للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها

نشرت في العدد الثالث من العروة الوثقى بالعنوان الآتي [١]
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢)
أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئًا مذكورًا ثم انشق عنها عماء العدم فإذا هي
بحمية كل واحد منها كون بديع النظام قوي الأركان شديد البنيان، عليها سياج من
شدة البأس ويحيطها سورين من مَنَعَة الهم، وتخمد في ساحاتها عاصفات النوازل،
وتنحل بأيدي مدبريها عُقد المشاكل. نمت فيها أفنان العزة بعد ما ثبتت أصولها
ورسخت جذورها، وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها، ونفذت منها
الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة فاستعلت آدابها على الآداب، وسادت
أخلاقها وعاداتها على ما كان من ذلك لسابقيها ومعاصريها، وأحست مشاعر سواها
من الأمم بأن لا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورود شريعتها وصارت وهي قليلة
العدد كثيرة الساحات كأنها للعالم روح مدبر وهو لها بدن عامل.
وبعد هذا كله وَهَى بناؤها، وانتثر منظومها، وتفرقت فيها الأهواء، وانشقت
العصا، وتبدد ما كان مجتمعًا، وانحل ما كان منعقدًا، وانفصمت عرى التعاون،
وانقطعت روابط التعاضد، وانصرفت عزائم أفرادها عما يحفظ وجودها، ودار كلٌّ
في محيط شخصه المحدد بنهايات بدنه لا يلمح في مناظره بارقة من حقوقها الكلية
والجزئية، وهو في غيبة عن أن ضروريات حاجاته لا تُنَال إلا على أيدي
الملتحمين معه بلحمة الأمة، وأنه أحوج إلى شد عضدهم من تقوية ساعده، وإلي
توفير خيرهم من تنمية رزقه، وكأنه بهذه الغيبة في سبات يخيله الناظر إليه صَحْوًا،
وذبول يظنه المغرور زهوًا، وأخذ القنوط بآمال أولئك المدهوشين فأبادها وحدثت
فيهم قناعة إليهم والرضا بكل حال، ولئن تنبه خاطر للحق في خيال أحدهم أو
استفزه داع من قلبه إلى ما يكسب ملته أو يعيد لها مجدًا عَدَّه هوسًا وهذيانًا أصيب
به من ضعف في المزاج أو خلل في البنية، أو حسب أنه لو أجاب داعي الذمة لعاد
عليه بالوبال وأورده موارد الهلكة، أو لصار من أقرب الأسباب لزوال نعمته ونكد
معيشته، ويحكم لنفسه سلاسل من الجبن وأغلالاً من اليأس فتغل يداه عن العمل
وتقف قدماه عن السعي، ويحس بعد ذلك بغاية العجز عن كل ما فيه خيره وصلاحه
ويقصر نظره عن دَرك ما أتى أسلافه من قبله، وتجمد قريحته عن فهم ما قام به
أولئك الآباء الذين تركوه خليفة على ما كسبوا وقيمًا على ما أورثوه لأعقابهم، ويبلغ
هذا المرض من الأمة حدًّا يشرف بها على الهلاك ويطرحها على فراش الموت
فريسة لكل عاد وطعمة لكل طاعم.
