للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرد على الشيخ بخيت

رغب لنا ثلاثة نفر أن نكفّ عن الرد على الشيخ بخيت أحدهم صديق لنا في
القاهرة يرى أن كل ما يُكتب في المنار أَنْفَع من هذا الرد، فينبغي اختيار الأنفع
وتقديمه على ما دونه، والثاني أحمد أفندي وجدي أحد طلاب مدرسة الحقوق كتب
إلينا من السويس كتابًا أثنى فيه على المنار، وذكر من فائدته ما ذكر، ورأى أن
هذا الرد من المسائل الشخصية التي لا تليق به ولا نرتاب في إخلاص هذين
الناصحين، والثالث مجهول أرسل إلينا رَقيمًا من الإسكندرية كله سباب وشتائم،
وحكم على قلبنا وسريرتنا، ومما قاله: إن الشيخ بخيتًا اعترف في رسالته الثانية
بأنه أخطأ، ولكنه أحب أن يداري خطأه ويموهه فما كان يجوز بعد هذا أن نعود إلى
بيان فضيحته أو ما هذا معناه، ولولا هذا المعنى لم نذكر هذا الكاتب الجبان السبَّاب
فنبدأ بالجواب عن هذه الكلمة، وإن لم يستحق كاتبها جوابًا فنقول: لو أن الشيخ
بخيتًا اعترف بخطئه في قوله إن خليفة المسلمين يجوز أن يكون كافرًا أو بأن
حديث ابن ماجه الذي احتج به لا يُحتجُّ به؛ لأن سنده لا يصح ومتنه لا يدل على
ما قاله في رسالة السكورتاه - لكففنا عن الرد عليه،وإن نَبَزَنا بألقاب الجهل والحسد
و... فإننا لسنا ممن ينتصر لنفسه دون الحق وقد سبنا كثير من السفهاء في الجرائد،
وسعى كثير من المفسدين في إيذائنا، ولم نقل في أحد منهم كلمة سواء انتصارًا أو
انتقامًا، وقد هضم أناس حقوقنا المعنوية وأكل آخرون مالنا بالباطل فلم نقل في أحد
منهم كلمة ولكننا قد انتُقِدْنا غير مرة على أصدقائنا، وفى هذا الجزء وما قبله شيء
من ذلك.
وفي مقابلة هؤلاء الثلاثة نرى كثيرين من أهل الأزهر وغيرهم من أهل
الرأي والفضل قد استحسنوا هذا الرد وعَدَّوْه من أفضل طرق الإصلاح وخدمة العلم
في زمان كثر فيه التهجم على التأليف، واعتادت الجرائد مدح كل تصنيف، لا
سيما إذا كان لصاحبه حظ من الشهرة وكِفْل من الجاه وفي ذلك من الغش للأمة ما
فيه، وما زال المشتغلون بالعلم يرد بعضهم على بعض، ونحن الآن أحوج إلى هذا
منا في الزمن الماضي لِمَا في نشر المصنفات الضارة بالطبع من عموم الضرر
والإفساد.
تعوَّد الناس عندنا قراءة ردَّ بعض الجرائد على بعض في مسائل السياسة
والأخبار، ويرون مجرد الرد دليلاً على العداوة الشخصية ولم يتعودوا مثل هذا في
مسائل العلم والدين وإن كان ضرر الخطأ في هذا أشد؛ لذلك توهم بعض الناس أن
بيننا وبين الشيخ بخيت عداوة، لا سيما بعد نشر ما نشر في المؤيد فأسرع إلينا
بعض مبغضيه يذكرون لنا من السيئات ما لا نحب أن نسمعه إن صدقناهم فيه فكيف
نرضى أن نذكره في المنار، ومنه ما يتعلق بالمعاملات والمال وليس من شأن
المنار الخوض في ذلك.
نعم إن المنار لم ينشأ للبحث في الدين فقط كما نسمع تارة بعد تارة من
المفتاتين علينا بأهوائهم، ولكن باب الأخبار الذي فتح فيه من أول نشأته لا يدخل
فيه إلا ما كان فيه عبرة وموعظة للأمة.
فليعلم القاصي والداني أنه لا عداوة بيننا وبين الشيخ بخيت، وأننا لا نحب أن
نسمع عنه شيئًا مكروهًا، وأن ما يتفق لنا سماعه نطويه ولا ننشره إلا أن يكون مما
يؤيد حجتنا في المسائل العلمية والدينية التي نناظره فيها، إذ لا محاباة في العلم
والدين.
هذا وقد سبق إلى فهم صاحب المؤيد أن ما كتبناه في الجزء الماضي يشعر
بأنه هو الذي أخبرنا بأن الشيخ بخيتًا هو الكاتب لما كان نُشر في المؤيد بإمضاء
(ثابت بن منصور) فكتبنا إليه مبينين أننا لم نقصد ذلك وأن العبارة لا تدل عليه
بل فيها ما يدل على أن ذلك كان معروفًا لغير واحد، وأزيد الآن أنه كان في المقالة
التي نشرت يومئذ في المؤيد ردًّا على ثابت بن منصور إشارة إلى أن الشيخ بخيتًا
هو الكاتب لها لا أزال أذكرها هي: لو أن الشيخ ثابت بن منصور ركب مركبة
لتنقله من الخرنفش إلى الأزهر، وكان سائقها لا يعرف جغرافية القاهرة، فسار به
إلى جهة باب الحديد - أما كان يفوته الدرس؟ أو ما هذا معناه فذِكْر خروجه من
الخرنفش كان إشارة من الكاتب إلى أن ثابت بن منصور هو الشيخ بخيت، وإننا
نعرف كثيرين كانوا يعلمون ذلك ومنهم بعض أساتذة المدارس الأميرية.
