للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أميل القرن التاسع عشر [*]
المكتوب العاشر - من أراسم إلى ولده
عن لوندرة في ١٥ فبراير سنة ١٨٦٠
لا حق لك يا عزيزي أميل في أن تكون بلا رأي سياسي، فأيما رجل يعيش في
قوم ويظهر معتزلاً لما يتعارض بينهم من المصالح غافلاً عما يتقاسم عقولهم من
المذاهب - فهو غاية في الحقارة والخسة وكان حقه أن ينشأ بين المتوحشين بل
المتوحشون يشتغلون بمصالح قبيلتهم بغيرة وحمية.
نعم، قد كان رؤساء الحكومات أكدوا للناس في الأزمان الغابرة أنهم مرسلون
من عند الله لسياستهم وتدبير شئونهم وكان عمل الرعايا على هذا الغرض قد قصر
على الطاعة المطلقة لأوامرهم فكانوا مِلكًا لولاتهم وخاصتهم كما تملك الأرض ولا
حق للأرض في أن تثور على اليد العاملة فيها. وأما الآن فلم يبقَ في البلاد المهتدية
بهدي العلم من أنصار هذا الحق الإلهي الذي يزعمه الملوك إلا النزر اليسير وقد
قضى العقل على بعض المذاهب السياسية المأخوذة من القوانين الإلهية ثم دل
التاريخ على أن السلاطين كانوا يسقطون من عروشهم ولم تكن عناية الله تأخذ
سلاحها لنصرهم وأنه كان من الميسور للأمم كل اليسر أن يستغنوا عنهم [١] .
هذا السلطان المعصوم الذي لم يكد يبقي للإنسان جراءة على ادعائه
للأشخاص في وجه عبر التجرِبة الزاجرة لا يزال يدَّعي للأوضاع البشرية فلا تكاد
أي حكومة من الحكومات تستقر حتى تدعي أنها حلت محل المحكومين في أفكارهم
وعزائمهم.
ولا يخفى أن البلاد التي وضعت حكومتها على هذا النمط يكون من عادة
شيوخ بيوتها لفرط حزمهم وبلوغهم في حد الجبن أن يعظوا شبانها بأن لا يشتغلوا
بالسياسة.
تسمع الأب منهم يقول لابنه: (يا بني آن لك أن تغتني وتتزوج وتجعل
لنفسك في الناس ذكرًا وليس من حقك الاشتغال بما وراء ذلك لوجود رجال عهد
إليهم الحاكم بمحض إرادته أن يفصلوا في جميع المسائل ويوزعوا المثوبات
والعقوبات على الناس فهم كما تقول التوراة أنفاس منخرية التي تحرق أموال
المعاندين للنظام المقرر كما تحرق السموم نبات المزارع، فالأحزم لك أن تخلي بين
الحكومة وعملها وإذا كان لا بد لك من رأي فلا بأس من أن تختار لنفسك ما يلائمها
من الآراء على شرط أن تقصره عليها؛ لأنه لا فائدة للمرء من الاشتغال بمصالح
غيره (والعاقل من يتوقى إدخال أصبعه بين الشجرة ولحائها) [٢] .
وأما الأمم الحرة فالأمور فيها تجري على ما يخالف ذلك كل المخالفة، فلا يكاد
طالب العلم فيها يملك اليسير من فصاحة المنطق حتى يمارس المناظرة في المصالح
العامة وكل فرد من أفرادها إذا أراد أن يكون شريفًا وجب عليه أن ينتمي إلى حزب
من الأحزاب وهم بعيدون كل البعد أن يعتقدوا أن في مجاهدات المعيشة السياسية
ضررًا بالمعيشة البيتية بل هم يجلون الفضائل الخاصة على نسبة اتساعها وامتدادها
في ميدان الفروض العامة ولو أن وجدان العدل كان قاصرًا على المعاملات الخاصة
لعُد من الظلم في حق عامة الناس.