نعم رأيت كثيرًا من الأمم لم تكن ثم كانت، وارتفعت ثم انحطت وَقَوِيَتْ ثُمَّ
ضَعُفَتْ، وَعَزَّتْ ثُمَّ ذَلَّتْ، وصحَّت ثم مرضت، ولكن أليس لكل علة دواء؟ بلى
واأسفا ما أصعب الداء وما أعز الدواء وما أقل العارفين بطرق العلاج، كيف يمكن
جمع الكلمة بعد افتراقها وهي لم تفترق إلا لأن كلاًّ عَكَفَ عَلَى شأنه... أستغفر الله
لو كان له شأن يعكف عليه لما انفصل عن أخيه وهو أشد أعضائه اتصالاً به، ولكنه
صرف لشئون غيره وهو يظنها من شئون نفسه، نعم ربما التفت كلٌّ إلى ما هو في
فطرة كل حي من ملاحظة حفظ حياته بمادة غذائه، وهو لا يدري من أي وجه
يحصلها ولا بأية طريقة يكون في أمن عليها، كيف تبعث الهمم بعد موتها وما ماتت
إلا بعد ما سكنت زمانًا غير قصير إلى ما ليس من معاليها؟ هل من السهل رد
التائه إلى الصراط المستقيم وهو يعتقد أن الفوز في سلوك سواه؟ خصوصًا بعد ما
استدبر المقصد وفي كل خطوة يظن أنه على مقربة من الحظوة؟ كيف يمكن تنبيه
المستغرق في منامه المبتهج بأحلامه وفي أذنه وقر في ملامسه خَدَر؟ هل من
صيحة تقرع قلوب الآحاد المتفرقة من أمة عظيمة تتباعد أنحاؤها وتتناءى أطرافها
وتتباين عاداتها وطبائعها؟ هل من نبأة تجمع أهواءها المتفرقة، وتوحد آراءها
المتخالفة بعد ما تراكم جهل وران غَيْن وخُيِّلَ للعقول أن كل قريب بعيد وكل سهل
وعر؟ وأيم الله إنه لشيء عسير يعيا في علاجه النطاسي ويحار فيه الحكيم البصير،
هل يمكن تعيين الدواء إلا بعد الوقوف على أصل الداء وأسبابه الأولى والعوارض
التي طرأت عليه؟ إن كان المرض في أمة فكيف يمكن الوصول إلى علله وأسبابه
إلا بعد معرفة عمرها، وما اعتراها فيه من تنقل الأحوال وتنوع الأطوار؟ أيمكن
لطبيب يعالج شخصًا بعينه أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف ما عرض له
من قبل في حياته ليكون على بينة من حقيقة المرض؟ وإلا فإن كثيرًا من الأمراض
تتولد جراثيمها في طور من أطوار العمر ثم لا تظهر إلا في طور آخر لتغلب قوة
الطبيعة على مادة المرض فلا يبدو أثرها.
كلا إنه ليصعب على الطبيب الماهر تشخيص علة لشخص واحد سنو عمره
محدودة وعوارض حياته محصورة، فكيف بمن يريد مداواة أمة طويلة الأجل وافرة
العدد؟ لهذا يندر في أجيال وجود بعض رجال يقومون بإحياء أمة أو إرجاع شرفها
ومجدها إليها، وإن كان المتشبهون بهم كثيرين، وكما أن المتطبب القاصر في
الأمراض البدنية لا يزيد علاجه المرض إلا شدة لولا مساعدة الاتفاق والصدفة، بل
ربما يفضي بالمريض إلى الموت - كذلك يكون حال الذين يقومون بتعديل أخلاق
الأمم على غير خبرة تامة بشأنها وموجب اعتلالها ووجوه العلة فيها وأنواعها، وما
يكتنف ذلك من العادات وما يوجد في أفرادها من المذاهب والاعتقادات وحوادثها
المتتابعة على اختلاف مواقعها من الأرض ومكانتها الأولى من الرفعة ودرجتها
الحالية من الضعة وتدرجها فيما بين المنزلتين، فإن أخطأ طالب إصلاحها في اكتناه
شيء مما ذكرنا تحول الدواء داء والوجود فناء، فمن له حظ من الكمال الإنساني
ولم يطمس من قلبه موضع الإلهام الإلهي لا يجرؤ على القيام بما يسمونه تربية
الأمم وإصلاح ما فسد منها، وهو يحس من نفسه أدني قصور في أداء هذا الأمر
العظيم علمًا أو عملاً، نعم يكون ذلك من محبي الفخفخة الباطلة وطلاب العيش في
ظل وظائف ليسوا من حقوقها في شيء.
ظن أقوام في هذه الأزمان أن الأمم تعالج بنشر الجرائد، وأنها تكفل إنهاض
الهمم وتنبيه الأفكار وتقويم الأخلاق، كيف يصدق هذا الظن؟ وإنا لو فرضنا أن
كتاب الجرائد لا يقصدون بما يكتبون إلا نجاح الأمم مع التنزه عن الأغراض، فبعد
ما عم الذهول واستولت الدهشة على العقول وقل القارئون والكاتبون لا تجد لها
قارئًا، ولئن وجدت القارئ فقلما تجد الفاهم، وقد يحمل ما يجده على غير ما
يراد منه لضيق في التصور أو ميل مع الهوى، فلا يكون منه إلا سوء التأثير
فيشبه غذاء لا يلائم الطبع فيزيد الضرر أضعافًا، على أن الهمة إذا كانت في درك
الهبوط فمن يستطيع تفهيمها فائدة الجرائد حتى تتجه منها الرغبات لاستطلاع ما فيها
مع قِصَر المدة وتدفق سيول الحوادث؟ إن هذا وحقك لعزيز.
