره من أكابر الفقهاء كصاحب الكتاب المسمى برد
المحتار على الدر المختار. وكنت أعجب من تضييق هاته الفئة كل هذا التضييق
وما الذي يعتمدونه في الأخذ بهذه الخطة التي أخذت بخناق الكتبة والمؤلفين وخالفت
مبدأ لغة من أشهر لغات العالم باعتمادها على القياس وبمناسبة أوضاعها له حتى في
الحركات والسكتات الإعرابية إلى أن وقفت على ما كتبه العلامة الفيلسوف الإمام
الغزالي في الرد على المشبِّهة والحشوية في كتابه إلجام العوامّ فترجَّح لي أن كلام
الإمام هناك استهوى القوم فقاسوا عليه لكن حيث لا يصح القياس لوجود الفارق فأدى
قياسهم هذا لسوء الطالع إلى ما كاد يبطل القياس في ألفاظ اللغة حيث تمس الحاجة
إلى القياس وحيث لا مانع يمنع منه عقلاً أو نقلاً وبيان ذلك.
(إنه ورد في السنة ألفاظ في حق الباري سبحانه وتعالى توهم الجسمية كاليد
والعين والاستواء والنزول وغير ذلك مما أخذها الحشوية دليلاً على التجسيم
واستغووا بها العامة وبعض الخاصة بزعمهم أن ذلك مذهب السلف فتصدى الإمام
للرد عليهم وإليك بعض كلامه قال: وحقيقة مذهب السلف أن كل من بلغه حديث
من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور:
(١) التقويس (٢) التصديق (٣) الاعتراف بالعجز (٤) السكوت
(٥) الإمساك (٦) الكف (٧) التسليم.
ثم فسر الإمساك بما نصه بالحرف الواحد قال: وأما الإمساك فأن لا يتصرف
في تلك الألفاظ بالتعريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع
والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب
والتصريف والصيغة.
ثم أفاض الإمام في هذا الموضوع بما هو غاية في بابه وحريّ بكل عالم من
علماء الكلام عند المسلمين وبكل عالم من علماء اللاهوت عند المسيحيين أن يقف
عليه فإنه مما تتطاول إليه الأعناق وتطمح إلى مثله الأبصار في كل زمان ومكان.
ولا يبعد عندي أن علوّ طبقة كلام الإمام الغزالي في هذا المقام الكلامي التنزيهي هو
الذي استهوى أهل هذه الفئة التي أشرنا إليها فعمموا الإمساك في كل ألفاظ اللغة مع
أن الإمام خصه ببعض ألفاظ منها وردت في القرآن وفي بعض الأحاديث مما تُوهم
التجسيم وبذلك حظروا على الكتبة والمتكلمين استعمال القياس حيث لا محظور من
استعماله فأبطلوا القياس بالقياس فيا لَلغرابة ويا لَلفهم والنظر الصحيحين! .
والغريب أن بعضًا من أهل الفئة يتسامحون في القياس إلا أنهم يتأَبّوْنَ كل لفظ
قاسته العامة أو استعملته على سبيل الكناية أو المجاز مع أن مسوغ القياس والمجاز
هو من الظهور حتى لم يخفَ على هؤلاء. وربما استعملوا بدلاً من ذلك اللفظ لفظًا
آخر هو في الأصل قياس أو مجاز، من ذلك: خابره في مسألة كذا أو تخابروا، فإنهم لا
يسوغون استعمال هذه اللفظة ويعدلون عنها إلى: نابأه في مسألة كذا، وتنابأوا. مع أن
هذه الأخيرة مأخوذة من النبأ والأولى من الخبر. والخبر والنبأ بمعنى واحد إلا أن
الخبر أعرف وأعم وأشهر. وكذلك يَأْبون استعمال تكاتفوا على كذا من الكتف ولا
يرون أنها كتظاهروا من الظهر على حين أن وضع الكتف للكتف في التعاون أقرب
للفهم؛ لأنه أكثر مشاهدة من وضع الظهر للظهر.
وبعضهم يرون استعمال التوفير من الكبائر ليس إلا لأن العامة تستعمله
بالمعنى الذي يراد استعماله أو وضعه له. وبعضهم يشدد النكير على عائلة الرجل
بالمعنى الذي تستعمله للعامة مع أنها (كعاقلة الرجل) من عال عياله كفاهم معاشهم
ومؤنهم أو من عال الشيءُ فلانًا أهمه، ومفادها بالقياس على عائلة الرجل أنهم
الجماعة الذين يعولهم أو الذين يهمونه، ولا أوضح من الكناية بها على نفس المعنى
الذي يراد في استعمالنا الدارج. ومثل ذلك تشديدهم على الدارج والخارج والخارق
إذا استعملت بالمعاني التي تستعمل لها في الدارج. وكل هذا غفلة عن النظر
الصحيح وقد جر إليه ما استهوى القوم من القواعد الموضوعية لتنزيه الباري تعالى
عن الجسمية على ما ألمعنا إليه. فيا لله متى نعدل عن هذا التحرج الذي يقضي
العقل والنقل بتركه؟) .
(ولا يسعني المقام الآن أن أخوض في هذا البحث إلى نهايته وربما عدت
إليه في آخر إذا أفسح لي المقتطف الأغر مجالاً بين صفحاته. ولنرجع إلى فتاة
مصر فأقول: إن الكاتب قال في صفحة ٣١ آخر الوجه: ولكن الرجل الغني
المطموع فيه يتناتشه الناس من كل جهة، فإن كان مبدأ الفئة التي أشرنا إليها
صحيحًا كانت لفظة (يتناتشه) فيها شيء من العامية، وعندي أن هذه العامية هي في
منتهى الفصاحة، ويا ليت الكاتب جاء في روايته بمئات من أمثال هذه اللفظة فإنها
لم تخرج عن القياس الواضح الذي لم يتغيب حتى عن العامة) اهـ.
