للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء
(الشورى في بلاد فارس)
تحدث الناس من زمن غير قريب بأن الشاه مظفر الدين صاحب فارس ميَّال
للإصلاح، وأن هذا الميل قَوِيَ في نفسه بعد سياحته في أوربا، وكان الناس يظنون
أن العقبة الكؤود في طريق الإصلاح لتلك البلاد نفوذ العلماء والمجتهدين الذين
يعيشون في الحكومة الاستبدادية كالملوك والأمراء، واعتقادهم كغيرهم أن الإصلاح
إنما يكون على يد المهدي المنتظر، ثم نفوذ الوجهاء والكبراء الذين رسخ في
نفوسهم حب الحكومة الدسقراطية، واستطابوا ثمراتها، ولما جاءت أنباء تلك الديار
بأن العلماء والكبراء هم الذين يطلبون الإصلاح ويلحون فيه عجب الناس منهم
وأعجبوا بهم، وتبين لأهل البصيرة أن القول بوجوب الاجتهاد في الدين والعلم هو
النور الذي هدى علماء فارس إلى هذه الجادَّة القويمة، ولا غَرْو فلا هداية إلا بالعلم
الصحيح ولا علم إلا بالاجتهاد، فالمجتهد أقرب إلى الهدى وإن ضاقت دائرة اجتهاده،
والمقلد أحق بالعمى وإن اتسعت دائرة تقليده، وأما الاعتقاد بالمهدي فإنه لا يصد
عن الإصلاح إذا عقل طلابه، يقولون: لأَنْ يجدنا المهدي أقوياء صالحين خير من
أن يجدنا ضعفاء فاسدين (كما بيَّنا ذلك في كتاب الحكمة الشرعية) .
رضي الشاه بأن تكون حكومته قائمة على أساس الشورى الإسلامية، فأمر
بذلك ونزل عما كان له بمقتضى النظام القديم من الاستبداد فهنأه الملوك بذلك ما عدا
السلطان عبد الحميد وفرح عقلاء المسلمين بذلك في جميع البلاد، وكان أشدهم
سرورًا عقلاء العثمانيين، وإنني أقول الآن في هذا العمل الجليل كلمة هي أكبر من
المقالات الضافية والقصائد البليغة، وهي أن كتاب الله جعل أمر المسلمين شورى
بينهم، فالحكم الفردي الذي يُبنى على قاعدة الاستبداد هو الحكم بغير ما أنزل الله،
فلا يجوز أن يُسمى إسلاميًّا، فإذا نفذ حكم الشورى في البلاد الفارسية على وجهه
وبقيت سائر حكومات المسلمين استبدادية وجب علينا أن نقول: إنه لا يوجد في
الأرض حكومة إسلامية حقيقية إلا الحكومة الفارسية، فالواجب علينا تأييدها لئلا
يُمحى حكم القرآن من الأرض، وإنما الواجب إقامة حكمه لا حكم من يسمي نفسه
سُنيًّا أو غير سُنيّ وهو مخالف له.
***
(جامع ومدرسة دينية في ديروط)
أكبر آيات الارتقاء البينة في هذه الديار ما نراه فيها يومًا بعد يوم من بذل
المال في سبيل العلم والدين، فهو على قلته في نمو وازدياد يدل على أنه أثر لحياة
جديدة في الأُمة، ولا ارتقاء إلا بارتقاء النفوس ولا دليل على هذا الارتقاء إلا بذل
المال والوقت في سبيل المصلحة العامة، وهي سبيل الله التي دعا إليها بدعاية
الفطرة السليمة والشريعة القويمة.
هزت الأرِيحيّة في هذا العام قطب بك قرشيّ وجه مركز ديروط الوجيه،
فاختط بجانب داره في بلدة ديروط مسجدًا جامعًا ومدرسة دينية لتعليم العلوم
الأزهرية وكُتَّابًا تحضيريًّا لها، وأوقف على هذا البناء الذي يشمل ثلاثة معاهد مائة
فدان من أجود أطيانه؛ لينفق من ريعها على المسجد والكُتَّاب وحجرات الطلاب
وعلى المعلمين والمتعلمين، وشَرَطَ أن يكون التعليم فيها تابعًا للأزهر في نظامه،
إلا أنه شرط أن يُعلَّم فيه فِقْه المالكية والحنفية فقط، ولو أطلق لكان أَوْلى؛ لأن
حوادث الزمان كثيرًا ما تقضي باندراس مذهب واستبدال غيره به، وقد سبق
الواقفَ غيرُه إلى مثل هذا الشرط فقضى الزمان على ما شرط، ولو شئنا لجئنا
بالشواهد على ذلك ولكن المقام ليس بمقام البحث في مثله، وإننا نعلم أن السبب في
هذا الشرط هو إحياء المذهب الذي ينتمي إليه أكثر أهالي تلك الجهة من صعيد
مصر وهو مذهب المالكية والمذهب الرسمي لحكومة البلاد وهو مذهب الحنفية.
