للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
المكتوب السابع من أميل إلى أمه
في ابتداء العشق وغرور الشاب الغرّ بالمعشوقة
عن (بن) في ٢٨ سبتمبر سنة -١٨٦.
لقد كان قولك حقًّا أيتها الوالدة العزيزة فإني قد خدعت نفسي ولا حق لي في
الشكوى على كل حال ممن كنت أحبها؛ لأنها لم تكن التزمت لي شيئًا ولا وعدتني
الصدق في حبي، بل إنها بما كانت مغمورة فيه من ضروب التبجيل والتكريم
تفضَّلت فقبلت مني اعتباطًا صنوف إجلالي ودلائل إعظامي، وقد كان هذا منها لي
تشريفًا كبيرًا، وأظن أن من كفران نعمتها أن اتهمها بخيانتي، فإنه لم يكن من ذنبها
أن كنت جادًّا فيما لم يكن غيري يتعاطاه إلا هازلاً.
على أني إن قلت لك: إني كنت أفكر في أمرها دائمًا على هذا النحو كنت
كاذبًا فإن الصدمة التي هدمت صرح غروري بها تلتها ساعة دَهَش وذهول خيل لي
فيها أن السماء خرَّتْ على رأسي، وصرت كأني في حيز الفناء، وأنك تقولين:
إنك لست أول من ابتلي بهذه الضروب من انكشاف الأباطيل وزوال الأوهام، وهو
قول لا ريب عندي في صحته غير أن ما ينتاب الإنسان لأول مرة في حياته يخيل
له أنه لم يحصل لأحد غيره في الدنيا، فكنت أسائل نفسي هل يمكن أن يوجد في
البرية من يبلغ مبلغها في الخيانة أوليس الحسن إلا نقابًا للنفاق؟ وأقول: إنها لشد
ما سخرت مني لسلامة نيتي وسرعة تصديقي..... وأحس بقشعريرة الغيرة تدب
في جسمي حتى تبلغ نخاع عظامي.
وأول يوم قامت بنفسي فيه الريب على صدقها فررت من المدينة هائمًا على
وجهي كالمجنون أَخْبِط خَبْط عَشْواء وقد تعاقبت على بصري في مسيري مشاهد
جمة من سنابل الحنطة المدركة، والقنابر المغردة، وما في الهواء من الروح
الخافق وجَدًا وحَبًّا والكفور والطواحين التي تنكشف للرائي في أمكنة مختلفة من
خلال حجب الأشجار، وقد مزقتها يد الريح، وخرير الماء المتدفق من ينابيعه
المنتحبة تحت الخضرة والديكة المغتبطة المتغطرسة واقفة على الدمن ورافعة
عقيرتها بزقائها النفاذ في كبد السماء، وأسراب العصافير سائرة متعاقبة في الجو
متنافرة، وغير ذلك من المناظر التي لولا هذه الأحوال لهزت نفسي وشرحت
صدري فلم تلفتني عن هذه الفكرة الثابتة في ذهني وهي أنها تغشني.
