للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

المكتوب السادس - التربية الدينية والفلسفية [*]
من أراسم إلى أميل
قد حزرت يا ولدي مقاصدي في تربيتك الدينية فإني أردت أن أخلي بينك
وبين عقائدك مع علمي بمخالفتي في هذا مخالفة تامة لما تجري عليه الأمور عادة
ذلك أن الطفل لا يكاد يولد حتى ينسب إلى أحد المذاهب التي تتنازع حكومة الدنيا
فيتكفل والداه بتقليده دينًا محتجين فيه بعدم أهليته (وهو أمر بيِّن البداهة) لأن يحكم
بنفسه ويسبق عرف بلاده وعوائد قومه وتقاليد بيته إلى تحديد الدين الذي يجب
انتسابه إليه وهو الاستيلاء على نفسه وقد يقول قائل: إن الوالدين إذا فعلا ذلك
فلأنهما يعتبران أنفسهما نائبين عن الأمة في القيام عن المولود قبل أن يعرف نفسه
بنفسه فأجيبه: أسلم لك ذلك ولكني أقول إن كان من حق الأمة أن تؤدي إلى المولود
دينًا كان حقًّا عليها أيضًا أن تختار له حرفة أو عملاً من أعمال الحكومة وإذًا نصير
في حكومة دينية اشتراكية.
لا ينبغي أن نجعل ولادة المولود سببًا لسلب حريته فإن انقسام الوالدين في
ضروب الوجدان واختلافهما في الأفكار حتى في أيامنا هذه يجعل ولايتهما عليه
مشكلة مرتبكة ذلك أنه لا حرب إلا حرب البيوت فإن شأن الوالدين في الدين غالبًا
أن يكون الأب كافرًا والأم مؤمنة فكيف يكون الولد إذا تنازعه هذان المؤثران؟ أقول
إنه يكون كأهل زمانه حيران عاجزًا فإنَّا كثيرًا ما نلاقي في الناس شبانًا مشغولين
بترقيع سرائرهم بخرق من مذاهب المتدينين، يخيطونها مع آراء الأحرار من
المفكرين، ونصادف آخرين شاكّين حائرين، مع بقاء استمساكهم بأوهام الواهمين،
وقد فشا في الناس التباين والتناقض وعَمَّ بينهم التشوش والاختلاط.
وأما أنت فإنك والحمد لله لم تُبتلَ بشيء من هذه المحن لأني وأمك لم نعتقد أن
من حقنا أن نغتنم فرصة نوم عقلك فندعوك إلى اتباع ما نحن عليه بدون أن يكون
فيه رضاك. واعلم أن لي ككل إنسان غيري رأيًا في المذاهب الدينية والحكمية التي
يختلف الناس فيها وهو لا يلزمك شيئًا ولا ينبغي أن تحفل به. (أكرم أباك وأمك)
ولكن لا تطع إلا قلبك فأنت حر، ومن حقك أن تسعى وراء معرفة الحق مستعينًا
في ذلك بالهمة والبسالة والنزاهة، ولقد كان هذا السعي إلى اليوم خارجًا عن وسعك
وبعيدًا عن مقدورك فيجب الآن أن يكون هو عملك في جميع حياتك.
ومن المفروض عليك قبل أن تقتنع بشيء في مثل هذه المسائل الخطيرة أن
تبحث فيها وتدرسها فإن مثَل من يرفض المذاهب الدينية أو الحكمية على غير علم
بها كمثل من يقبلها بدون بحث فيها ولا نظر، كلاهما مناقض لنفسه، غير مسدد
في رأيه، ولا شيء في الحقيقة أَدْعَى إلى الضحك من وقاحة أحداث الذين
يجاهرون بأن المباحث النظرية التي ارتاض بها أمثال ديكارت [١] واسبينوزا [٢]
وباسكال [٣] ولايبنتز [٤] وهيجل [٥] ليست خليقة بالتفاتهم وميلهم فللجهلة الأغبياء
منهم كلمة يطنطنون بها في هذه الأيام وهي قول أحدهم وهو لم يفتح في حياته
صحيفة من كتاب الكون: (ما لي ولإضاعة وقتي في حل ما لا يسبر غوره من
مسائل وجود الله وخلود الروح ووحدة الروح والجسم أو تغايُرهما فحسبي الاشتغال
بالعلم) .
