للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تعليم الدين للأحداث
وخطبة الجمعة في الآستانة

جاءتنا رسالة من عالم عثماني عنوانها (أهكذا يخلف محمد في أمته)
لا نستحسن نشر مثلها في شدته وإن كان حقًّا، ولكن رأينا أن نأخذ منها ما هو من أخص مباحث المنار، وهو مسألتان إحداهما طريقة تعليم الدين للأحداث
وطريقة وعظ الرجال به بتركيا في هذا العصر الذي يسمونه (الحميدي الأنور) .
ذكر الكاتب في أوائل رسالته أن بعض المستخدمين بنظارة المعارف في
الآستانة كان قد رفع تقريرًا إلى المابين يلفت فيه السلطان إلى فقرة (ونخلع ونترك
من يفجرك) الواردة في دعاء القنوت إلى وجوب حذفها من هذا الدعاء أو حذفه هو
برمته من أدعية الصلاة، وقال: إن السلطان استشار بعض بطانته في أمر هذا
التقرير، فأشار عليه بالإغضاء عنه وبيَّن له سوء عاقبة الأمر بتركه، ذلك أن
قراءة هذا الدعاء برمته في الوتر واجبة عند الحنفية والتُّرك منهم، ومن تركه عمدًا
وجبت عليه إعادة صلاته، وقال الكاتب: (إن هذا الخبر نما إلى سفط الفاتح
(سوخته لر) فسخطوا وبربروا، ونقموا وكفروا، فأشار ذلك الداهية على جلالته
بأن يصدر إرادة بمنع الجهر بمعاقرة الخمر جهرًا على برازيق الطرق والمحال
العمومية، فما أسرع ما كان ذلك مطفئًا لجمرة أصحابنا الشيوخ وداعيا لفثء حدتهم
وإرجاع ثقتهم.
ولم يكن يخطر لنا هذا الأمر ببال سيما والارتياب في الخبر مدعاة لنسيانه،
لولا كراسة تركية صغيرة تسمى (الفباي عثماني) طبعت برخصة نظارة
المعارف في مقر السلطنة ١٣٢٢، وقد حوت ما يحويه أمثالها مما يلزم للمبتدئ
تعلمه لأجل حذق القراءة. تصفحت تلك الكراسة فوجدت فيها جميع الأدعية
المأثورة حتى (رب يسر ولا تعسر) لكني لم أر مؤلفها ذكر فيها دعاء القنوت
الواجبة قراءته على مقلدي مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه والأتراك في جملتهم،
(وذكر هنا كلامًا شديدًا ثم قال) :
(وقد استعاض مؤلف الكراسة عن دعاء القنوت بهذه الفقرات (الله بردر
محمد حق رسوليدر سلطان عبد الحميد خان ثاني أفنديمز حضرتلري مقدس خلفه
سيدر، بزوم سويكيلي بادشاهمز در الله به بيغمبر يمزه بادشا همزه أطاعت أيدرز
أمر لريي طوتار نهيلرندن أجتاب أيلرز) ، ومعنى ذلك (الله واحد محمد رسوله
حقًّا سيدنا حضرة السلطان عبد الحميد خان الثاني خليفته المقدس ومليكنا المحبوب
نطيع الله ونبينا وسلطاننا ونتمسك بما أمروا به ونجتنب ما نهوا عنه)
(فعاودني عند قراءة ما تقدم الوجوم، وعجبت من هذا الارتقاء الذي شمل
جميع شؤون الأمة حتى دينها! فبعد أن كان المسلمون في أول نشأتهم يؤمرون
بالتوجه إلى الله وحده وتمييزه عما سواه بالإخلاص إليه أخذوا في هذا العصر
(عصر الترقي) يعلمون أبناءهم التوجه إلى (ثلاثة) بحيث يشركونهم في خصائص
الألوهية كي لا يفوت المسلمين التشبه بغيرهم ممن اتخذ له ثلاثة أقانيم، ويا ليتهم إذا
فعلوا ذلك قرنوا اسم الأقنومين بألقاب التبجيل وصفات التقديس كما قرنوا اسم الأقنوم
الثالث! !
هكذا أُخذ المسلمون عن أنفسهم، وصودروا في وجدانهم وحسهم، وحيل بينهم
وبين ما يشتهون من تنشئة أبنائهم. فلا يكاد الناشيء يزايل المكتب ويفلت أمثال
الكراسة المذكورة من يده حتى يتناول جريدة من جرائد أمته فيقرأ فيها في وصف
القصر (عتبه فلك مرتبه) وفي وصف المقصور (ذات قدس سمات) (ذات
فرشته سمات) أي: الذات المقدسة الشمائل أو التي شمائلها كشمائل الملائكة.
وإذا أراد أن يمتع بصره بمشاهدة حفلة صلاة الجمعة (السلاملك) رأى (كما
رأيت بعيني) عمامة شيخ الإسلام تهوي إلى بين قدمي جلالته وهو يشكر له
ويدعو.