لمَّا رجعت إلى المدينة كان الليل قد جن فلمحت شبحًا مبهمًا يسري وجدران
البيوت كأنه ظل، فلما بلغ منعطف الشارع سقط عليه ساطع نور الغاز المنعكس،
فأراني أنه فتاة شاحبة اللون رثة الثياب تحمل طفلاً على يديها، ولست أدري تمام
الدراية لماذا خطر بفكري لرؤيتها أنها خدعت ثم هجرت، وسألت نفسي سؤالاً
محنقًا، هل تنقسم النساء في هذه الأيام إلى طائفتين: طائفة خادعة وطائفة مخدوعة؟
تأثرت هذه الفتاة بعضًا من الزمن يجذبني إليها نوع من العطف لا أعرف سره
حق المعرفة، فكلما كانت تمر على نور مصباح كنت إخالني أقرأ في وجهها خاطر
الانتحار، وقد كنت من تسخُّطي لحالتي بحيث إني كنت أودّ لو أجد السبيل إلى
عمل من أعمال البر، وما عتمت الفتاة أن دخلت في مأزق من حارات ضيقة
مظلمة ينتهي إلى فناء تكتنفه أطلال دارسة، وفى ركن من هذا الفناء بئر سُدَّت
فوهتها بغطاء غليظ من خشب مسوس مشقق فرفعت الغطاء بإحدى يديها العاريتين،
واتكأت بمرفقيها عن فم البئر وأرسلت بصرها في غيابتها وعليها سمة القنوط،
وفى هذه الساعة انفلت القمر من قبضة السحاب فألقى نوره الأغر على بلاط الفتاة
المتوحل، وكنت إذ ذاك مختفيًا خلف جزء من جدار أتتبع جميع حركات الفتاة
المسكينة بإمعان؛ لأني لم يكن بقي عندي ريب في أنها قد صممت على الانتحار،
وكنت أقول في نفسي: أقل ما في الأمر أني هاهنا لأمنعها منه وما كنت أجسر حتى
هذه الساعة أن أظهر لها خشية أن تزيدها رؤيتها لمن شاهدها في هذه الحالة
غضاضة وذلة، فبعد أن تروت هنيهة كان جبينها الكئيب في أثنائها مسرح الانفعال
والاضطراب، نظرت إلى ولدها وهمهمت بكلمات مبهمة وهي تهز رأسها ثم
هرولت داخلة أحد الأكواخ الحقيرة وأغلقت بابه عليها.
هذا كل ما علمته ويحتمل أن يكون كل ما سأعلمه من أمر هذه البائسة في
حياتي، وقد كنت تلك الليلة غير أهل لفعل الخير إذا فرض أن من الخير تَنْجِية
نفس من الموت كانت تؤمن بالحب ثم اضطرت إلى الكفر به ولَعْنه.
كأني بك تسألينني كيف ظهر لك أنك ألعوبة لهوى امرأة طائشة أجيرة
فأستأذنك في تنزيهك عن سماع تفاصيل هذا الأمر؛ لأنها لا تليق بك ويكفيني في
ذلك أن أخبرك بأنها كانت تُحرِّض طالبين أو ثلاثة غيري على التقرب منها في
وقت واحد بقبول مساعيهم، وهذا بقطع النظر عن أمير ورتمبورغي [١] يقال: إنها
تحبه لِمَالِهِ فليت شعري هل أبصر أحد في حياته نظيرة لتلك المرأة.
لم يكن همليت [٢] مثلي في سوء الحظ لما كان يقول لمعشوقته أو فيليا (أيتها
المرأة اسمك الخور فإن اسم صاحبتي هو الكذب والمكر والغش) ، هذا هو التمثال
الذي بخرته ببخور أماني، وجعلت له بين الآهات العفيفات مكانًا، وكنت أتمنى لو
دنت مني الكواكب فانتزعتها من نظامها ونظمت له منها إكليلاً، على أن لي أمرًا
يسليني وهو أني لم أدنس الحب في حال جنوني به.
فاعلمي يا أماه أنه لا يزال من حقي أن أنظر إليك غير خَجِل؛ لأن خطيئتي
إنما كانت سوء حكم لا ارتكابًا لشيء من الخنا، ولكن هذا لا يقلل من استماحتي
لعفوك، فاغفري لولدك هفوته حتى يمكن أن يغفرها لنفسه. اهـ
***
المكتوب الثامن من هيلانه إلى أميل
عن (لوندرة) في ١٠ أكتوبر سنة -١٨٦.
اعلم يا ولدي العزيز أن ما نقع فيه من ضروب الغي هو الذي يهدينا سبيل
الرشد، وأن ما نقترفه من الذنوب هو الذي ينبئنا إذا تألمت منه ضمائرنا بأن لنا في
نفوسنا قانونًا زاجرًا، وأن الحكمة في رأيي هي أن نستفيد من كليهما لنتعلم.