ويظن أقوام آخرون أن الأمة المنبثة في أقطار واسعة من الأرض مع تفرق
أهوائها وإخلادها إلى ما دون رتبتها بدرجات لا تحصر، ورضاها بالدون من
العيش والتماس الشرف بالانتماء لمن ليس من جنسها ولا مشربها، بل لمن كان
خاضعًا لسيادتها راضخًا لأحكامها - مع هذا كله يتم شفاؤها من هذه الأمراض القاتلة
بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها، وتكون على الطراز
الجديد المعروف بأوربا حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى
عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة واجتمعت القوة، وما أبعد ما يظنون،
فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي قاهر يحمل الأمة على ما تكره أزمانًا
حتى تذوق لذته وتجني ثمرته، ثم يكون ميلها الصادق من بعد نائبًا عن سلطته في
تنفيذ ما أراد من خيرها، ويلزم له ثروة وافرة تفي بنفقات تلك المدارس وهي كثيرة.
وموضوع كلامنا في الضعف وداوئه، فهل مع الضعف سلطة تقهر وثروة تغني،
ولو كان للأمة هذان لما عدت من الساقطين.
فإن قالوا: يمكن التدريج مع الاستمرار والثبات، وافقناهم على الإمكان لولا ما
يكون من طمع الأقوياء، حتى لا يدعون لهم سبيلاً لأن يستنشقوا نسيم القوة، فأين
الزمان لنجاح تلك الوسائل البطيئة الأثر ... على أنا لو فرضنا مسالمة الدهر
ومنحت الأمة مدة من الزمان تكفي لبث تلك العلوم في بعض الأفراد والاستزادة منها
شيئًا فشيئًا، هل يصح الحكم بأن هذا التدريج يفيدها فائدة جوهرية، وأن ما يصيبه
البعض منها يهيؤه للكمال اللائق به، ويمكنه من القيام بإرشاد الباقي من أبناء أمته،
واعجبًا كيف يكون هذا، وإن الأمة في بُعْدٍ عن معرفة تلك العلوم الغريبة عنها،
وكيف بذرت بذورها، وكيف نبتت واستوت على سوقها وأينعت وأثمرت وبأي
ماء سقيت وبأي تربة غذيت؟ ولا وقوف لها على الغاية التي قصدت منها في
مناشئها ولا خبرة لها بما يترتب عليها من الثمرات، وإن وصل إليها طرف من ذلك
فإنما يكون ظاهرًا من القول لا نبأ عن الحقيقة، فهل مع هذا يصيب الظن بأن مفاجأة
بعض الأفراد بها وسوقها إلى أذهانهم المشحونة بغيرها يقوِّم من أفكارهم ويعدل من
أخلاقهم ويهديهم طرق الرشاد في إفادة إخوانهم، لعل الأقرب أن ناقلي تلك العلوم
وهم من أمة هذا شأنها مع ما ينعكس إليهم من الأوهام المألوفة فيها، وما رسخ في
نفوسهم على عهد الصبا وما يعظمونه من أمر الأمة التي تلقوا عنها علومهم -
يكونون بين أمتهم كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلا فسادًا.
ماذا يكون من أولئك الناشئين في علوم لم تكن ينابيعها من صدورهم، ولو
صدقوا في خدمة أوطانهم؟ يكون منهم ما تعطيه حالهم يؤدون ما تعلموه كما سمعوه
لا يراعون فيه النسبة بينه وبين مشارب الأمة وطباعها وما مرنت عليه من عاداتها
فيستعملونه على غير وضعه. ولبعدهم عن أصله ولهوهم بحاضره عن ماضيه
وغفلتهم عن آتيه، يظنونه على ما بلغهم هو الكمال لكل نفس، والحياة لكل روح
فيرمون من الصغير ما لا يرام إلا من الكبير، وبالعكس غير ناظرين إلا إلى صور
ما تعلموه ولا مفكرين في استعداد من يعرض عليهم، وهل يكون له من طباعهم
مكان يحمد أو يزيدها على ما بها أضعافًا. وما هذا إلا لكونهم ليسوا أربابها، وإنما
هم لها نقلة وحملة، فهؤلاء الصادقون - إلا من وفقه الله منهم بعنايته الإلهية -
يكون مثلهم كمثل والدة حنون يلذ لها غذاء فتفيض منه على ولدها وهو رضيع
ليساهمها في اللذة وسنه سن اللبان لا يقبل سواه فيسرع إليه المرض وينتهى به إلى
التلف؛ فتكون منزلتهم من الأمة منزلة الآلة المحللة يشتتون بقية الجمع ويبددون
أخريات الالتئام. إن كان الفساد أبقى للقوم بعض الروابط فهؤلاء المغرورون
يغشونهم بما يذهلهم عنها، وما قصدوا إلا خيرًا إن كانوا مخلصين ويوسعون بذلك
الخصاص (الخرْق في باب ونحوه) حتى تعود أبوابًا، ويباعدون ما بين الضفاف
حتى تصير ميادين لتداخل الأجانب تحت اسم النصحاء وعنوان المصلحين،
ويذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال وبئس المصير.