أنا لا أشك في أن العلم الآن مشتغل باستئناف عمل الديانات سالكًا فيه طرقًا
أخرى مغايرة لطرقها كل المغايرة فإنه يرجو من البحث في الحوادث بحثًا تجريبيًا
ومراقبتها مراقبة قريبة أن يصل إلى حق اليقين الذي أهل الدين يرجون بلوغه من
طريق الهداية الإلهية وإني لجازم بأنه قد سلك أقوم المناهج لبلوغ الحق، وإن كان
من المتعسر معرفة النتائج التي يؤدي إليها بحثه وإذا فقهنا حالة المعارف على ما
هي عليه الآن وجدنا شأنه المطَّرد أنه لم يفدنا في بعض ما قد يهمنا استقصاؤه من
المسائل إلا شيئًا من المعرفة قليلاً جدًّا فإنا إذا استثنينا علم تركيب الحيوان؛ لأنه قد
أمكنه أن يؤدي إلينا معنى من معاني الإنسان على ما فيه من المذاهب المتعارضة
والآراء المتناقضة وعلم طبقات الأرض؛ لأنه قد فتح لعقلنا منافذ نلمح منها على
بُعد منشأ الحياة رأينا أن العلوم الصحيحة لم تكشف لنا الستار حتى الساعة عن علة
ما من العلل الأولى والتى هي أهيج لشوق العقل من سواها ولكن قد يجيبني مجيب
بأن هذه العلل لا ينبغي الاشتغال بها قطعًا؛ لأنها ليست من متناول العقل فأقول له
ما هي غاية علمك في هذا؟ أتظن أن ما حصل من تجارب الإنسان في بضعة
آلاف من السنين يسوغ تحديد قواه وملكاته المتزايدة أم تريد أنه يكفيه على كل حال
أن يسدل الحجاب على ما يجهله لينيم طمع عقله ويخمد شوق إدراكه؟ . أنا لا
أعتقد من هذا شيئًا بل أقول إن الإنسان لا يسهل عليه الاستخذاء للجهل والاستكانة
له إما لشرف في طبعه أو لخسة فيه.
ولو أنه كان يكفي للتخلص من المسائل المحيرة أن توصف بأنها معضلة لا
حل لها لكان التقصي منها في غاية السهولة. كل حيّ يطلب النمو لجسمه ما عدا
الإنسان فإنه هو الذي يختص من بين سائر الكائنات العضوية بطلب الارتقاء بفكره
إلى ما وراء حاجاته المادية فطلبه الفكري موجود فيه سواء سمي خيالاً أو غريزة
دينية، ولست أدري مطلقًا ما عسى أن يعود على العاملين على إزالته من العائدة
بتكلف احتقاره والزراية عليه ومن ذا الذي في وسعه منهم أن ينتزعه من النفوس
الشعرية فإن تطلع الإنسان إلى ما وراء حدود عقله من مقتضيات خلقته وليس من
حقنا أن نعتبر بعض الأمور التي يتطلبها الفكر خادعة أو وهمية لمجرد أنها تحير
عقولنا أو تنبو عن إدراكنا، فأما إن كان قصدهم تجريد ما يتصوره العقل من منتهى
غايات الكمال مما يقارن تصوره من مروعات الوساوس والأوهام والأعمال المنبعثة
عن النفاق والرياء فَبِها ونعمت، وأما مُدْركات العقل التي شغلت من التاريخ مكانًا
كبيرًا فلا ينبغي التعرض لها بل لا بد أن يكون لها أيضًا محل في تربية الناشئين.
ومن هذا ترى أنه لا يزال من حق الحكمة أن توجد مع العلم وأنه يبعد عليهما
كل البعد التنافر والتنافي؛ لأن من شأنهما التضافر والتوافي.