وقد دعا الواقف أكابر علماء الأزهر ونظارة المعارف وكثيرًا من وجهاء
القاهرة ومديرية أسيوط إلى الاحتفال بوضع الأساس لهذا البناء، فأجاب الدعوة
شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية وطائفة من الشيوخ وأمين بك سامي من قبل
نظارة المعارف، وكان رئيس الاحتفال محمود بك صادق رئيس أقلام الديوان
الخديوي مندوبًا عن الأمير، وحضره أيضًا مدير أسيوط ومحمود باشا سليمان
وكيل مجلس شورى القوانين وكثيرون، وقد سافر المدعوون من القاهرة في قطار
خاص إلى ديروط يوم الخميس لثمانٍ خَلَوْن من رجب، وكان الاحتفال في يوم
الجمعة عاشر رجب.
بُدئ الاحتفال بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم بتلاوة صحيفة الوقف، ثم
تكلم بعض من حضروا وخطبوا بما يناسب المقام، فقال أمين بك سامي كلامًا
وجيزًا مفيدًا ذكر فيه قناطر ديروط التي يتوزع منها الماء على أراضي ثلاث
مديريات، وشبه بها عمل قطب بك قرشي قائلاً ما معناه أنه يرجو أن يكون هذا العمل
ناشرًا للمعارف في أرجاء تلك البلاد كما توزع تلك القناطر الماء فتكون
ديروط معهدًا لحياة الأرواح وحياة الأرض.
وقرأ الشيخ سليمان العبد من كبار شيوخ الأزهر خطبة قال: إنه يتكلم
بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية وسائر
العلماء، وموضوع الخطبة ملخص ما قيل في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: ١٨) الآية، وشَرْح الحديث
الصحيح (من بنى لله مسجدًا ولو كمِفْحَص قَطَاة بنى الله له بيتًا في الجنة) ، ومن
ذلك تفسير المفحص والنكتة في اختياره والكلام في كنس المساجد وتنظيفها، ثم
أثنى على قطب بك قرشي الثناء الأوفى، وختم كلامه بالدعاء للسلطان
وللخديوي والثناء عليهما بالإطراء المعتاد، وتلاه الشيخ عبد العزيز
البشري بخطبة رشيقة العبارة استهلها بالشكوى من كثرة القائلين من المصريين وقلة
العاملين، وبيَّن أنه لا يرجى أن يعود إلى مصر مجدها السابق إلا إذا كثر العاملون
وانتقل من ذلك إلى الثناء على قطب بك قرشي ثم السلطان والأمير بأسلوبه الشعري،
والشيخ عبد العزيز هذا ميال إلى الأدبيات وأسمعني لنفسه شعرًا حسنًا يدل على
مستقبل أحسن منه إن شاء الله تعالى، وخطب محمد أفندي أحمد الصعيدي فتكلم
عن تأثير العلم في مدنية اليونان والرومان والعرب وأوربا واليابان، ثم انتقل من
ذلك إلى شرح عمل الواقف وإطرائه ومدح السلطان والخديوي، وكان هناك آخرون
قد أعدّوا شيئًا للخطابة فحال ضيق الوقت دون تلاوتها، وقد اقتُرح على صاحب
هذه المجلة أن يخطب فارتجل خطابًا وعى كثيرًا منه مُكاتِب المؤيد فكتبه ونشره
المؤيد، وقد تذكرت بقراءته فيه ما كنت ناسيًا منه، وبعض ما نسيه المكاتب، فأنا
أنشر هنا ملخص ذلك وهو:
إننا نحتفل اليوم بعمل يعتبر من المصالح العامة، فمن مقتضى المقام أن نقول
كلمة في المصالح العامة وكلمة في جنس هذا العمل منها وكلمة في الاحتفال به.
القيام بالمصالح العامة وبذل المال في سبيلها هو الأساس الذي بُنِيَ عليه مجد
الأمم وعزها، وبه ساد المسلمون في الزمن الماضي وبه سادت الأمم العزيزة
الحاضرة وبه تسود الأمم في كل زمان ومكان.