شيد العثمانيون والمصريون عددًا من المدارس على النمط الجديد، وبعثوا
بطوائف منهم إلى البلاد الغربية؛ ليحملوا إليهم ما يحتاجون له من العلوم والمعارف
والصنائع والآداب وكل ما يسمونه تمدنًا، وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها
على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني , هل انتفع المصريون والعثمانيون بما
قدموا لأنفسهم من ذلك، وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة، هل صاروا أحسن
حالاً مما كانوا عليه قبل التمسك بهذا الحبل الجديد، هل استنقذوا أنفسهم من أنياب
الفقر والفاقة؟ هل نجوا بها من ورطات ما يلجئهم إليه الأجانب بتصرفاتهم؟ هل
أحكموا الحصون وسدوا الثغور؟ هل نالوا بها من المَنَعَة ما يدفع عنهم غارة
الأعداء عليهم؟ هل بلغوا من البصر بالعواقب والتصرف في الأفكار حدًّا يميل
عزائم الطامعين عنهم؟ هل وجدت فيهم قلوب مازجتها روح الحياة الوطنية، فهي
تؤثر مصلحة البلاد على كل مصلحة وتطلبها وإن تجاوزت محيط الحياة الدنيا وإن
بادت في سبيلها خلفها وراث على شاكلتها كما كان في كثير من الأمم؟
نعم ربما يوجد بينهم أفراد يتفيهقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية وما
شاكلها، ويصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها
ووسموا أنفسهم بزعماء الحرية أو بِسِمَةٍ أخرى على حسب ما يختارون، ووقفوا
عند هذا الحد، ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا
أوضاع المباني والمساكن، وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر
الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية
وعدُّوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة؛ فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير
بلادهم، واعتاضوا عنها أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره، فأماتوا
أرباب الصنائع من قومهم، وأهلكوا العاملين في المهن لعدم اقتدارهم أن يقوموا بكل
ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة والكماليات الجديدة؛ لأن مصانعهم لم تتحول إلى
الطراز الجديد وأيديهم لم تتعود على الصنع الجديد وثروتهم لا تسع جلب الآلات
الجديدة من البلاد البعيدة، وهذا جدع لأنف الأمة يشوه وجهها ويحط بشأنها، وما
كان هذا إلا لأن تلك العلوم وضعت فيهم على غير أساسها وفجأتهم قبل أوانها ...
علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين
أطوار غيرها يكوِّنون فيها منافذ وكوًى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم
مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين
قلدوهم، واحتقار من لم يكن على مثالهم شُؤْمًا على أبناء أمتهم يذلونهم ويحقرون
أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلَّت، وإن بقي في بعض رجال الأمة من
الشمم أو النزوع إلى معالي الهمم انصبوا عليه وأرغموا من أنفه حتى يمحى أثر
الشهامة وتخمد حرارة الغيرة، ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين
وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون الأبواب، ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون
سلطتهم، ذلك بأنهم لا يعلمون فضلاً لغيرهم، ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم.
أقول ولا أخشى لومًا: لو كان في البلاد الأفغانية عدد قليل من تلك الطلائع
عندما تغلب على بعض أراضيها الإنكليز لما بارحوها أبد الآبدين، فإن نتيجة العلم
عند هؤلاء ليست إلا توطيد المسالك والركون إلى قوة مقلديهم واستقبال مشارق
فنونهم، فيبالغون في تطمين النفوس وتسكين القلوب حتى يزيلوا الوحشة التي قد
يصون بها الناس حقوقهم ويحفظون بها استقلالهم، ولهذا لو طرق الأجانب أرضًا
لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يقبلون عليهم ويعرضون أنفسهم لخدمتهم بعد
الاستبشار بقدومهم، ويكونون بطانة لهم ومواضع لثقتهم كأنما هم منهم، ويعدون
الغلبة الأجنبية في بلادهم مباركة عليهم وعلى أعقابهم.