لم تدهشني نهاية قصتك وسأتحامى كل التحامي أن أعيب سيرتك فيها؛ لأنك
قد عبتها بنفسك، ولم يكن كل ما كان في وسعي تأديته إليك من النصائح قبل ختامها
المحزن ليساوي ما وَعَظَتْكَ به تجربتك الذاتية، إن في أمور الكون لعدلاً، وإن
الدهر يضطرها إلى أن تظهر للناس على حقيقتها، وإن كان يلذ لمخيلة الإنسان أن
تزينها بالألوان المموهة وتغشيها بالأستار الحاجبة، وبهذا كان الدهر أستاذنا
جميعًا.
على أني إن لم أُقر لك بأن مكتوبك الأول سبَّب لي أشد ضروب القلق والحيرة
كنت قد كتمتك بعض الحق، نعم قد كان من الثقة لي بطيب عنصرك وبما أعرفه
فيك من أصول الشرف ما كان يكفيني للتأكد من أنك لا تتسفل لارتكاب دنيئة ما
ولكني كنت أخاف عليك وأنت في هذه السن خدعة القلب وجمحات العجب المفتون
وأماني البسالة الخادعة فمما يوجب الأسف أن أَصْدَق الناس في الحب وأخلصهم له
هم كذلك أشدهم تعرضًا لمخاطر دسائسه، وأما الشبان الذين يتخذون ما عليه الناس
قدوة لهم في سيرتهم فإن قلوبهم الجامدة لا تنخدع بكذب الظواهر، وهم الذين جعلت
لهم المحبات المهيِّجة كما جعلت الخمور المتبلة للسِّكِّيرِينَ.
تراهم يبذلون من الهمة والنشاط في تحصيل الغبطة أكثر مما يلزم وهم مع
هذا في أسوأ عيش وأنكده، هؤلاء الجوَّالون في ميدان الغرام المتعاطون لدسائسه
اعتاضوا عن الحب بظله، أعني الظُّرْفَ والكياسة في معاشرة النساء، وإن خسة
عواطفهم لتدل على خلوهم من الإدراك وهم شبيهون عندي بأشجار الصفصاف
الجوفاء التي تصادف على حافة السواقي (الأنهار الصغيرة) في أنها لِتعُّفن قلوبها
لم يبق لها حياة إلا في قشورها.
إن الأمم التي لا تُجِلّ رجالها نساءها ولا نساؤها أنفسهن غير جديرة بالحرية،
يدلك على ذلك أن عصور الاستعباد وانحطاط النفوس كانت هي عصور فساد
الأخلاق والانهماك في الرذائل، فإذا زالت هيبة الدين من النفوس وانعدم إحساس
الناس بما عليهم من الفروض الكبرى رأيت الناشئين إذا أعوزهم ما يضيعون فيه
أوقاتهم يتصيدون الملاذّ السهلة، فاربأ بنفسك عن هذه الرَّدْغة [٣] فلا مقر لك فيها.