كان المقصود من كتابي إلى المؤيد أن أَبْرَأ من اتهام صاحبه بأنه هو الذي
أخبرني بأن ثابت بن منصور هو الشيخ بخيت، وليس فيه كلمة تشعر بانتقاد الشيخ
بخيت، وانظر ما كتبه هو إلى المؤيد فإننا ننشره لما فيه من العبرة في اللفظ
والفحوى، وكثرة الأدب وقلة الدعوى، ولفائدة تُذكر بعد، وهو:
بيان حقيقة
صاحب المؤيد الأغر سعادتلو أفندم حضرتلري:
وبعد: فإني أرجو نشر ما يلي بجريدة المؤيد إظهارًا للحقيقة ودحضًا لِمَا
افتري به علينا ونشرتموه بها.
قد رأيت بعدَدَيْ ٤٩٥٦ و٤٩٥٧ من جريدة المؤيد أن صاحب مجلة المنار قد
ادعى أنني كتبت رسالة لجريدة المؤيد، ونشرت سابقًا تحت إمضاء (ثابت بن
منصور) .
وحيث إن هذه الدعوى باطلة عاطلة وتضاف إلى غيرها من دعاويه علينا
وعلى غيرنا، ولا يستطيع أن يأتي بواحد يزعم أني خبرته بأني كاتب الرسالة
المذكورة ولا أن يقيم حجة، ولو أوهى من بيت العنكبوت على ذلك.
وحيث إنه يجوز أن يكون المبغضون إلينا قد افترى ذلك علينا ليشوه وجه
الحقيقة الساطعة] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِم وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ يُتِمَ نُورَهُ [.
ويمكن المؤيد أن يراجع الحقيقة ليعلم أني لم أكتب له هذه الرسالة كما أنه لم
يسبق لي أني كاتبت المؤيد ولا غيره من الجرائد في شيء ما أصلاً، فقد جئت إلى
جريدتكم الغراء بهذه السطور الوجيزة لنشرها بها دحضًا لتلك المفتريات، ولو أني
كتبت أو أكتب إلى جريدة لكتبت بإمضائي، وحاشا أن أكتب بإمضاء مجهول
مستعار، فإني ممن يعتقد أن التجهيل جهالة لا يرضاها لنفسه عاقل ولا يُقَدَّمُ عليها
إلا خائف أو جاهل، ولكن الدعاوي المختلقة على الناس عمت بها البلوى سلفًا
وخلفًا حتى قال الشاعر قديمًا:
لي حيلة فيمن ينمّ ... وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
وفقنا الله للصدق في القول والإخلاص في العمل، ووقانا شر الخطأ والخطل،
فإنه سبحانه بيده العصمة وتمام المِنَّة والنعمة.
كتبه محمد بخيت المطيعي الحنفي بالأزهر.
(المنار)
كنت أتمنى لو يعلم الشيخ بخيت موقع كتابته هذه عند أهل الفهم والمعرفة
بالكتابة، وماذا قالوا في نقد بعض المفردات والأسلوب الذي اكتسبه من المحكمة،
ولكنهم لم يهتدوا إلى متعلق (وحيث وحيث) في كلامه، ونقول: إذا كان الشيخ
نفسه يجوِّز أن يكون بعض المبغضين له أو (إليه) قد افترى عليه ذلك وأخبرنا
وصدقناه، فلماذا جزم بأننا نحن الذين افترينا عليه هذه الفِرْية.
هذا ما لا ينبغي أن نطيل فيه، وأهم ما أقصد بنشر رسالته هذه بيان أنها تدل
على رجوعه عما كان يقوله في دروسه ومجالسه في شأن الكتابة في الجرائد، فقد
بَلَغَنا من طرق كثيرة أنه يقول بأن الكتابة في الجرائد محرمة؛ لأن الجرائد عرضة
للإهانة، وإهانة ما يكتب فيها محرم لا سيما إذا كان فيه اسم من أسماء الله تعالى أو
أسماء أنبيائه وملائكته أو شيء من القرآن أو الأحاديث، وها نحن أولاء نراه كتب
في جريدة كتابة مشتملة مع اسم الله تعالى على كل شيء من كتابه العزيز فإن كان
ينكر أنه قال بتحريم الكتابة في الجرائد حتى فيما هو دفاع عن الإسلام وتأييد له
كالرد على هانوتو (مثلاً) فإننا نسلم له إنكاره، وحَسْب الناقلين ذلك عنه أن
يعرفوا أيهما الصادق، كما عرف الناقلون عنه أنه هو الذي كتب بإمضاء ثابت بن
منصور أيهما الصادق، وإن ادعى أن رأيه واعتقاده قد تغير، فإننا نسلم ذلك
ونشكره له.
هذا وقد ضاق هذا الجزء عن بقية الرد عليه في مسألة الإمامة وموعدنا
الأجزاء الآتية.
((يتبع بمقال تالٍ))