فما الحيلة وما الوسيلة والجرائد بعيدة الفائدة ضعيفة الأثر لو صحت الضمائر
فيها؟ والعلوم الجديدة لسوء استعمالها رأينا ما رأينا من آثارها والوقت ضيق والخطب
شديد؟ أي جهوري من الأصوات يوقظ الراقدين على حشايا الغفلات؟ أي قصفة
تزعج الطباع الجامدة وتحرك الأفكار الخامدة؟ أي نفخة تبعث هذه الأرواح في
أجسادها وتحشرها إلى مواقف صلاحها وفلاحها؟ الأقطار فسيحة الجوانب، بعيدة
المنكب والمواصلات عسرة بين الشرقي والغربي والجنوبي والشمالي، الرءوس
مطرقة إلى ما تحت القدم أو منغضة إلى ما فوق السماء، ليس للأبصار جولان إلى
الأمام والخلف واليمين والشمال ولا للأسماع إصغاء ولا للنفوس رغبات. وللأهواء
تحكم وللوساوس سلطان ... ماذا يصنع المشفقون على الأمة والزمن قصير؟ ماذا
يحاولون والأخطار محدقة بهم؟ بأي سبب يتمسكون ورسل المنايا على أبوابهم؟
لا أطيل عليك بحثًا، ولا أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني
أستلفت نظرك إلى سبب يجمع الأسباب ووسيلة تحيط الوسائل، أرسل طرفك إلى
نشأة الأمة التي خملت بعد النباهة، وضعفت بعد القوة، واستُرقَّت بعد السيادة،
وضيمت بعد المنعة، وتبين أسباب نهوضها الأول حتى نتبين مضارب الخلل
وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها
وصعد بها إلى مكانة تشرف منها على رؤوس الأمم وتسوسهم، وهي في مقامها
بدقيق حكمتها - إنما هو دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم باعث
على الألفة، داع إلى المحبة، مُزَكٍّ للنفوس مطهر للقلوب من أدران الخسائس،
منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من
مباني الاجتماعات البشرية، وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع
المدنية، فإن كانت هذه شرعتها، ولها وردت وعنها صدرت فما تَراه من عارض
خَللها وهبوطها عن مكانتها، إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريًّا،
وحدوث بدع ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا
عما يرشد إليه الدين وعما أتى لأجله، وما أعدته الحكمة الإلهية له - حتى لم يبق منه
إلا أسماء تُذْكَر وعبارات تُقْرَأ، فتكون هذه المحدثات حجابًا بين الأمة وبين الحق
الذي تشعر بندائه أحيانًا بين جوانحها ... فعلاجها الناجح إنما يكون برجوعها إلى
قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية
بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق وإيقاد نيران الغيرة، وجمع الكلمة وبيع الأرواح
لشرف الأمة؛ ولأن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة،
والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته فلا يحتاج القائم بإحياء
الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا
لشؤونهم ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم، وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب
أعينهم فلا يعجزهم بعدُ أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الإنساني ... ومن طلب
إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه فقد ركب بها شططًا، وجعل النهاية
بداية، وانعكست التربية، وخلف فيها نظام الوجود؛ فينعكس عليه القصد ولا يزيد
الأمة إلا نحسًا، ولا يكسبها إلا تعسًا.
هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن
محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة
الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى
أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد، هل نسيت تاريخ
الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات وإتيان الدنايا
والمنكرات، حتى إذا جاءها الدين فوحَّدها وقوَّاها وهذَّبها ونوَّر عقولها، وقوَّم
أخلاقها، وسدَّد أحكامها؛ فسادت على العالم، وساست من تولته بسياسة العدل
والإنصاف، وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها
نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى
بلادهم طب بقراط وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون
وأرسطو، وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء
إنما كانت قوتها ومدنيتها في التمسك بأصول دينها.
وقد تكون نشأة الأمة قائمة بدعوة الملك وافتتاح الأقطار وطلب السيادة على
الأمصار، وتلك الدعوة لما تستدعيه من عظم الهمم وارتفاع النفوس عن الدنايا وبعد
الغايات وعلو المقاصد هي التي هذَّبت أخلاقهم، وقوَّمت أفكارهم، وكفتهم عن
معاطاة الرذائل وخسائس الأمور وسوافلها، ثم بعد ما مضى زمان من نشأتها أصابها
من الانحطاط ما أصابها، فبيان أسباب الخلل فيها وعلاته نفرد له فصلاً مستقلاًّ في
عدد آخر إن شاء الله، وهو الموفق للصواب.