للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو حامد الغزالي


سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين
(تابع لما نقل عن الإحياء)
(وحكي أن حطيطًا الزيات جيء به إلى الحَجَّاج فلما دخل عليه قال: أنت
حطيط؟ قال: نعم، سل عما بدا لك فإني عاهدت الله عند المَقام على ثلاث خصال
إن سئلت لأصدَقَنَّ وإن ابتليت لأصبرَنَّ وإن عوقبت لأشكرنَّ. قال فما تقول فيّ؟
قال أقول: إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظِّنة. قال فما
تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال أقول: إنه أعظم جرمًا منك
وإنما أنت خطيئة من خطاياه. قال فقال الحجاج: ضعوا عليه العذاب. قال فانتهى
به العذاب إلى أن شُق له القصب، ثم جعلوه على لحم وشدوه بالحبال، ثم جعلوا
يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئًا. قال فقيل للحَجاج:
إنه في آخر رمق فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر (أي راوي
الحكاية) فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له: حطيط ألك حاجة؟ فقال: شربة ماء، فأتوه
بشربة ثم مات وكان ابن ثماني عشرة رحمه الله تعالى.
وروي أن عمر بن هبيرة (والي العراق لبني أمية) دعا بفقهاء أهل البصرة
وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم وجعل يكلم عامرًا
الشعبي فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علمًا، ثم أقبل على الحسن
البصري فسأله ثم قال: هما هذان، هذا رجل أهل الكوفة يعني الشعبي، وهذا رجل
أهل البصرة يعني الحسن فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن فأقبل
على الشعبي فقال: يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها
ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما
يصلحهم مع النصيحة لهم وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم
فيه فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم فيبلغ
أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إليَّ أن لا ترده فلا أستطيع ردّ
أمره ولا إنفاذ كتابه وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة فهل عليَّ في هذا تبعة وفي
أشباهه من الأمور والنية فيها على ما ذكرت؟ قال الشعبي فقلت: أصلح الله الأمير
إنما السلطان والد يخطئ ويصيب. قال: فسُرّ بقولي وأعجبه ورأيت البشر في وجهه
وقال: فلله الحمد، ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ قال: قد سمعت
قول الأمير يقول: إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمون
على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم
وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة وإني سمعت عبد الرحمن
بن سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من استرعي رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه
الجنة) [١] .
ويقول: إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم وأن
يرجعوا إلى طاعتهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إليَّ أن
لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه وحق الله ألزم من حق أمير
المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فاعرضْ كتاب
أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقًا لكتاب الله فخذ به وإن
وجدته مخالفًا لكتاب الله فانبذه يا ابن هبيرة اتقِ الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من
رب العالمين يزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدَع
سلطانك ودنياك خلف ظهرك وتُقدم على ربك وتنزل على عملك يا ابن هبيرة: إن
الله ليمنعك من يَزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا
طاعة في معصية الله وإني أحذرك بأسه الذي لا يُردّ عن القوم المجرمين. فقال ابن
هبيرة: أَرْبِع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين فإن أمير
المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل وإنما ولاه الله تعالى من أمر
هذه الأمة لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته، فقال الحسن: يا ابن هبيرة الحساب
من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد يا ابن هبيرة، إنك إن تلق
من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقى رجلاً يُغرك
ويمنّيك فقام ابن هبيرة وقد بَسَرَ وجهه وتغيَّر لونه قال الشعبي فقلت: يا أبا سعيد
أغضبت الأمير وأوغرت صدره وحرمتنا معروفه وصِلَته فقال: إليك عني يا عامر
قال: فخرجَتْ إلى الحسن التحف والطرف وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفانا
فكان أهلاً لما أُدي إليه وكنا أهلاً أن يفعل ذلك بنا فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت
من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف [٢] وما شهدنا مشهدًا إلا برز علينا
وقال لله عز وجل، وقلنا مقاربة لهم قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أن لا أشهد
سلطانًا بعد هذا المجلس فأحابيه.
