للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حال المسلمين في حضرموت والإصلاح

رسالة أرسلها الأديب صاحب الإمضاء من حضرموت إلى السيد حسن بن
شهاب في سنغافوره (بعد اطلاعه على رسالة له أرسلها إلى حضرموت يدعو
بها إلى الخير) فرأينا أن ننشرها لما فيها من الدلالة على حالة البلاد العلمية
والأدبية، وهي:
كتابي إلى حضرة الماجد الفاضل السيد حسن بن علوي بن شهاب أسعد الله
أيامه، ورفع على هام السِّماك أقدامه، والروح إلى وسيم طلعته شيقة، والعبرة لما
منيت به من البيْن مترقرقة، والقلب مطبوع على الود له والثقة، وقد اكتظ
بالاشتياق، وقام فيه نبت الحب على ساق، ولم أزل أكاتمه وأنا منه في عناء،
حتى احتج عليَّ بقول أبي الطيب:
* وألذ شكوى عاشق ما أعلنا *
ويقول الآخر:
* فصرِّحْ بمن تهوى ودَعْني من الكنى *
فحينئذ فضضت ختمه، ورفضت كتمه وبعثت هذه البطاقة منهية لكم ما لديَّ من
الشوق المبرح، والبين المطوح، فإني إذا تصورت مجالسكم الفائقة، وتخيلت
منادماتكم الرائقة، استخفَّني الطرب، وهزتني أريحية الأدب ولولا أن جناحي كسير
لأوشكت أن أطير، لأقضي حق قرابته التي لا تجحد، ولله دَرّ حبيب بن أوس
حيث أنشد:
إن يفترق نسب يُؤلّف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
وأيده الآخر:
وقرابة الأدباء يقصر دونها ... عند الكريم قرابة الأرحام
ومما يزيدني كلفًا ويحشو حشاي شغفًا، عدم أنيس أتسلى به، وأتنزَّه بمُلَحه
وأدبه، لا أجد إلا من يسخن العين منظره، ويَكْلم القلب مخبره، ويتعب الروح
مقامه، ويصكّ السمع كلامه، أما هؤلاء حولي بكل مكان منهم خلف، تخطئ إذا
جئت في استفهامها بمن. وعلى كل حال فالحرّ حيثما كان مصابٌ ببلية كالمصحف في
حانة خمار أو بيت بغية، ثم إني رأيت منكم كتابًا لبعض مكاتبيكم أثنيتم فيه على
الأيام، وشكوتم مقامكم هناك وعسى أن يكون من قَبيل قول أبي تمام:
وإذا تأملت البلاد رأيتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
وقد وقفت على رسالتك التي رقمتها، وبوشي البديع نمنمتها، فوجدتها بارعة
المبنى، رائعة المعنى:
إذا سمع الناس ألفاظها ... خلقن لها في القلوب الحسد
غانية غنية عن الإطراء والمدح، معرضة عما يرميها به الناقصون من القدح،
ولا بد للحسناء من ذامّ، وإنما ينشأ ذم المسك من الزكام:
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
ولقد نثلت الكنانة، ونفضت الجعبة، ولكن شكوت إلى غير ماجدة، وجلبت
بضاعة كاسدة، وجلوت الحسناء لعِنِّين، وقد ذم الله قومًا {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا
أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعِظِينَ} (الشعراء: ١٣٦) فما بالك بقوم زادتهم العظة
نفورًا، ومنَّتهم أنفسهم غرورًا، فلو دعوتهم ليلاً ونهارًا، لم يزدهم دعاؤك إلا فرارًا،
نعم لو غيرك قالها من الذين نصبوا بإظهار التنسُّك فخاخ الكيد، وتعارجوا لشنشنة
عرفوها عن أبي زيد لعثرت ظاهرًا بطائل من القول، ولكن ما شأن أولئك إلا
الإحالة على الأماني الخائبة، والمخرقة بالقصص والأباطيل الكاذبة، وقد استنسر
بأرضنا بغاثهم، وكثر لافترائهم تراثهم، فالله للناس من خداعهم ومكرهم، فقد
ضاق الحزام على الطبيين.
أما ما طلبته من نشر الدعوة المطابق لحقيقة حكم الشرع فدونه خرْط القتاد،
كيف وقد أدرجوه في لفائف الأغراض، وبرقعوا محياه بهذه المداهنة، وجعلوه
ذريعة لاستجلاب الأبيض والأحمر، هيهات هيهات! لَذاك أعز من مخ البعوض فلا
تبحّ صوتك بنداء الجماد، ولا تضع نفخك في رماد، فإنما شمت خلبًا، ورأيت
سرابًا، واستمطرت جهامًا، فارجع البصر، لا تغرنّك الشيات والصور، إنما كل
ما ترى بعر، ودونك فالتمس لنصحك أناسًا غيرهم، أما هم فما أَمْهروا نحلتك إلا
بالإعراض، ولا قرّضوها إلا بلساني المِقْراض، وبالجملة فالمعروف بينهم زَمِنٌ،
وجدير بأن يتمثل له ببيت أخي خزاعة، وقَمِنٌ وقد اخلولق أن يدفن في الرمس،
وينهار في الطمس، ويصير كأن لم يغنَ بالأمس، غير أني لا أقنط من رحمة الله
ولا أيأس، وأترجى من الدهر أن يبتسم ويتنفس:
فللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللبدر من بعد الرجوع طلوع
ومنذ أيام أنشأت رسالة في تزييف ما شاع عندنا من تعظيم يوم عاشوراء
وإظهار السرور فيه، وقراءة أحاديث وحكايات في فضله لا يقبلها إلا سفيه، وهي
واصلتكم في طي هذا، فانظروا بعين الرضا الكليلة، وما وجدتم من خطأ فاجعلوا
الصواب بديله، واعرضوها على السيد الجليل الشهم النبيل، محمد بن عقيل، وإن
رأيتم حذف شيء منها أو زيادة فلكم الرأي الأعلى. والمأمول منكم طبعها ليحصل
الانزجار بها أو إرسالها للأستاذ الحكيم منشئ مجلة المنار لنشرها في مجلته وقد
ارتضاها من رآها وما للمعاند حجة إلا قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٣) تلك كلمة هو قائلها جاهلاً بأنه يفضي إلى الهلاك ساحلها، ودمتم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن بن عبيد الله بن محسن السقاف