إذا تكرر هذا قلت: إن جميع الأمم خلقت لتكون أحرارًا ومن العبث أن يزعم
زاعم أن منها من هي مفرطة في الطيش، وفيها من هي غالية في التحمس، ومنها
من هي غاية في الجهل، ومنها من هي متنطعة في التأنق. فقد نسي أن الوسيلة إلى
ترقية أخلاق الأمم إنما هي ترقية أوضاعها وقوانينها ولا مراء في أن هذه الأوضاع
المؤسسة على الحرية لن تنزل من السماء! وأنه من الحمق والجنون أن تنتظرها
أمة من حكامها؛ لأن جميع الحكومات المستبدة مبنية على قاعدة أن الناس عاجزون
عن سياسة أنفسهم فكيف يرضى الحكام حينئذ أن يكذبوا أنفسهم بالتخلي عنهم وقد
يرخون زمامها أحيانًا حذقًا منهم في تصريفها وحزمًا ولكنهم يعرفون عند الحاجة
كيف يرتجعون تصريف شكيمتها إلى أيديهم. ليست الحرية بجميع أنواعها مما
يعطى ويوهب بل هي مما يغنم بالجهاد والمكافحة، فشدة كفاح العقول والعزائم
وجملة إخلاص المخلصين الخاملين وتصلب من لا يستخذون للذل من أفراد الأمة -
هي التي بضرورة الأحوال نفسها تكره غاصبي حق الحرية على إرجاعه إلى
نصابه ورده إلى أربابه وما يحصل من التعذير في أثناء الجهاد لا يلبث أن يزول
وما يعقبه من الرقي دائم لا فناء له، فإن القاطع يبلى بعمله في المقطوع.
ليس من قصدي مطلقًا أن أبعث في نفسك كراهة الأمة التي خلقت للمعيشة
فيها فأنت صاحب الحكم على أهل زمانك ولكن حذار من الاحتقار لغيرك
والاستخفاف به فإن عصرنا سيشتهر في التاريخ بخطوبه ومصائبه؛ لأننا قد عملنا
في الحكومات التي تعاقبت على البلاد وهي حكومة الإصلاح والحكومة المقيدة
والجمهورية وحكومة نابليون، وليست العصور التي تغمني وتؤلمني هي التي
تسعى فيها أمة عظيمة للحصول على الحرية من خلال الحوادث، وإنما هي التي
تخلد فيها إلى الدعة من غير أن تنال حريتها.
إن لداتي من جيل بذل نفسه في سبيل الحرية وأنا أشتهي بمجامع قلبي أن
يكون الناشئون أسعد منهم حظًّا وأوفر غبطةً ولكن ينبغي لهم أن يستفيدوا من زلاتنا
وتجاربنا.
إنا قد غلونا فيما رجوناه من تصاريف الزمان، وكلما سألت نفسي عن سبب
مصائبنا خِلتني أجده في عيوب تربيتنا السياسية فأشدنا بعدًا عن الإيمان يؤمن
بالمعجزة، ذلك أنه يعتقد في تغيير أحوال الأمة بأمر من أوامر حاكم مطلق مؤقت
الحكومة أو - على الأقل - بأمر مجلس حاكم. ولقد شهدت فرنسا غير مرة تلاشي
بيوت حاكمة كانت تعتقد متانة دعائمها وزوال مقاصد لبعض الطامعين من رجالها
الذين كانوا يدعون المستقبل لأنفسهم ثم إنها لما انتصرت انتصارها العقيم القصير
المدة كان اشتغالها بتحرير نفسها واستخلاص مصايرها أقل بكثير من اشتغالها
باختيار الرجال الذين ألقى إليهم الاتفاق زمام سياستها، نعم إن شكل الحكومة
واختيار الرجال الذين يصرفون زمامها ليس مما لا يعبأ به ولكن ينبغي أن تكون
الأمة هي المنشئة لحريتها على اختلاف ضروبها.