وعن الشافعي رضي الله عنه قال: حدثني عمي محمد بن علي قال إني
لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب وكان والي
المدينة الحسن بن زيد قال: فأتى الغفاريون وشكوا إلى أبي جعفر شيئًا من أمر
الحسن بن زيد فقال الحسن: يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب، قال:
فسأله فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب فقال: أشهد أنهم أهل تحطّم في
أعراض الناس كثيرًا والأذى لهم فقال أبو جعفر: قد سمعتم فقال الغفاريون: يا
أمير المؤمنين سله عن الحسن بن زيد فقال: أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ويتبع
هواه فقال قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح فقال:
يا أمير المؤمنين اسأله عن نفسك فقال: ما تقول فيّ قال تعفيني يا أمير المؤمنين
قال: أسألك بالله ألا أخبرتني قال: تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك قال: والله
لَتخبرَنّي قال: إنك أخذْتَ هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله وأشهد أن
الظلم ببابك فاشٍ قال فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي
ذؤيب فقبض عليه، ثم قال له: أَمَا والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم
والدَّيْلم والترك بهذا المكان منك قال: فقال ابن أبي ذؤيب يا أمير المؤمنين قد ولِّي
أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا
آنافهم، قال: فخلى أبو جعفر قفاه وخلَّى سبيله وقال: والله لولا أني أعلم أنك
صادق لقتلتك فقال ابن أبي ذؤيب: والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك
المهدي قال: فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لمّا انصرف في مجلس المنصور لقي سفيان
الثوري فقال له: يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار ولكن ساءني
قولك له ابنك المهدي فقال: يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في
المهد! .
وعن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال بعث إليَّ أبو جعفر المنصور أمير
المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد عليَّ
واستجلسني، ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي قال قلت: وما الذي
تريد يا أمير المؤمنين قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قال فقلت: فانظر يا
أمير المؤمنين إنك لا تجهل شيئًا مما أقول لك، قال: وكيف لا أجهله وأنا أسألك عنه
وفيه وجهت إليك وأقدمتك له قال قلت: أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال
فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف وانتهره المنصور وقال هذا مجلس مثوبة
لا مجلس عقوبة فطابت نفسي وأنست في الكلام فقلت يا أمير المؤمنين حدثني
مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد
جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سِيقَتْ إليه فإن قبِلها بشكر وإلا
كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثمًا ويزداد بها الله سخطًا عليه) يا أمير
المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أيما والٍ مات غاشًّا رعيته حرَّم الله عليه الجنة) [٣] يا أمير المؤمنين من كره
الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين، إن الذي ليَّن قلوب أمتكم لكم حين
ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بهم رءوفًا
رحيمًا مواسيًا لهم بنفسه في ذات يده محمودًا عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم
له فيهم بالحق وأن تكون بالقسط له فيهم قائمًا ولعوراتهم ساترًا لا تغلق عليك دونهم
الأبواب ولا تقم دونهم الحُجاب، تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس بما أصابهم من سوء،
يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين
أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم ومسلمهم وكافرهم وكلٌّ له عليك نصيب من العدل
فكيف بك إذا انبعث منهم فِئام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو
ظُلامة سقتها إليه، يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال كانت
بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين فأتاه
جبرائيل عليه السلام فقال له: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك
وملأت قلوبهم رعبًا فكيف بمن شقق أبشارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم
عن بلادهم وغيبهم الخوف منه يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة
عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه
في خدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله
لم يبعثك جبارًا ولا متكبرًا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال: اقتصَّ
مني فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبدًا ولو على
نفسي فدعا له بخير [٤] يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه
وسلم إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له النبي عليه السلام (يا عباس يا عم النبي: نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها) [٥] نصيحة منه لعمه وشفقة عليه
وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئًا إذ أوحى الله إليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: ٢١٤) فقال يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة
بنت محمد إني لست أُغني عنكم من الله شيئًا، إن لي عملي ولكم عملكم [٦] وقد قال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا
يُطَّلع منه على عورة ولا يخاف منه على حُرة ولا تأخذه في الله لومة لائم، وقال:
الأمراء أربعة فأمير قوي ظلف (أي منع) نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل
الله يد الله باسطة عليه الرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه
فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة
الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الرعاة الحطمة) فهو الهالك
وحده [٧] وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعًا.