(المنار)
إن علماء العربية قد بينوا ما هو قياسي في اللغة كالتثنية والجمع الصحيح وما
هو غير قياسي وهو ما يعبرون عنه بالسماعي ووضعوا لذلك القواعد والضوابط
ومنها أن أبنية الأفعال سماعية لا يصح أن تأتي من كل مادة بكل بناء وإن سمع مثله
من مادة أخرى، فإذا علمنا أنهم استعملوا من مادة الحيرة (حار وحيَّر وتَحيّر
واستحار) فقط اكتفينا بها ولم نزد عليها أحير إحارة وحاير محايرة واحتار احتيارًا
وتحاير تحايرًا وحيرر حيررة وتحيرر تحيررًا.. إلخ، وعلى هذا درج العلماء
والكتاب ومضت سُنتهم في انتقاد من خالف هذه القواعد فجاء بشيء غير مسموع
وهو مما لا يصح فيه القياس وإذعان المخالف للمنتقد إلا أن يكون في المسألة خلاف
في كونها مقيسة أو غير مقيسة فيذهب كل إلى مذهب حتى قام في هذا الزمان أناس
يرون أنه يجب أن يتصرف كل كاتب في اللغة كما يشاء ويختار فيدخل فيها من
العامي والمخترع والدخيل ما يستحسنه بلا قيد ولا شرط إلا مراعاة أفهام القارئين!
ولو جرى الناس على هذا الرأي في جميع الأقطار العربية لأصبحنا بعد زمن غير
طويل والمصري لا يفهم كتاب العراقي، والحجازي لا يفهم كتاب المراكشي بل
لصارت اللغة غير العربية المدونة في الكتب ولاحتجنا إلى معجمات جديدة وإلى
نحوٍ وصرف وبيان أيضًا لكل قطر! .
رأيت المنتصرين لهذا الرأي ثلاثة أصناف: الأول: قوم قليلو البضاعة في هذه
اللغة وفنونها وقد نصبوا أنفسهم للكتابة والتأليف وهم كثيرون {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} (محمد: ٣٠) .
والثاني: أناس يريدون إفساد العربية وهم قليلون.
والثالث: أفراد متساهلون في أمر الألفاظ لتعظيم شأن المعاني وهم على سعة في
العلم وقوة في الفهم وجبر أفندي ضومط من هذا الصنف، ولذلك يوجد في كتابه من
الأغلاط اللفظية ما لا تجد مثله في كلام مَن لا يدانيه في فنون العربية.
يوجد في مقابلة أصحاب هذا الرأي قوم جامدون على النقل كما قال جبر
أفندي حتى ضيقوا أبواب المجاز والنقل والقياس ولكنني لا أظن أنه يوجد في
المشتغلين بالعربية من يقول في اللغة كلها بمثل ما قال الإمام الغزالي في صفات
الباري سبحانه وتعالى، مثل ذلك أن ما جاء من هذه الكلمات المتشابهات مفردًا مثلاً
يمتنع تثنيته وجمعه كلفظ (عين) فقد ورد {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه: ٣٩)
ولكن لا يجوز أن يقال: إن لله تعالى عينين إلا إذا ثبت ذلك بنص من الشارع فهل
يعرف المنتقد أحدًا ممن يصفهم بالجمود يقول: لا يجوز تثنية شيء من ألفاظ
العربية ولا جمعه إلا بنقل عن العرب؟ إني أجزم جزمًا بأن رأي الغزالي وغيره
في هذه المسألة لا دخل له في هذه المسألة قط.
وهناك قوم آخرون وسط بين هؤلاء وأولئك يقولون: إن باب القياس في أصل
العربية أوسع منه في عرف واضعي الفنون ولا سيما البصريين منهم وإنه ينبغي لنا
أن نسلك في العربية مسلك أهلها في الاشتقاق من الجوامد والتعريب والتجوز وغير
ذلك ولكن يجب أن لا نجدد فيها إلا ما نحتاج إليه ولا نجده في كتابها وإلا كانت الزيادة
تكثُّرًا يثقل علينا احتماله بغير فائدة أو من قبيل تحصيل الحاصل الذي لا يرضى به
عاقل، فكلمه (احتار) مثلاً لا حاجة إليها؛ لأنه ورد بمعناها حار وتحير وكاتب
هذه السطور يرى هذا الرأي ولكنه لا يطلق العنان فيه للأفراد لما يترتب على ذلك
من الفساد الذي أشرنا إليه في فاتحة الكلام بل يحتم أن يكون برأي جمعية من
العلماء يبحثون في ذلك ويجعلون له نظامًا وينشرون ما يرونه صوابًا في الصحف
ليعم الاستعمال، ويُؤمن الاختلاف، ولا يجوز الخروج عن شيء من النظام
الحاضر في مملكة اللغة إلا بعد اجتماع أهل العلم والرأي ووضعهم لها نظامًا جديدًا
بعد المشاورة والمذاكرة خلا ما يضطر إليه الكاتب أحيانًا من الحاجة إلى كلمة،
وقلما يقع ذلك مني عن عمد ومن هذا القليل استعمالي لفظ (تطور) بمعنى الانتقال
من طور إلى طور وقد فسرتها في عنوان المقالة (تطور الأمم وانتقالها من حال
إلى حال) .
ومن الغريب أن جبر أفندي أقام النكير أيضًا على من ينتقدون الخطأ النحوي
في الكلام ورماهم بأشنع الجهل فبالغ في ذمهم بأشد من مبالغة بعضهم في تبجحه
بذلك. وسنذكر في الجزء الآتي شيئًا مما خالف فيه القياس لتساهله.