وإذا أَمَّ المسجد لأداء فريضة الجمعة سَمِعَ حمامة المنبر المطوقة بالذهب يغرد
بصوت يستثير الطرب ويقول:
الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي أيد دين حبيبه بدوام سلطة ملوك آل
عثمان الغازي عبد الحميد خان، وأبقى شريعة نبيه ببقاء سلالة آل عثمان الغازي
عبد الحميد خان، فسبحان الذي أخذ انتقامه من عدوه بعدالة ملوك آل عثمان الغازي
عبد الحميد خان.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له منح الأمن والراحة على عباده
بمحافظة ملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان.
ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي بنى نصرة الله على عباده بإطاعة
عساكر ملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان، صلى الله عليه وعلى آله.
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها آل عثمان الغازي عبد الحميد
خان) صدق رسول الله الذي مدح في حديثه جنود المنتسبين بملوك آل عثمان
الغازي عبد الحميد خان) ، اهـ.
اضحك أيها القارئ أضحك الله سنك كأني بك وقد ارتبت في هذه الخطبة
وحسبتها من أوضاع كاتب السطور أو تماجنه، لكني أحلف لك بكل ما تكلفني
الحلف به أن هذه الخطبة قرئت مرات متعددة في (إسكدار) في جامع رأس السوق
في بني جشمه وبعض الذين يفهمون نهضوا حالاً، وانخزلوا عن الجماعة وخرجوا من
الجامع، وقرئت أيضًا في جوامع أخر وأجيز واضعها بمئة ليرة، وسمعها شيخ
الإسلام وغيره من العلماء وسكتوا.
لم يعن الشارع بجعل خطبة الجمعة والإنصات إليها من الفروض إلا لما من
حقه أن يكون لها من التأثير في نفوس المسلمين، بحيث تحفزهم لشحذ عزائمهم
وتوجيه هممهم نحو لَمَّ شعثهم وتوفير كل ما فيه رفعة شأنهم وحفظ كرامتهم بين
الأمم، وما قط قصد الشارع أن تكون خطبة الجمعة قصيدة محشوة بألقاب الإطراء
والتعظيم وارتكاب الكذب على حد قولهم (أعذب الشعر أكذبه) ولا (دورًا) أو
(مَوَّالاً) يتواخى فيه حسن الإيقاع وموافقة أصول الأنغام، وتكون للأمة بمثابة (نشيد
وطني) كما عند سائر الأمم.
إن شئت أيها القارئ الاستئناس لما نقول بما قرره العلماء رضي الله عنهم في
هذا الصدد فدونك ما قاله واحد من كبارهم، وقد عاش في أواخر القرن الثاني عشر
الهجري:
(ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم، فأما أصل
الدعاء للسلطان فقد ذكر صاحب المهذب وغيره أنه مكروه، والاختيار أنه لا بأس
به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه)
وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلاً وهو ظالم أو
يصفه الغازي وهو لم يزحف على العدو بخيل ولا ركاب، ولكن مطلق الدعاء لهم
بالصلاح لا بأس به.
وقد اتفق أن الملك الظاهر بيبرس لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة أبدع
الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان، وأطنب فيه، فلما فرغ من
صلاته أنكر عليه، وقال - مع كونه تُرْكِيًّا - ما لهذا الخطيب يقول في خطبته
السلطان السلطان، ليس شرط الخطبة هكذا. وأمر به أن يضرب بالمقارع فتشفع له
الحاضرون، هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه. فما خلص إلا بعد الجهد
الشديد، واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا (يعني محمد بك الألفي أحد
أمراء المماليك، وقد نازعته نفسه بالخروج على السلطان، فأرسل مملوكه محمد بك
أبا الذهب إلى الشام؛ للاستيلاء عليها كما فعل محمد علي باشا في إرسال ابنه إبراهيم
والتاريخ يعيد نفسه) لما صلى الجمعة في أحد جوامع مصر، وكان مغرورًا بدولته
مستبدًّا برأيه فأطنب الخطيب في مدحه، فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك
الخطيب وإهانته ونفيه عن مصر إلى بعض القرى.
فهذا وأمثاله ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله برضا الناس، فإن ذلك
موجب لسخط الله والمقت الأبدي، نسأل الله العفو. اهـ.
من أمعن نظره فيما قلناه ونقلناه يأسف لحال الأمة الإسلامية كيف أن (سادتها
وكبراءها) في العصور المتأخرة أساءوا في إدارة شئونها وتربية أبنائها واستدرجوها
في الاستكانة والاستخذاء، حتى نزعت منها روح الحرية وفقدت النعرة والحمية،
وحل محل ذلك الضعف والخمول وعدم المبالاة بحفظ الحوزة وحماية الحقيقة إلخ.