للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد منصور الباز


الدين كل ما جاء به الرسول

حضرة الفاضل المحترم صاحب مجلة المنار:
اطلعت على المقال المندرج في الجزء السابع من المنار لحضرة محمد أفندي
توفيق تحت عنوان (الدين هو القرآن وحده)
فأدهشني العجب لما رأيته فيه من الفلسفة الخارقة التي لم يسبق لها مثال، إذ
قرر حضرته هدم دعامة من دعائم الدين، واجتث أصلاً ثبتت جذوره في قلوب جميع
المؤمنين (ثم إن الكاتب لخص المقال بنحو عشرة أسطر تلخيصًا يمكن النزاع فيه
على أنه لا حاجة إليه) ثم قال ما نصه:
ولعمري لو لم يكن الرسول مُبَيِّنًا لأحكام الله التي لم تفصل في التنزيل:
ككيفية الصلاة من ركوع وسجود وتسبيح وتهليل ومشرعًا لما لم يرد في القرآن
حكمه، وأن ما يبينه أو يشرعه واجب الاتباع - تعطلت وظيفته وكان اقتداء الصحابة
به وتعلمهم منه عبثًا وباطلاً، فقل لي بأبيك: إذا لم يكن أمر الرسول صاحب
الشرع وصاحب الوحي المعصوم من الخطأ والزلل كأمر القرآن، والكل من عند الله
فما معنى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:
٧) ومعنى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: ٩٢) ومعنى {فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: ٥٩) ومعنى {وَمَن
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} (النساء: ١٤) ومعنى
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى} (النجم: ٣) .
قل لي بإنصاف لو لم يبين الرسول كيفية الصلاة التي أمر الله بها من ركوع
وسجود أكان أحد من الصحابة يمكنه أن يؤديها على حسب رغبة الله، فيركع
الركوع المخصوص ويسجد مرتين في كل ركعة؟ ما أظن ذلك أبدًا ولا أظن
الكاتب نفسه عرف كيفية الصلاة إلا عن سنة النبي، إذ القرآن لم يبين أن يسجد
الإنسان مرتين بل أجمل الأمر وترك كيفية التفصيل للنبي، أيريد الكاتب أن
يفهم في الدين فهمًا غير ما كان يفهم رسول الله، وبذلك يكون الدين أو القرآن
(كالأستك) صالحًا لكل زمان ولا يكون جامد متحجرًا كما يقول البعض؟
أن قول الله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: ٥٩) برهان قاطع على أن سنة الرسول يُرجع إليها ككتاب الله.
وكذا قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: ٧) أدل دليل على أن أوامر الرسول ونواهيه واجبة على متبعيه، ولا
يشتبه عليه أنها نزلت لسبب، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولماذا لم
تذكر طاعة الله إلا مقرونة بطاعة الرسول؟ أكان ذلك من باب ترادف اللفظ على
المعنى الواحد، فتكون طاعة الله هي اتباع أوامر القرآن وطاعة الرسول هي أيضًا
اتباع أوامر القرآن، أم كانت طاعة الله فيما أمر به في القرآن وطاعة الرسول فيما
بينه من الأحكام التي لم ترد فيه! قل لي أي المعنيين أرجح عندك؟ لا أظن إلا الثاني
الذي لا يقبل العقل السليم غيره.
وإني واثق من أن الكاتب مقتنع بالقرآن حيث جزم بصحته، أفلا يقتنع بما
سردته له من الآيات؟.
ولو كنت أعلم أنه يقتنع بالأحاديث التي لم يستغنِ عن الاستدلال بها في مقاله
لأوردت له كثيرًا من الأحاديث الصحيحة التي تزيل عنه الشبهة كحديث (أنتم أعلم
بأمور دنياكم فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به) وحديث (ما من نبي بعثه الله
في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم
إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن
جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان
حبة خردل) وحديث (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان
على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه
من حرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله)
يقول الكاتب: إن آية القصر تفيد أن الصلاة المقصورة ركعة واحدة للمأموم،
وإني لأعجب كيف استنتج ذلك؟! لأن الآية لا تفيد ركعة ولا اثنتين ولا ثلاثًا؛ لأن
الله يقول: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ} (النساء: ١٠٢) ولفظ (سجدوا)
لا يفيد ركعة ولا غيرها.
أما ما يقوله من أن النبي كان يواظب على أعمال من العبادة كثيرة، ولم
يقل أحد بوجوبها، مما يدل على أن المواظبة على الشيء لا تقتضي وجوبه - فهو
مردود؛ لأنه بيَّن لأصحابه الواجب والمندوب، وجرى على ذلك نحو أربعمائة
ألف مليون مؤمن (كذا) من عهده إلى وقتنا هذا من غير أن يشذ منهم واحد، وإني
أخجل أن أقيم على ذلك دليلاً؛ لأن إثبات البديهيات من المشكلات، أفلا يقنع
حضرته ما أقنع أولئك الملايين.