قد مضى زمن (المسحاء) فلن يُرى بعد الآن لا في شكل حكومة منجية ولا في
صورة حكومة تأتي إلى الدنيا بالنور والهدى، فعلينا أن نخلص أنفسنا من خداع
الناس ونطهرها من وثنية الأوهام؛ لأن الأمم لا تنال حريتها باتفاق ولا بسلطة
غيبية فائقة للطبيعة [٣] ولا بالبخت فلتنظر فرنسا في نفسها تجد أن بختها هو
عزيمتها.
أنت حدث ومغترب عن بلادك فوسيلتك إلى خدمتها هي أن تنفي عن عقلك
الجهل والأوهام والأضاليل التي تبذر في الدنيا بذور الطغاة الغاشمين إذا فعلت ذلك
كنت قد أديت في سعيك إلى الحرية شيئًا من العمل والتعلم ائتمارًا بالشر لاستئصاله.
فلو لم يكن نظام تربيتنا برمته من شأنه تحرير أبناء الوطن من ملكة الاستقلال
بالفكر والإرادة لكانت فرنسا قد اهتدت الطريق إلى الحرية من زمان بعيد فإما أن
يكون هذا هو ينبوع ما أصابته من ضروب العجز وإما أن أكون مخطئًا خطأً فاحشًا.
لا حق لنا أن نعيب على الأتراك اعتقادهم بالقضاء والقدر , فنحن أثبت منهم
فيه ألف مرة؛ ذلك أننا تابعون لبخت يومنا خاضعون لمقدور سياستنا مؤدون لميثاق
الطاعة لحكومتنا حتى ولو انتقلت إلى أيدي الكفار وقد أصبح خمود الهمم وانحلال
العزائم ملاذًا يلوذ به أشدنا أنفةً وإباءً تراهم لما حل بهم من الكآبة وكسوف البال
يحولون وجوههم عما يجري بين أيديهم من الأمور كما لو كان لأي واحد من الناس
أن يقنط من أهل زمانه ومن بلاده.
إذا ظهر الشر والفساد في الأمة كان حقًّا على الإنسان ومن مقتضى عظمته أن
يجاهد في إزالة سببه وليس يكفي الرجل الصالح افتخاره أحيانًا بأن يتخيل في نفسه
عالمًا آخر يطوي فيه معتقداته ويشرف من أعاليه على أمور دهره فيحتقرها بل
عليه أيضًا أن لا يدخر سلاحًا في مكافحته.
ليست أمة من الأمم من هذا العجز في شيء فأنت تعرف كلمة (جوفينال) [٤]
فكن خيرًا منهم وأنور فكرًا.
إن ما يشكو منه جميع الناس في أزمان التدلي من خمود النفوس وأثرة التواكل
وبله الاستسلام لضرورة الأحوال منشؤه الناس كلهم أيضًا فما منهم إلا شريك في
الهلاك العام إما بسكوته وإما بامتناعه اختيارًا عن العمل على أن تلك الأزمان هي
التي يتأتَّى فيها للنفوس الأبية أن تشتد وتثبت في تيار الدمار فعلينا - إن لم نأنس
من نفوسنا كفاية في القوة - أن نستعين من سبقت لهم الشهادة في سبيل الحق ومن
ماتوا من الكتاب وهم يجاهدون الاستبداد ويعالجون عمى البصائر قبل أن يجنوا
ثمار كدهم ومن خروا من منابرهم من الخطباء مخضَّبين بدمائهم ومن حكم عليهم
من العقلاء بشاق الأعمال وشكلوا خلال القرون الماضية في سلاسل العبودية
المعنوية.
ولنتأمل في ماضينا فإنا نجد فيه من السجون المظلمة والمنافي وأنواع العذاب
والنكال ما يشهد لنا بنزاهة مقصدنا نزاهة لا تدافع.
ألا إن لواء الحرية يُظل جميع المقاومين والمكروبين والمهيضين في سبيل
تأدية ما فرض عليهم وبهذا اللواء سيكون لنا الفوز والظفر وعلى هذا الاعتقاد. أقبّلك
قبلة الوداع اهـ.