إن كثيرًا ممن يميلون إلى محو دراسة المذاهب الدينية والحكمية منقادون في
هذا إلى حاجة طبيعية للانتقام وهم لا يشعرون فإنهم قد رأوا الحكماء ورؤساء
الأديان المقررة في أيامنا هذه بلغوا من تعاطيهم للمظالم ومتاجرتهم بالسرائر
ومقارفتهم للفظائع مبلغًا لجأ بالعقل في اشمئزازه من سيرتهم إلى الجحود المطلق
فالقسيسون هم دعاة الإلحاد لا الماديون! .
ومن اللغو تجسيم أمر الإلحاد فإنه ذنب ضعيف في ذاته يتزلزل مذعورًا أمام
وجدان الإنسان وإنما الآثام المبينة والجرائم القوية الحقيقة بأن تدافع نور الهداية
والعرفان هي التي يجرأ أصحابها عند اقترافها على التستر برداء الدين، نعم، تلك
الآثام هي التي تمتاز بذلك الامتياز الهائل وهو قلب شئون الدنيا وتشويش أحوالها
فمن ذا الذي لا يَحار حين ارتكابها من الأبهة الباطلة التي تسري من عقائد مرتكبيها
إلى بعض ما يغتصبونه من ضروب السلطة والقوة تسمع بعض المتفكرين إذا
راعهم تغلب الشر على الخير يصيحون قائلين: لأن لا يكون لنا إله خَيْرٌ من وجود
إله ظالم [٦] .
ويعيب آخرون على المذاهب الدينية والحكمية أنها لم تبين للناس بيانًا مقنعًا
شيئًا من المسائل المتعلقة بنظام العالم وتنازع الخير والشر والاضطرار والاختيار،
وأنا أسلم لهم ذلك غير أني أقول: إن كلاًّ منها قد سما بفكر الإنسان إلى العُلى وغيَّر
أحوال الأمم وهدى الناس إلى طرائف الفنون وأحيا من الطرف والملح ما لولاه لظل
محجوبًا في مجاهل العدم، وكم نرى ممن يودون محو الدين المسيحي من تعليم
الناشئين مَن لم يحسن التفكير فيما كان لهذا الدين من التأثير في آداب لغتنا وأخلاقنا
وعوائدنا فهم يقولون: إنه رؤيا خبيثة رآها النوع الإنساني في منامه وأنه بنشأته
في طور التدلي والهجمية حبس روح الشعوب في ظلمات الجهل، وكل ذلك محل
للنظر والبحث، ولكن هيهات أن يقنعوا واحدًا من الناس بأن التيار الفكري الذي
جاء به ذلك الدين فغير كل ما في الدنيا لم يكن ثَمّ موجب لوجوده.
أنا أدعوك إلى دراسة هذا الدين الذي أنشأ مدنيتنا الحاضرة إنشاءً حسنًا أو
سيئًا خلافًا للقائلين بإبطالها وأحثك على أن تأخذ فيها بالجد وترجع فيها إلى أصوله؛
لأن ما يخلص إليك من مطالعة الأناجيل لا شبه بينه وبين ما يؤخذ عن رجال
الدين بحال من الأحوال فأنت ترى في الأناجيل مثلاً أن المسيح كان يأبى دائمًا
امتثال أي عمل من الأعمال الظاهرة وكان يُستهدف لزراية اليهود عليه ولومهم له
بمخالفته لهم كل وقت في السبت والصوم وغسل اليدين قبل تناول الطعام وغير ذلك
من الأعمال المشروعة وإذا كان القلب يهتز لسماع بعض المواعظ الإنجيلية فليس
ذلك ببدع فإن المسيح إنما جاء ليعلن للناس شرف صغارهم وسمو المستضعفين منهم
ووجوب تكريم الطفل والحنوّ على المرأة الخاطئة وإنك لا تجد في غير كتابه أكثر
مما تجده فيه من الميل العاطف إلى كل مكروب والرحمة لكل مهان ومحتقر ولا
أكثر من ضروب الحرمان للمتكبرين المستأثرين الذين يبتغون العلو على غيرهم من
المخلوقين، وقد كان لحبه للفقراء ولكونه نفسه فقيرًا يتتبع الأغنياء على الدوام دون
غيرهم بنُذُره وأمثاله الرائعة ولا شك أن تمكن النصرانية مع مثل هذا الأدب الذي
جاء به المسيح من تقوية امتياز الدرجات في الأمم الخالية وتأييد مزايا الأنساب
وفرط التغاير في الغنى لم يحصل إلا ببلوغ رجالها في المكر حد الإعجاز، فتلك
الأمم التي تسمي أنفسها مسيحية وتعتقد أنها على دين المسيح لم يدخل الإيمان في
قلوبها قط!