كثر الكلام في هذه الأيام في ضعف المسلمين وتأخر شعوبهم عن جميع شعوب
الأرض في كل شيء وكثر القول في علاج هذا الضعف، ومهما اختلف العقلاء في
طرق العلاج فهم لا يختلفون على أن ارتقاء الأمة متوقف على وجود العاملِين
للمصلحة العامة، الذين يبذلون في سبيل الأمة أموالهم وأوقاتهم بل وأرواحهم. إننا
على ضعفنا في العلم والمال والرأي وجميع مقومات الحياة لا يزال فينا من جراثيم
الحياة ما يكفي لإنعاشنا وإقالة عِثارنا إذا وُجد فينا الباذلون والعاملون للأمة، قال
بعض علماء الأجانب لعظيم من عقلائنا: إنني قلَّما ذاكرت الوطنيين في مسألة إلا
ورأيت فهمهم فيها كفهمنا، فالظاهر أنه لا فرق بيننا وبينكم إلا في شيء واحد وهو
كثرة الذين يهتمون بالمصالح العامة فينا وندرتهم فيكم.
إن من آيات عناية سلفنا بالمصالح العامة ما بقي لنا من أوقافهم الكثيرة على
أعمال البر المختلفة سيما مدارس العلم، وإن ما دَرَسَ من تلك الأوقاف وذهبت
معالمه وما عاد ملكًا للجهل بأصله هو أكثر مما بقي.
كيف لا يَسْبِق المسلمون إلى بذل المال في كل مصلحة عامة وعمل نافع للأمة
وحافظ لشرف الملة والإسلام، وقد جُعل بذل المال في سبيل الله من آيات الإيمان
بل جعله هو وبذل النفس أعظم الآيات (وههنا تلونا بعض الشواهد على ذلك من
القرآن الحكيم) فالبذل في المصالح العامة هو أفضل الأعمال وأشرفها، والباذلون
هم سادة الأمة وعظماؤها؛ لأن الأمة لا ترتقي إلا بهم لا سيما في هذا الزمان الذي
لا يقوم فيه عمل عظيم إلا بالمال، فالبذل فيه يعد بمثابة الفتوح والباذلون في
مَصَافَّ الفاتحين.
لم يدَعْ الإسلام فضيلة من الفضائل المحببة للأمم إلا حثَّ عليها، وهذا حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من أعظم ما يدعو إلى
النهوض بالأعمال التي يعم ويستمر نفعها وهو قوله: (من سنَّ سُنة حسنة فله
أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة) ، فالسنة هي الطريقة الحميدة التي يعمّ
نفعها، فإذا كان الشارع قد وضع الذين يقومون بالأعمال النافعة للأمم موضع الأئمة،
أفلا يجب أن نعرف لهم قدرهم وأن نقتدي بمثل فعلهم، ولنا أن نقول: إن مُحْيي
السُّنة بعد موتها وانطماس آثارها يعد كالذي سَنَّها لأول مرة؛ لأن مُحْيي الشيء بعد
الموت كمُوجِده من العدم، فالسابقون إلى حبس الأوقاف على إحياء العلم والدين
وغير ذلك من أعمال البِرّ التي ترقِّي الأمة في هذا الزمان يعدون من واضعي السنن
الذين لهم مثل أجر من يعمل كعملهم إلى يوم القيامة.
أكتفي بهذا القول الوجيز في المشروع من حيث هو مصلحة عامة، أما كونه
مسجدًا ومدرسة دينية فقد رأيت في بعض الجرائد انتقادًا عليه لبعض الناس يرى
صاحبه أنه كان ينبغي أن يكون مدرسة ابتدائية أهلية، فإن المساجد كثيرة والتعليم
الديني قليل الجدوى، وهذا شأن الناس عندنا اليوم ينتقدون كل خير وقلما ينتقدون
الشر، لو كان قطب بك أنشأ مسجده في شارع الدرب الأحمر بالقاهرة حيث المساجد
تزيد على حاجة السكان ومدرسته بجانب الأزهر لكان هذا الانتقاد صوابًا، ولكنه
أسس هذا المعهد العلمي في جهة ليس فيها معهد لتعليم الدين. في الوجه البحري
عدة معاهد لتعليم العلوم الدينية ووسائلها من فنون العربية تابعة للأزهر: كالجامع
الأحمدي وجامع المرسي وجامع الدسوقي (وجامع دمياط) ، وليس في الوجه
القبلي معهد لذلك، على أن الوجه القبلي أحوج؛ لأن أهله أفقر والرحلة أشق عليهم
وأعسر، فلم يبقَ إلا أن المنتقد يرى أن التعليم الديني لا حاجة إليه بالمرة، ولا
أحب أن أصف صاحب هذا الرأي بما أراه يليق به فحَسْبه ما يراه الناس من قيمة رأيه.