إني ربما كنت أَعْرَفَ منك بنفسك؛ لأنه يتفق كثيرًا لمن هم في سنك أن
يضلوا فيشطوا في طلب مثال من الواقع لما يتخيلونه من منتهى الكمال فيمن
يريدون أن يجعلوها مناطًا لحبهم، وهو قريب المنال حاضر بين أيديهم، أرى أنك
فوق حنقك على من غرتك نادم على أنك كنت غير صادق في محباتك، فتأملْ في
باطن ما تحفظه ذاكرتك تجدني قد أصبت المرمى فيما أقول، فإنك تعلم بوجود ذات
من أترابك تفكر فيها ولا تتكلم في شأنها، وتنكر ملامح وجهها وابتسامها وجرس
صوتها، وكل ما يتعلق بها حتى ثنيات حلتها تمام النكر، وإن مثالها الظاهر لَيسري
سريان الشعاع فوق كتابك إذا فتحته لتقرأ فيه ما صنفه الشعراء، وأنت تود لو
تشاهد معها كل ما في الكون من الجمال وتسمع جميع ما للبرية من الأغاريد، وهي
التي ينطبق عليها ما تتخيله من معنى الفضيلة وتودّ من أجلها لو تكون أفضل الفضلاء
فتلك الذات هي التي تحبها فإن لم تكن تأنس من نفسك شيئًا من هذا لم تكن حتى الآن
إلا طفلاً، ولم يَأْنِ لك أن تعتقد في نفسك أنك محب، فالحب الحقيقي هو الذي يرفع
النفس ويبعث على طلب الخير وعلى أن يقتضي المحب من نفسه لمحبوبه كل ما
يقتضيه لنفسه منه؛ لأن الحب هو إنصاف القلب.
فإذا تربصت حتى يحصل في نفسك هذا الوجدان الطاهر فإياك أن تدنس
اسمه بإجرائه على لسانك قبل حصوله وإلا ندمت فيما بعد أن لوثت شفتيك بالكذب.
وللشبان خطأ آخر في الحب وهو أنهم يظنون أنه إذا حصل بدسائس ووقائع
كالتي تُروى في القصص ازدادت لذته وكثر الابتهاج به، فليس الأمر كما يتوهمون؛
لأن في الحب من العظمة الذاتية ما يغنيه عن زخارف الخيال، إن الفلاح البار
إذا راح إلى بيته مساء بعد فراغ عمله وجلس لتناول مرقته، وأخذ يلحظ زوجته
وهي تغزل أو تخيط بجانب المصطلى، ثم يمسح رءوس أولاده غلاظ العضلات
مناديًا كلاًّ منهم باسمه وينكر في نفسه زمن ترقبه لزوجته (جنة) يوم الأحد في ظل
شجرة الدردار الكبرى في المزرعة ويراها لا تزال غضة الحسن موفورة الشباب
كان أبهج خيالاً أضعافًا كثيرة ممن حظي إلاهة من إلاهات الحب الجديدة.
الشباب هو سن الأماني والأحلام وطور الخيالات والأوهام، ثم إن كثرة
المطالعة لا ثمرة لها في معظم الأحيان إلا إفساد حكم القلب. على أن الحب في
غاية الغنى عن القصص الخرافية؛ لأنه عبارة عن تاريخ لأصح ما في فطرتنا من
ضروب الوجدان وأشدها استقلالاً، فوَيْلٌ لمن لا يعشق ويتولَّه إلا في الحلم؛ لأنه لا
يلبث أن ينكشف وهمه إذا حان وقت انتباهه.
يجب عليك قبل اهتمامك باختيار امرأة تحبها أن توجد لنفسك بين الناس مقامًا،
فإن كل عمل تعمله في سبيل تحصيل العلم ورفع شأنك في نظر نفسك ومغالبة ما
للأثرة من أنواع الميل الأعمى وبلوغ ما للإنسان من الشرف يفيد المرأة التي ستحبها،
كما يفيدك، وكن واثقًا بأن هذا لا يعدّ منك في حقها كثيرًا إذا كان يهمك أن تكون
أهلاً لإجلالها لك حفظًا لشرفك وصونًا لعرضك.
حاشية: فاتني أن أخبرك بأن (لولا) تتعلم الطب من أجل أن تقبلها جمعية
الطبيبات بلوندرة في عدادهن وكلنا نحبك. اهـ.

(المنار)
ليتأمل اللبيب هذا التذكير اللطيف بلولا التي تربت مع أميل مثل تربيته بعد
بيان مَنْ تستحق الحب، وبيان حقيقته وغرور الشبان فيه، فيالله ما هذه الحكمة في
هذه البلاغة.
((يتبع بمقال تالٍ))