وبعد أن أطال في وعظه بما حذفنا بعضه اختصارًا قال:
(يا أمير المؤمنين من أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله
التقوى وإنه مَن طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله
الله ووضعه فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك) ثم نهضت فقال لي: إلى أين؟ فقلت:
إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله فقال: قد أذنت لك وشكرت لك
نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه نستعين وعليه نتوكل وهو
حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير
المتهم في النصيحة، فقلت: أفعل إن شاء الله تعالى، قال:محمد بن مصعب فأمر له
بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال: أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع
نصيحتي بعَرَض من الدنيا. وعرف المنصور مذهبه فلم يجِد عليه في ذلك.
(وعن ابن المهاجر قال: قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجًّا
فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يُعلم به
فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة
ليصلي بالناس فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً عند
الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحُول
بين الحق وأهله من الظلم والطمع، فأسرع المنصور في مِشْيته حتى ملأ مسامعه
من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول، وقال
له: أجب أمير المؤمنين فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه،
فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض
وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني
وأقلقني. فقال يا أمير المؤمنين: إن أمَّنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها
وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل. فقال: أنت آمِنٌ على نفسك فقال:
الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في
الأرض أنت! فقال: ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي
والحلو والحامض في قبضتي؟ قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير
المؤمنين إن الله استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع
أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجُرّ وأبوابًا من الحديد وحَجَبة
معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها عنهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها
واتخذت وزراء وأعوانًا ظلمة إن نسيت لم يذكّروك، وإن ذكرت لم يعينوك وقويتهم
على ظلم الناس بالأموال والكِراع والسلاح، وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس
إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع
ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما
رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يُحجبوا
عنك، تجيء إليك الأموال ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا فأتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا
يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرًا إلا أَقصَوْه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره فلما
انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك
بالهدايا والأموال ليقوَوْا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من
رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيًا وفسادًا وصار
هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلم حِيلَ بينه وبين الدخول
إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك
ووقَّفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا
صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظّلم به حرمة وإجابة لم يمكنه مما
يريد خوفًا منهم فلا يزل المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو
يدفعه ويعتلّ عليه فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضربًا مبرّحًا
ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير فما بقاء الإسلام وأهله على هذا.
ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رُفعت ظُلامته إليهم
فينصف ولقد كان الرجل يأتي إلى أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي: يا
أهل الإسلام فيبتدرونه، ما لك ما لك؟ فيرفعون مَظْلِمته إلى سلطانهم فينتصف.
ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سَمْع مَلِكِهِمْ فجعل يبكي فقال له وزراؤه: ما لك تبكي لا بكت عيناك؟ فقال:
إني لا أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع
صوته، ثم قال: أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألاَ
لا يلبَس ثوبًا أحمر إلا مظلوم! فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى
مظلومًا فينصفه! هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين
ورِقته على شح نفسه في ملكه وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفة
بالمسلمين ورقتك على شح نفسك؟ ! .
وبعد أن أطال في موعظته وخوّفه من الله وعذاب الآخرة بما حذفنا بعضه
للاختصار بكى المنصور بكاءً شديدًا حتى نحب وارتفع صوته،ثم قال: يا ليتني لم
أُخلق ولم أكُ شيئًا، ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت ولم أَرَ من الناس إلا خائنًا؟
فقال: يا أمير المؤمنين عليك بالأئمة الأعلام المرشدين قال: ومَن هم؟ ! قال
العلماء، قال: قد فروا مني! قال:هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من
طريقتك من قِبَل عمالك ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم من
الظالم وامنع المظالم وخذ هذا الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل. وأنا ضامن على أن مَن هرب منك أن يأتيك فيعاونك على إصلاح أمرك ورعيتك. فقال المنصور: اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل.
(المنار)
أليس ملوكنا الآن أحوج إلى مثل هذه النصيحة من المنصور وهم غير
منصورين؟ ! أليس حالهم شرًّا من حاله وملكهم دون ملكه وهروب الخيار منهم
أكثر من هروبهم منه والخطر عليهم من الظلم أشد من خطره عليه في زمنه؟ بلى،
ولكن أين العلماء الناصحون؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))