ما هو الأثر الذي رآه المنتقد للتعليم الابتدائي في البلاد ففضله به على التعليم
الديني؟ إننا نرى أكثر المتعلمين في المدارس الابتدائية لم يزيدوا أمتهم إلا خبالاً
وبلادهم إلا خرابًا؛ لأنهم لا هَمّ لهم إلا اللذات الحيوانية والحظوظ الشخصية،
ومهما كان حال طلاب العلوم الدينية رديئًا فإنه لا يبلغ ما هم عليه من الفساد.
التعليم الديني إذا أُدي على حقيقته تترقَّى النفوس، وتقل الجرائم والفواحش،
ويندر سلب الأموال ونهش الأعراض، ويكثر الصدق والأمانة والمودة في الناس،
قد يقال: إن هذا التعليم عندنا ناقص ليس له مثل هذه الآثار الجليلة، نعم إن التعليم
الديني عندنا ناقص ولكن الواجب علينا أن نسعى في تكميل الخير الناقص لا في
إزالته من الوجود بالمرة، ليس التعليم الديني هو الناقص وحده فينا، إن كل شيء
عندنا ناقص ولو كملنا في شيء من أمور الاجتماع لسهل علينا أن نكمل في غيره؛
لأن الكمال يمد بعضه بعضًا.
لست أعني بما قلت في التعليم الابتدائي أنه لا حاجة إليه، كيف وهو وسيلة
للرقي إلى تعليم أعلى منه لا ترتقي البلاد بدونه، وإنما أعني أن فائدته دون فائدة
التعليم الديني ومفسدته إنْ لم يجعل وسيلة للكمال أشد من مفسدة النقص في التعليم
الديني كما هو مُشاهَد، نحن في أشد الحاجة إلى تعميم التعليم الابتدائي والسعي في
تكميل نقصه بحسن التربية وجعله وسيلة لِمَا فوقه، وفى الوجه القبلي مدارس
ابتدائية كثيرة للحكومة وغيرها، وفي أبي تيج مدرسة صناعية لسعادة محمود باشا
سليمان، فغرضي مما قلت أن أبين أن عمل قطب بك في محله، فإن التعليم
الدنيوي متيسر في الوجه القبلي دون التعليم الديني الذي هو أنفع منه بل هو الذي لا
بد منه.
أما الكلام في الاحتفال بهذا العمل النافع فقد سمعت بعض الناس هنا يقولون:
إنه لا حاجة إليه ولا فائدة في مثل هذه الزينة وهذا الاحتفال بمثل هذا المشروع
الديني، وأنا أعد هذا من قصر النظر ولو بَعُدَ نظر المنتقد لَرَأَى أن تأثير هذا
الاحتفال في نفخ روح القدوة والمباراة في المصالح العامة أبلغ من تأثير الخطب
والمواعظ والشعر، فإن احتفالاً يجيب الدعوة إليه العلماء الأعلام ومندوب الأمير
والحكومة ووُجهاء الأمة ينظر إليه الناس بعين الرضا، ويُعدُّ حضور هؤلاء شهادة
فعلية بنفعه وشكرًا لمن قام به، لسان الحال فيهما أفصح من لسان المقال، وإذا كان
المحتفل ينوي باحتفاله الترغيب في مثل عمله فإنه يثاب عليه أكثر مما يثاب المرء
على العمل الصالح الخفي، وإظهار العمل لا يستلزم الرياء وحب الثناء على أن
حب الثناء في الحق لا ينافي الإخلاص في العمل.
ثم ختمنا القول بحثِّ الأغنياء على الأعمال النافعة للأمة والدعاء بإصلاح
الراعي والرعية وتوفيق الجميع إلى القيام بما فيه سعادة الأمة.