اعلم أن معرفة الشيء في وقت ما من أوقات وجوده لا تعد معرفة وإنما يعرف
إذا عرف أصله وتاريخه ومصيره، وقد نتج من اتباع البحث في الحوادث الكونية
على هذا الترتيب علوم كلها جديدة كعلم تكوُّن الأرض وعلم الأجنة فطرق البحث
هذه هي التي ينبغى عليك تطبيقها على دراسة المذاهب الدينية والحكمية وليس عليَّ
أن أتعرض بالتصويب أو التخطئة للنتائج التي يؤديك إليها بحثك إذا أحسنت فيه
نيتك وصحت عزيمتك، وغاية ما أبتغيه منك أن لا تقبل من الأصول على أنه
صحيح إلا ما تكون قد عرفت الحق فيه بنفسك.
أقول ذلك وأنا أعلم أنى أطلب إليك أمرًا عظيمًا، ولكن ما حيلتي ولا وسيلة
غيره لتنوير عقلك وهدايتك، نعم إن في الدنيا كثيرًا من العلماء الثقات المشهود لهم
قد عهد إليهم تحديد العقائد الصحيحة في الدين والحكمة والسياسة والأخلاق فهم
بعرفون كل شيء ويعلِّمون الناس كل شيء، وهذا السبب في أن نصف المتعلمين
من الناشئين يعتادون على أن يفكروا بمخاخ بعض أفراد من الناس إن صح لي
التعبير على هذا النحو.
على أن ثمة أمرًا لن تتعلمه قطعًا في مدرستهم ألا وهو الحرية، فإذا كنت
تطلب الحرية فعليك أن تطلب الحق في نفسك مستعينًا في طلبه بجميع ما لديك من
عُدَد الاستدلال والنظر وإنك سيحصل لك غير مرة مع احتراسك وتيقظك أن تعتقد
أن آراء غيرك هي آراؤك وتخطئ في كثير من المسائل قبل أن تعرف أغاليطك
ولكن لا تنس أن قوت العقل كقوت الجسم لا يكسب إلا بعرق الجبين، وأن من
أخلص في البحث عن الهُدى فقد أظهر بهذا البحث نفسه أنه جدير بالاهتداء.
وفي ختام مكتوبي أقول لك من صميم قلبي: إني وَليّك الحميم.
***
(المنار)
لقد نطق هذا الفيلسوف بالحكمة؛ إذ أبان أن من غريزة الإنسان أن يبحث عما
وراء حاجته المادية وأن هذا الارتقاء الفكري مما يمتاز به وهو مبدأ الدين في نفسه
وأنه ما دفع الناس إلى الجحود إلا سُوءُ حال رجال الدين في اتجارهم بالدين وأن
وجدان الدين يزلزل الإلحاد؛ لأنه ذنب ضعيف في نفسه وإنما الذنوب القوية التي
يعز زلزالها هي التي تُقترف على أنها من الدين وهي ذاهبة بنور هدايته ومنفرة
عنه حتى يقول: إن عدم علم الدين خير من هذا الدين. نعم، إنه أخطأ في موافقة
القائلين: لم تبين شيئًا من نظام العالم وتنازع الخير والشر والاختيار والاضطراب،
وعذره أنه لم يطلع على نهاية ارتقاء الدين لجهله بالإسلام. على أنه أحسن في
الرد على القائلين بترك دراسة الدين، وفي استخراجه محاسن الأناجيل وتصريحه
بأن النصارى غير مسيحيين. ومن أراد تفصيل هذه المسائل فليرجع إلى مقالة
(العقل والقلب والدين) من المنار. وأحسن في دعوة أميل إلى الاستقلال وترك
التقليد وتقدير الحرية العقلية قدرها.
((يتبع بمقال تالٍ))