يقول: إن النبي لم يأمر بكتابة الأحاديث في عهده كما أمر بكتابة القرآن، مما
يدل على أنه لم يرغب أن يبلغ عنه شيء من غير القرآن , وهذا أيضًا مردود؛
لأنه كما أمر بكتابة القرآن أمر كثيرًا بحفظ ما يقول ويفعل، روي عنه هذا، وقد
حفظت أحاديثه في صدور الرجال الذين حفظوا القرآن وحرصوا عليها حرصًا
شديدًا، حتى إن الواحد من أصحابه كان لا يعمل عملاً إلا ويستشهد عليه بجملة
أحاديث، وقد خلف من بعدهم رجال دَوَّنُوهَا في الكتب كما دونوا القرآن، وتحروها
رواية ودراية حتى ضرب بهم المثل في شدة التحري لسنة الرسول (راجع
مصطلح الحديث وتاريخ البخاري وغيره) وجعلوا لها مراتب يعمل بحسابها في
الأحكام حتى صار اشتباهها بأحاديث الكذابين محال (كذا) .
وما كنت أظن ولا يخطر ببالي أن حضرة الفاضل صاحب المنار يذاكر
الكاتب في هذا الموضوع، ولا يقنعه وهو ابن بجدتها ويأمره بعرض مقاله في
المنار مع خلوه من الفائدة؛ لأن هذا يعد خلق مشاكل جديدة بين المسلمين وليس هذا
مما يتناوله الاجتهاد المزعوم، ولعمري إذا كان فتح باب الاجتهاد يجر إلى ذلك
فسده بالطين واجب.
ماذا يا حضرة الفاضل تطلب من الأزهريين وغيرهم من العلماء؟ أتطلب
دليلاً منهم على أن أقوال الكاتب فاسدة، بعد ما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} (الحشر: ٧) إلخ، وهل بعد أمر الله صراحة كلام لأحد؟ وهل بعد إجماع
ملايين من العلماء علي ذلك محل للاستفهام والسؤال؟ كلا.
هذا وأرجوكم يا حضرة الرشيد المرشد سد باب مثل هذه المواضيع، ونشر
هذه العجالة التي لا أكتب بعدها أبدًا في هذا الموضوع، وفقنا الله وإياكم وجميع
المسلمين للاهتداء بهدي الكتاب المبين وسنة رسول رب العالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد منصور الباز
... ... ... ... ... ... نقيب أشراف مركز كفر صقر من طوخ
(المنار)
حذفنا من هذه المقالة ما لخص به كاتبها المقال يرد عليه، وقد أشرنا إلى ذلك
في موضعه، وحذفنا منها نحو ستة أسطر أخرى ينكر بها الكاتب ما قاله الدكتور
محمد توفيق أفندي صدقي في اختلاف الأمة في فهم الدين وإنما حذفناها لأنه لم
يلتزم فيها ما يجب في المناظرة؛ ولأنها ليس فيها شيء من القوة؛ إذ مضمونها
أن الأمة اتفقت على الشهادتين وسائر الأركان الخمسة، وليس هذا نفيًا لاختلاف
الأمة ولو كنت أجيز لنفسي مناقشة أحد من المتناظرين في أثناء المناظرة لذكرته
بالأحاديث التي نطقت بأن الأمة ستفترق وبخلاف الفقهاء والمتكلمين، وبأن الرجل
لم يقل أنهم اختلفوا في كل أصل وفرع.
أما تعجب الكاتب من عدم إقناع صاحب هذه المجلة للدكتور صدقي، ومن
حمله على كتابة رأيه في المسالة ونشره إياها فله وجه، ومن أسباب ذلك أنه لم
يتفق له أن ذاكرني في ذلك إلا وأنا مشتغل بالكتابة اشتغالاً لا مندوحة عنه، وإنني
أعلم أن من الناس من يعتقد مثل اعتقاده في ذلك، فلهذين السببين ولاعتقادي أن
الإنسان إذا كتب ما يخطر له، فإن هذه الخواطر تنتقل بالكتابة من حيز الإجمال
والإبهام إلى حيز التفصلة والجلاء، حتى إنه كثيرًا يظهر للكاتب الخطأ فيما كان
يعتقد عند كتابته له، وكنت أريد أن أبين رأيي فيما يكتب قولاً لا كتابة ولكنه اقترح
أن ينشر ذلك؛ ليعرف رأي علماء العصر فيه، فنشرناه ليكون الرد على ما فيه من
خطأ وشذوذ ردًّا على كل من يرى هذا الرأي.
وقد حدثنا بعض كبار شيوخ الأزهر وأذكياء المجاورين أن أهل الأزهر
اهتموا بذلك المقال وتحدثوا بالرد عليه، وأنهم ظنوا أن المنار ربما يتعقبهم ويرد
عليهم، فقلنا لهم: إننا لا نرد على أحد ولكننا ربما نكتب في الموضوع شيئًا بعد
انتهاء المناظرة لا نذكر فيه أحدًا من المتناظرين ولا نرد عليه، ثم بلغنا أن بعض
الأستاذين قد شرع في الكتابة بالفعل، ونحن لا نشترط على من يكتب إلا نزاهة
العبارة وسلامتها من الطعن والتهكم عملاً بأدب القرآن الحكيم {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: ٢٤) .
((يتبع بمقال تالٍ))