***
(أخبار نجْد)
ذكرنا من قبل ما كان من اعتداء ابن الرشيد وتنكيل ابن سعود به وبقومه،
وبعد أن قُتِلَ صار ولده متعب أميرًا مكانه، وقد كان من أمر ابن سعود بعد ذلك أن
استولى على أكثر عربان ابن الرشيد وزحف إليه حتى نزل على ماء يقال له
العدوة يبعد عن حايل (بلد ابن الرشيد) نحو ست ساعات، فاستعد متعب للحصار
وضاقت عليه الدنيا؛ لأن بلده ليس فيها من القوت ما يغنيها عما يأتيها من العراق
فتوسل بابن عون باشا شيخ الزبير بأن يوسط ابن صُباح شيخ الكويت في الصلح
بينه وبين ابن سعود فذهب شيخ الزبير بنفسه إلى الكويت على ما كان بينه وبين
ابن صباح منذ سنوات من الشَّحْناء فأكرم ابن صباح وفادته، وقبل شفاعته، وكتب
إلى ابن سعود يرغب إليه بأن يرجع عن محاصرة متعب بن الرشيد حتى يتذاكر
معه فيما ينبغي، فأجاب ابن سعود رغيبته، ولا ندري على أي شيء تم ذلك
الصلح، ولعله على ترك ابن الرشيد على ما بقي له هو وبلده وما يحيط به إلا
شيئًا قليلاً كما علم مما تقدم.
أما سير الدولة هناك فإنها بعد ما كان من فيضي باشا من إزالة سوء التفاهم
بين ابن السعود والدولة قد عينت سامي باشا متصرفًا لنجد فأقام في المدينة المنورة،
ثم ذهب إلى نجد منذ أشهر فأقام في الشيحة مع العساكر المنظمة التي هناك
(والشيحة قرية من قرى القصيم) ، وكان متعب بن الرشيد قد استقبله بالحفاوة قبل
وصوله إلى القصيم في قرية سميرة التابعة لحايل، وقدم له الهدايا، وكان له صلة
بأعوانه في المدينة، والظاهر أنه أراد أن يستعين به على ابن سعود، ويقال: إنه
هون عليه شأنه، ثم طلب المتصرف من ابن سعود أن يلاقيه فالتقيا في البكيرة من
قرى القصيم، وهي التي وقعت فيها الملحمة الفاصلة التي قتل فيها عبد العزيز بن
الرشيد. جاء ابن سعود في جيش من البدو والحضر يبلغ نحو خمسة آلاف، وقد
طلب المتصرف من ابن سعود أن يترك له القصيم وينزل هو والعسكر في قصر
بريده وقصر عنيزة، ويكون هو الحاكم للقصيم يجمع المال ويستقل بالحكم، وكان
شيوخ القصيم حاضرين هذا الاجتماع مع ابن سعود فأبوا على المتصرف ذلك،
وسأله ابن سعود هل يحمل أمرًا من الدولة بذلك فقال: لا، قال ابن سعود: إننا
خاضعون لأمر أمير المؤمنين وقد عاهدنا المشير فيضي باشا على السمع والطاعة،
وأنت تعلم أن بلادنا فقيرة لا غناء فيها لأهلها فنحن لا نرضى بأن نغيّر شيئًا مما
نحن عليه، فإذا لم يكن معك أمر من السلطان بشيء فلا نقبل لك قولاً، وإذا كان
عندك أمر من السلطان فإننا نطلع عليه، فإذا كان سهلاً علينا قبلناه وإذا كان شاقًّا
فإننا نرفع أمرنا إلى أمير المؤمنين مسترحمين في رفعه عنا، ولا نَشُكّ في أنه
يرحمنا، ولا يكلفنا ما يشق علينا ولا تحمله طبيعة بلادنا، ووافقه الشيوخ على ذلك،
وقد أثنى المتصرف على متعب بن الرشيد، ووصفه بالإخلاص للدولة، فَفَهِمَ ابن
سعود أنه يعرِّض به فاستاء وافترقا مغضبين.
ومن أخبار تلك البلاد أن أهل البادية أكثروا الاعتداء على العساكر بالاعتداء
والنهب والسرقة فلما أعياهم أمرهم خاطب المتصرف ابن سعود في حماية العسكر
من البدو، وكان ابن سعود لا يزال مغضبًا مما قابله به المتصرف من العظمة
والغطرسة ومِنْ مدح خصمه في وجهه، فأجابه: إنك أنت والعسكر ما جئتم إلا
لحمايتنا فكيف تطلبون منا أن نحميكم؟ فلما رأى المتصرف أن جميع بلاد نجدْ
خاضعة لابن سعود، وأنه لا يقدر على الإقامة هناك مع مناوأته والتكبر عليه ألان
له القول وأرسل إليه الفرس الذي أهداه إليه متعب بن الرشيد هدية وكتب إليه بأنه إذا
لم يقبل الفرس فإنه يقتله ولا يبقيه عنده، فقَبِلَه وأمر الأعراب بالكف
عن العسكر فأطاعوا وحسنت الحال، وكان ذلك قبل الصلح مع متعب.